Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

جورج زيناتي توج مساره في "رحلات داخل الفلسفة الغربية"

باحث في الفكر الفلسفي العربي والعالمي وقدم ترجمات متفردة                                                

المفكر والمترجم جورج زيناتي (دار ومكتبة بيسان)

خير ما يكرم به الباحث والأديب والمترجم، سواء في حياته أو بعد مماته، هو في استذكاره بما تركه من أعمال خدمت البشرية والأجيال، لجيل معين. جورج زيناتي المفكر والأكاديمي المولود في يافا (1935-2021)، واللبناني الهوية، كانت له إسهامات خيرة في تعليم الفلسفة في الجامعة اللبنانية وكلية التربية (بيروت) إلى جانب ترجماته الوفيرة ذات الصدقية العالية والأصيلة، والتي أضافت جديداً، وأرست تقاليد في الترجمة الفلسفية صارمة. ولا أحسب فضل جورج زيناتي في ترجمته الفلسفة الغربية إلى العربية، وتقديمها إلى القراء العرب مبسطة، مجلوة لهم، وبأسلوب يطاول أفهام الفئات الوسطى منهم، بين المتخصصين والعامة، منفصلاً عن أفضال من سبقوه أو جايلوه من المفكرين المترجمين العرب، ممن نقلوا مفاهيم الغرب العلمية إلى اللغة العربية، ووصلوا مسار البحث العلمي الغربي الحديث، بأبحاث العرب الأكاديمية.

بالعودة إلى كتاب جورج زيناتي الأكاديمي "رحلات داخل الفلسفة الغربية" الصادر حديثاً عن دار بيسان- بيروت، حديثًا، فهو يتألف من ثلاثة أقسام: إيديولوجيات، ومنهجيات، والحضارة الغربية والفلسفة، وكل منها يتفرع إلى فصول. وإن كان المجال لا يسمح بتناول كل فصل على حدة، فإنه من المفيد الإشارة في الكتاب إلى أهم انشغالات المترجم والكاتب. ففي القسم الأول إضاءة مستفيضة وفق ما دعاه الكاتب "الرشدية اللاتينية" قاصداً بها التأثير الكبير بل الحاسم الذي تركته فلسفة "ابن رشد" (1126-1198) المولود في قرطبة من مدن الأندلس على الفكر اللاهوتي الغربي، إذ انقسم  المفكرون، في القرن الثالث عشر إلى قسمين: الأول، ويدعو إلى جعل الفلسفة خادمة للاهوت، وفقاً لشعار أطلقه القديس أنسيلم أسقف كانتربري، بما يعني تسخير كل العلوم المنطقية والعقلية لتفسير الدين المسيحي.

الإعتصام بالعقل

أما القسم الثاني فيدعو إلى الاعتصام بالعقل والاقتداء بما رسمه المناطقة اليونانيون، منذ أرسطو وأفلاطون، وما ترجمه عنهما ابن رشد إلى العربية من شروح، مبيناً فيها رجاحة العقل في الحكم على أمور النقل (الدين). وبالتالي، شكل هذا الرجحان في الفلسفة الرشدية، في أوساط الأكاديميين الغربيين، في كل من إيطاليا، وفرنسا، وإسبانيا، على ما يحلل جورج زيناتي، عاملاً في الانتصار على الفكر اللاهوتي المهيمن في حينه. وأياً يكن ناقل فلسفة ابن رشد إلى اللغات الأوروبية، فإن الاستنتاج الذي انتهى إليه زيناتي بالغ الدلالة، إذ اعتبر أن حاجة الغرب في القرنين الثالث عشر والرابع عشر، إلى التحرر من الفكر اللاهوتي (المتشدد والتكفيري) هو ما استدعى الاستعانة بالفلسفة الرشدية المؤمنة بقدرة العقل الإنساني وحرية قراره وصوابيته واستقلاله عن سائر القوى الاجتماعية التقليدية.

وبناء على ذلك، يجزم جورج زيناتي بأن ولادة عصر النهضة الأوروبية كانت رهناً بنمو الفكر العقلاني والنزعة الفردية اللذين أرساهما ابن رشد في الفكر الغربي منذ القرن الرابع عشر.

وفي فصل ثان يتناول زيناتي مسألة "النفعية" في فلسفة جون ستيوارت ميل، الإنجليزي الذي استمدها بدوره من جيريمي بنثام ذي النزعة الحسية والفردية العالية، باعتبارها إحدى أهم المسلمات الفكرية ليس في الذهنية الأوروبية فحسب، بل في تكوين شخصية الفرد في المجتمع الغربي الحديث. وإذ يتعمق جون ستيوارت ميل في مبدأ المنفعة، يسعى إلى إدخال بعض العناصر أو القيم المسيحية عليها، وليصالحها مع الفضيلة والتعاطف مع الآخر، والترفع عن اللذة، وعدم نكران الألم وغيرها. لكنّ المفكر جورج زيناتي، ينكر أن تكون اللذة معياراً صالحاً لقياس صلاح الفرد أو المجتمع، واعتبر أن المنفعة واللذة اللتين ارتأى الفلاسفة الإنجليز، أوائل القرن التاسع عشر رفعهما إلى مقام الغايات الكبرى، ونسجت بخيوطهما مصالح المجتمع الإنجليزي في عز ازدهاره الرأسمالي، هما مجلبتا آلام فئة من الناس لصالح أخرى. وأن التربية الجيدة وخلق المؤسسات الاجتماعية، "كفيلان بأن يزيلا الهوة القائمة بين أنانية الفرد والأخلاق، بين منفعته ومصلحة الجموع" (ص:81).

