Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل بلغت سيطرة الغرب على العالم الجديد نهايتها؟

الباحث الأميركي روس داوثات يتناول ظاهرة الانحطاط اقتصادياً وتنموياً وثقافياً

انحطاط الغرب بريشة دو كيريكو (متحف الرسام)

ملخص

هل دخل الغرب مرحلة الركود الاقتصادي والتدهور الحضاري؟ ما أسباب تراجعه على الصعد السياسية والاقتصادية والروحية على رغم ازدهار مجتمعاته مادياً وتكنولوجياً وثقافياً؟ وكيف للغرب المتفوق على سائر الحضارات أن يستعيد مكانته الريادية والخروج من نفق الانهيار الصاخب؟ هل وصلت هيمنته أو سيطرته على العالم إلى نهايتها؟ وهل يمكن النظر إلى أزمته الراهنة كفجوة على طريق التقدم الذي يسلكه منذ قرون؟

يسعى الباحث الأميركي والصحافي في جريدة "النيويورك تايمز" روس داوثات، أن يجيب على الأسئلة السياسية والإقتصادية والثقافية التي تشغل الأوساط الثقافية في الغرب عموماً، في كتابٍ استثنائي لا يخلو من الدعابة عنوانه "أهلاً بالانحطاط، عندما يصبح الغرب ضحية نجاحه"، صدرت حديثاً في باريس في ترجمة فرنسية وقّعتها بيغي ساستر (منشورات لا سيته/ بيران، 2024).

 ينطلق الكتاب، الذي يتضمن تأملات نقدية في واقع الأزمة الراهنة التي يعيشها الغرب، من سمات أربعة يعتقد الكاتب أنها تدل على تدهور حضارته، وهي على التوالي الركود الاقتصادي وتراجع معدلات النمو السكاني وتآكل المؤسسات واجترار الإنجازات الثقافية، لا بل ضمورها في مجالات الفكر والفلسفة والآداب والفنون والعلوم الإنسانية.

الفكرة الناظمة للكتاب هي اعتبار داوثات أن الحضارة الغربية وصلت في 21 تموز (يوليو) عام 1969 إلى ذروة ازدهارها وتفوقها وجرأتها. إذ تمكن رجالها من السير على سطح القمر. وقد تخيّل الناس آنذاك أن البشرية انطلقت في استكشافها الفضاء إلى استعمار كواكب ومجرّات أخرى. غير أن العصر الفضائي الذي بدأ عام 1957 مع إطلاق القمر الاصطناعي "سبوتنيك" وانتهى عام 1986 مع تحطم مكوك الفضاء "تشالنجر" وموت جميع أفراد طاقمه، عكّر حال الإنسان الغربي على رغم نجاحاته في ميادين التكنولوجيا التي انعكست على مرافق الحياة كلها. فالإنسان الغربي المعاصر يحمل في جيبه العالم بأسره، بعد أن أصبح الهاتف الذكي الذي اخترعه جزءاً لا يتجزأ من حياته اليومية. فهو دليله وصلة وصله بالآخرين وبالمعارف والقدرات التقنية الهائلة.

لكن هذا الهاتف وغيره من وسائط التكنولوجيا الحديثة وذكائها الاصطناعي لم يساعد هذا الإنسان على تنمية قدراته بحيث يتابع غزو الفضاء واستعماره، على رغم جهود إيلون ماسك المضنية! فبالنسبة لداوثات، يطارد هذا الإخفاق واستسلام الإنسان له الحضارة الغربية برمّتها. ولعله كسر أسطورة التقدم المستمر وانتفاء حدود معارف الإنسان وقدراته. وما انتهاء عصر الفضاء بحسبه إلا إشارة إلى انكفاء الغرب وشعور شعوبه بالكآبة. فعلى عكس ما يعتقده بعض المدافعين عن مركزية الغرب، يرى روس داوثات أن ما تعيشه أوروبا وأميركا اليوم يذكرنا بحال الانحطاط وتدهور الحضارة أيام الإمبراطورية الرومانية أكثر منه بالحروب الدينية التي وسمت القرن السادس عشر أو النظم الشمولية التي تربعت على عرش القرن العشرين.

فما الانحطاط؟ وكيف يقاربه الصحافي والكاتب الأميركي في تحليلاته هذه؟

الغرب ضحية نفسه

 يبدأ كتاب "أهلاً بالانحطاط، عندما يصبح الغرب ضحية نجاحه" بتعريف لهذا المصطلح. فيقول لنا إن الانحطاط هو مرادف لمجتمع غني ومسالم، يعاني من هبّات عنف عدمية بسبب من ارهاقه واكتئابه وتقهقره وهُبوط حماسة شعبه ونشاطه على المستويات الصناعية والاجتماعية والفنية والأدبية. ولعل هذا المجتمع قد وقع ضحية نجاحه. وها هوذا مؤلفه بأسلوبه التحليلي الأنغلو-ساكسوني يرصد سمات هذا الانحطاط، على رغم ادعاءات كبار المؤثرين الاقتصاديين بانقلابات ستعزز النمو وتغيّر حياة الأفراد في أوروبا وأميركا.

يؤكد روس داوثات على دخول الأمم الغربية مرحلة الركود والمحدودية الاقتصادية، مستنداً إلى مؤشرات عدة كتسارع الشيخوخة وانخفاض معدل النمو السكاني، ما يعني أن المجتمعات الغربية قد أصبحت أقل إنتاجية وأكثر مديونية منذ أن استنزفت تقدمها في مجال التعليم وقضت على الأمية وزادت من القيود المفروضة على البيئة كقياس أثر انبعاثات الغازات الدفيئة واستنزاف الموارد الأولية والطاقة وكل موارد الطبيعة وظهور الأزمات المالية المختلفة والبطالة والتضخم وتكلّس النظام السياسي. ولئن كان ظهور الإنترنت وعالمها الافتراضي وشبكتها العنكبوتية ثورة مذهلة، فإن هذا التقدم الرقمي لم يغيّر بحسبه أسلوب حياة الإنسان الغربي. وإن كان ثمة تغيير، فإنه أقل من التغيير الذي أحدثه اكتشاف الكهرباء والمحركات العاملة على البخار والسكك الحديدية والماء الجاري واللقاحات والذرة.

كما توقف داوثات أمام زيادة نسبة سكان الغرب من الذين تتجاوز أعمارهم الخامسة والستين وانخفاض عدد الولادات واللجوء إلى وسائل منع الحمل، وتنامي الفردية والمثلية الجنسية، ودخول النساء سوق العمل، وعدم القدرة على تكوين الأسرة والتوجه نحو اللذة وعدم تحمل المسؤولية أو ظهور أسرة ما بعد الثورة التكنولوجية بتكوينها الأحادي الذي يحظى فيها الأطفال برعاية أحد الأبوين، ونهاية الدين، مشدداً على تحول المجتمعات الغربية إلى مجتمعات مسنّة، وبالتالي أقل نشاطاً وميلاً لتحمل الأخطار. ويرى الكاتب أن شيخوخة السكان دفعت بأوروبا وأميركا إلى اللجوء إلى الهجرة الجماعية لتعويض نقص العمالة وإلى المهدئات لتعويض الشعور بالوحدة التي خلقتها قيم الغرب الفردانية وحضارته، ملاحظاً أن المؤسسات العاملة في الدول الغربية تعمل إجمالاً بشكل سيئ، مما أدى إلى التسبب بأزمات سياسية قادت وما زالت تقود إلى الإحباط في ظل عجز القادة عن إجراء إصلاحات هيكلية.

ويقول إن الغرب قد فقد البوصلة وروح القيادة والانسجام بين سياسات القوى المؤثرة فيه. فعلى سبيل المثال لا الحصر يشير داوثات إلى أن الديمقراطية، مع نظام ميزان القوى الموروث من القرن التاسع عشر، معطلة في الولايات المتحدة الأميركية، ما يفسّر عجز الحكومات الأميركية المتعاقبة، من ديمقراطية أو جمهورية، عن إنجاز اتفاق ضريبي أو التوصل إلى حلّ مسألتي الهجرة والرعاية الصحية. كما أن الاتحاد الأوروبي يقدم بدوره مثالاً صارخاً على تدهور الغرب وانحطاط حضارته. فهو وإن كان مكوناً من أمم ودول صغيرة مرنة وديمقراطية، إلا أنه أضعف الشرعية السياسية لدوله وعرّضها لضغوطات اللوبيات المختلفة حين نقل سلطته إلى بروكسل، سائراً على خطى أسوأ ما في النظام الأميركي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وأخيراً يتناول كتاب داوثات بالشرح والتحليل سمة الاجترار الثقافي بوصفها دالة على إنهاك الحضارة الغربية وأفول نجمها الروحي، ملاحظاً أن السينما لم تعد تهتم إلا بسيّر الحياة الذاتية أو بإعادة إنتاج أفلامٍ سبق لها أن قدمتها في ثلاثينيات أو سبعينيات القرن الماضي. وإن ينسى فلا ينسى النتاج الأدبي الذي ارتد إلى نوع من الكتابة الصحافية، فلم يعد يقدم عملاً إبداعياً بحتّاً، وكذلك الهندسة المعمارية والموسيقى التي ما زالت تنتج الأنغام الشعبية ذاتها منذ ثلاثين عاماً، متوقفاً أمام ظاهرة "ليدي غاغا" و"مادونا" وميشال هويلبك وغيرهم. ويبدو أن "إعادة التدوير" هي بحسبه السمة الغالبة على الثقافة الغربية، التي لم تعد تقدم جديداً من الناحية الفنية والفكرية مشيراً إلى أن الإنترنت لا يفعل سوى قتل الإبداع والأصالة لمصلحة محتويات موحدة تنال إعجاب الجميع.

يناقش كتاب روس داوثات إذاً هذه الموضوعات وغيرها بذكاء وواقعية وفكاهة، فيقدم لقرّائه تفسيرات مقنعة لأزمة الركود الحضاري الذي يعيشه الغرب المحاط بالرفاهية والواقف في الوقت عينه في "منزلة بين المنزلتين"، فهو ليس في الجحيم ولكنه ليس أيضاً في الجنة. ولعل الكتاب المستند في معالجته لهذه الموضوعات إلى مصادر متنوعة، علمية وشعبية، يتبنى موقفاً معتدلاً ودقيقاً في تناوله تطورات الخمسين سنة الماضية من تاريخ أوروبا وأميركا. فكيف سيكون بحسبه المخرج من الصدع الذي أصاب الغرب؟ يجيب روس داوثات إن الانحطاط لا يصبح حتمياً، عندما تدرك حضارة ما، أن ليس لديها مكان آخر للذهاب إليه. فإذا لم يعد بإمكان الغرب الذهاب إلى المريخ، فأنه قادرٌ حتماً على النظر إلى السماء. ولئن كان سقوط روما قد أدى في ما مضى إلى انتصار المسيحية، فلربما تكون العودة إلى التعالي والقيم الروحية التي كانت في أصل نشأة وتكوين الحضارة الغربية هي الطريقة الوحيدة لخروج هذه الحضارة من نفق تدهور أوضاعها وأزماتها الراهنة والتي يقاربها الكتاب بأسلوب موضوعي شيّق وبلغة وعبارات واضحة.

اقرأ المزيد

المزيد من كتب