ولم يكتف خصوم النفعية بوضع الحدود القاصرة لها، وإنما عارضها البعض بشدة، مثل جون رسكين، وتوماس كارلايل، معتبرين أن العالم "معبد صوفي" وليس مستودع بضاعة، وأن تاريخ العالم الحقيقي هو للنخبة وليس لمظاهر الوجود الخارجية.

منهجية علمية

لعل هذا القدر العالي لدى زيناتي، من تبسيط المفاهيم الفلسفية الشديدة التعقيد الماثل في مباحثه، وتقريبها من أفهام القراء العاديين، أو المتوسطي المعرفة، ورفدها بالأمثلة والشواهد الدالة على صواب ما يعرضه، واختيار الأنسب والأدق من المسائل التي انشغل بها الغرب، وإيجاد القواسم المشتركة بينها وبين المشرق العربي، لهي من السمات الدالة على الباحث الموضوعي وصاحب المنهجية العلمية والعارف باللغات الأجنبية ومحمولاتها الفكرية والفلسفية على مدار الأزمنة معرفة عميقة. أما خير السمات، فهي القدرة على استخلاص العبر من الموجات الفكرية الغالبة، في الغرب، بغية إفادة الجمهور الشرقي العربي منها والسعي لتكوين فكر عربي عقلاني متوازن وعصري، يكون قادراً على جبه التحديات الكبرى، فكر أصيل ومتصالح مع التراث الفكري العربي المستنير، وهو وفير، بحسب كاتبنا زيناتي.

في القسم الثاني من الكتاب، بعنوان "منهجيات"، يعرض الكاتب لمكون بالغ الأهمية في فكره، بل في الآلية المنطقية التي يقنع بها قراءه، وجمهوره؛ وإذ يشرح للقارئ مفهوم التأمل، بما يعنيه لدى كل من الفلاسفة اليونانيين، ولدى ديكارت، وفيكو، وغيرهم. فهو يعتبر أن الفكر الغربي أمكن له أن يستخرج منه منهجية على قدر عال من الموضوعية، سوف يعتمدها كل ذي فلسفة جديدة، نظير الفينومينولوجيا، والتيارات الوضعية، والفلسفة الوجودية وغيرها. بيد أنه يسارع إلى تحذير القراء العرب من نقل النماذج الفكرية والعلوم الإنسانية والمنهجيات الغربية، من دون أن يأخذوا في حسبانهم الخلفية الاجتماعية التي يفترض أن تتلقف هذه النماذج وفلسفاتها. وإنما تغيير الواقع العربي يكون بإنتاج العلم، "لا أن تكتفي باستهلاكه كما يصلنا" (ص:136)

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ولو اكتفينا بمحض الإشارة إلى المسائل الأخرى التي انطوى عليها كتابه الأخير، الصادر له قبل وفاته، من مثل "الفلسفة الغربية كمؤشر للمشروع الحضاري" و"المدلول الحضاري لفلسفة هوبز السياسية" و"جوهر الحضارة الغربية" وغيرها، ونظرنا في المنشور الفلسفي الغربي الواسع، لاتضحت لنا سعة اطلاعه على الفلسفة الغربية الحديثة، وعلى نظيرتها الفلسفة العربية، إلى رؤية فكرية موكول استخلاصها إلى القارئ الدرب، هي أقرب إلى الفكر التنويري النهضوي والإنساني منه إلى الفكر الأيديولوجي.

إذاً، للكاتب جورج زيناتي الراحل عديد من الأعمال ذات الطابع الفكري والفلسفي، منها: الفلسفة في مسارها، الحرية والعنف، والظمأ الأبدي. هذا من دون أن ألتفت إلى الترجمات الفلسفية الكثيرة التي أنجزها، بالتوازي مع عمله الأكاديمي، إلى العربية، ومنها: "انفعالات النفس" لديكارت، و"الذاكرة، التاريخ، والنسيان" لبول ريكور، و"الذات عينها كآخر"، لبول ريكور (نال عنه جائزة الشيخ زايد للترجمة)، و"صراع التأويلات" لريكور أيضاً، و"الفلسفة الأخلاقية" لمونيك كانتو-سبربر وروين أوجيني.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة