Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الأسعار في لندن مبالغ فيها وهي باهتة ومملة: ما الغرض منها إذاً؟

خلال عصر "بريطانيا الرائعة" كانت العاصمة المكان المناسب الأشهر للإقامة أما اليوم فيتركها الناس بحثا عن كلف أقل

فجأة لا أحد يريد أن يعيش في العاصمة بعد الآن – هل يمكن للندن أن تستعيد سحرها؟ (آي ستوك)

ملخص

ما السبب الذي جعل من لندن مدينة يتحاشاها الناس؟ وما الذي يتعين على العاصمة القيام به لتنافس المدن الأخرى؟

كان أي شخص يملك عقلاً مبدعاً أو روحاً مغامرة أو ميلاً إلى ريادة الأعمال ونشأ في بلفاست في أواخر تسعينيات القرن الـ20 ومطلع العقد الأول من القرن الـ21 يضع نصب عينيه طموحاً واحداً: الانتقال إلى لندن. فلندن كانت تجسد المكان الذي ستبدأ فيه حياتنا، إذ كانت حاضنة دولية واسعة للأفكار الجيدة.

كنا نستطيع أن نستلهم من الأجيال الموهوبة التي سبقتنا، وأن يحفزنا تأثير أشخاص يعيشون في بلدان أخرى علينا، وكنا بالتأكيد نستطيع أن نجد أشخاصاً يملكون المال الكفيل بتحقيق الأهداف.

اليوم، تضم لندن أشخاصاً كثراً من أصحاب الثروات. لكنها لم تعد موئلاً للتطورات البارزة. فهي تبدو باهتة ومملة وتُعَد أسعارها مبالغاً فيها. لماذا؟ لأن لندن دفعت بعيداً منها أصحاب الأفكار والآمال والأحلام التي جعلت منها يوماً مكاناً مثيراً.

اليوم، يعيش أكثر الفنانين موهبة ممن أعرفهم في ليفربول، وهي مدينة رائعة تأتي في المرتبة الثانية بعد لندن على صعيد عدد المعارض والمتاحف، لكن الأهم من ذلك من منظور المبدعين أنها المكان الذي يمكنهم فيه استئجار منازلهم أو استوديوهاتهم أو المساحات الخاصة بأعمالهم الناشئة بأسعار تقل بنسبة 64 في المئة عن تلك المعروضة في لندن.

في نهاية العام الماضي، صنفت مجلة "تايم آوت" ذا بالتيك ترايانغل في ليفربول كأروع حي في المملكة المتحدة، وهذا ليس بمفاجأة، لأن الأشخاص الرائعين يمكنهم تحمل تكاليف الإقامة هناك.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

افتتح "سوهو هاوس"، الذي كان ذات يوم معقلاً للإبداع المموَّل في لندن، فرعه في مانشستر في "استوديوهات غرناطة" القديمة هذا العام – الأمر الذي سيسعد عدداً لا يُحصَى من أصدقائي من كتّاب السيناريوهات وأصحاب المحتوى الذين هجروا لندن وتوجهوا شمالاً في السنوات الأخيرة، بعدما أغراهم وفر بنسبة 30 في المئة في تكاليف معيشتهم قدّمه مكان يقع على بعد ساعتين فقط من العاصمة.

يختار رواد الأعمال في مجال الطهو الذين أعرفهم غلاسكو، مدينتي الجامعية القديمة، حيث لا يزال بإمكان المرء استئجار شقة بغرفة نوم واحدة في مبنى سكني قديم رائع في ساوث سايد مقابل 795 جنيهاً استرلينياً (ألف و80 دولاراً) في الشهر.

والآن أصبح الحيان المخصصان سابقاً للسكن الطلابي الرخيص، شولاندز وفينيستون، وجهتين رائعتين مليئتين بالمطاعم، ومع ذلك لا تتجاوز تكلفة المعيشة (بما في ذلك الإيجار) نصف ما هي عليه في لندن. يبدو الأمر وكأن لندن تنسى أن الأشخاص الذين لا يستطيعون العيش في شكل مريح لا يمكنهم إنشاء شركات، ولا يمكنهم إنتاج أعمال فنية أو موسيقية، ولا يمكنهم العمل لمساعدة مجتمعهم. وحيث يذهب المبدعون والفنانون، تتبعهم الأعمال والأموال – لذلك فالعيش في شكل مريح مهم حقاً.

بالنسبة إلى الدكتورة جوردانا رامالو، الأستاذة المشاركة في التخطيط التنموي بغرض التنوع في وحدة بارتليت للتخطيط التنموي التابعة لكلية لندن الجامعية، يتجلى الطابع المتغير للندن أكثر في احتضار الحياة الليلية: المدينة التي كانت ذات يوم تعمل على مدار 24 ساعة تصبح الآن باهتة ومملة.

"انتقلتُ إلى هنا عام 2008، وكثير مما شعرت به جعل المدينة خاصة في ما يتعلق بالفنون والمساحات الإبداعية، لكن على مدى السنوات الخمس إلى العشر الماضية، رأينا الأماكن تغلق أبوابها، ومجموعات المجتمعات الصغيرة تعاني". لقد انخفض عدد النوادي الليلية في المدينة بأكثر من النصف في السنوات العشر الماضية، وتأثرت الأماكن المخصصة لمجتمع الميم في شكل خاص.

يلقي معظم علماء الاجتماع والمخططين الحضريين باللوم على الحكومات المحافظة المتعاقبة، التي أوقفت في شكل منهجي تمويل الفنون والمجالس المحلية ومجموعات المجتمعات الصغيرة، واسترضت النخب الثرية الدولية القادرة على الاستثمار في مساحات عقارية أُقِيمت حديثاً في لندن... إلى جانب بريكست الذي جلب أزمة إضافية ومستمرة على صعيد التجارة والمواهب، والجائحة التي فاقمت خيبة الأمل من العاصمة.

الأستاذ رولاند أتكينسون عالم اجتماع حضري في جامعة شيفيلد، يرسم كتابه، "المدينة العالمية: كيف استولى على لندن الأغنياء جداً"، تحوّل لندن "من رائعة، إلى 'بريطانيا الرائعة'، إلى إنجاز أولمبي ذروي، إلى ثقافة الهيب [مواكبة العصر على مختلف الصعد]، ثم إلى مدينة مرتبطة أكثر من أي شيء آخر بالأثرياء".

ويوضح الأستاذ أتكينسون قائلاً: "بشرت الأزمة المالية العالمية في الفترة 2007-2008 بمستوى جديد من التساهل تجاه الأثرياء، مع التخفيضات الضريبية، والتيسير الكمي، وتضخم أسعار الأصول، وخفض معدلات الفائدة، وكلها تدابير تحفز الأثرياء على ضخ الأموال في المدن التي بدت رهانات آمنة في عالم غير مستقر. لقد فقدنا الرؤية حول ماهية المدن – كأماكن يعيش فيها الناس ويزدهرون، حيث يُنشَأ اقتصاد المدينة لتلبية حاجات سكانها، بدلاً من أن تكون ملعباً سحرياً للأثرياء".

لسنوات عدة، عندما كان الناس يشتكون من ارتفاع تكاليف المعيشة في لندن، كان ردي: "تجاوزوا الأمر، لأنكم تقيمون في واحدة من أعظم المدن في العالم".

بدت تكاليف المعيشة المرتفعة ثمناً معقولاً لدفع ثمن النجاح... وثمن احتلال مكانة متقدمة في المشهد المذهل الذي كان يحدث بالقرب من المرء. لكن عام 2018، أدركتُ أن المعاناة مالياً من أجل البقاء في المدينة كانت تبطل إبداعي بدلاً من أن ترعاه. أخرجتني الأسعار المرتفعة من بريكستون، ثم من ستوك نيوينغتون، ثم من هارينغي، ثم من والثامستو. عشتُ في المدينة لمدة 13 سنة وغيرتُ منزلي كل عام تقريباً، ويرجع ذلك أساساً إلى ارتفاع الإيجار الذي وجب عليّ دفعه.

مع الاعتذار لأصدقائي الكثيرين (الطهاة ومنتجي الموسيقى والأطباء والأكاديميين الناجحين جميعاً) الذين يعيشون الآن في ليتونستون، اتخذت قراري في ليتونستون وانتقلت إلى مارغيت، حيث تمكنت أخيراً من شراء شقة في مقابل 129 ألف جنيه، والحصول على قرض عقاري، وتنفس الصعداء.

كان الانتقال إلى لندن للعمل في مجلة رجالية في منتصف عام 2000 أحد أفضل الخطوات المهنية في حياتي؛ كذلك كانت مغادرة لندن عام 2018. في مارغيت، يمكن للناس تحمل تكاليف أحلامهم – هكذا شرحت الأمر للمحررين والزملاء الصحافيين المرتبكين. قبل ست سنوات، تطلّب قراري بمغادرة لندن بعض التفسير. اليوم، يفهم الجميع الأمر.

يمكن للندن بسهولة أن تخسر عدداً قليلاً منا، بالتأكيد، لكن لندن لا تستطيع أن تفقد جاذبيتها، وهذا ما يحدث أمام أعيننا

بصفتي مراسلة دولية للسفر والثقافة، أحكم على المدينة من خلال حسن معاملتها لشبابها (هم يبنون العالم الذي يتعين علينا جميعاً العيش فيه)، ومجموعات الأقليات والأشخاص الأكثر ضعفاً فيها. أجد أن هذه مؤشرات أفضل لجو المدينة ومسارها من ثروتها... وهذا قادني إلى عمل الأستاذ كولين ماكفرلين، المحاضر في الجغرافيا الحضرية في جامعة دورهام.

يقول: "نحن جميعاً على دراية بتصنيفات 'المدن الأكثر ملاءمة للعيش'، التي تميل إلى تقييم مقاييس مثل السلامة وفرص العمل والإسكان والنقل، لكن ثمة اصطناع في ذلك والسبب، في الواقع، هو أن كل شخص يختبر المدينة في شكل مختلف، اعتماداً على نوعه الجنسي وعرقه وعمره وثروته. قياساً على المستوى الاقتصادي، كان أداء لندن جيداً للغاية في العقود الثلاثة الماضية، على رغم عدم المساواة. لكنني مهتم أكثر بكيفية رعاية لندن لناسها".

كتاب الأستاذ ماكفرلين الجديد، "النفايات والمدينة: أزمة الصرف الصحي والحق في الحياة المدينية"، ينظر على وجه التحديد في الصرف الصحي كعلامة على الرضا عن الذات في مدن مثل لندن. "هناك بعض الأحياء في لندن – مثل تاور هامليتس حيث لا تتوافر أي مراحيض عامة تقريباً. هذا له أثر كبير في التجربة اليومية لسكان لندن".

ويشير الأستاذ ماكفارلين إلى أن هذا النقص في المواد الأساسية له عواقب وخيمة مثل عدم تشجيع كبار السن وأولئك الذين يعانون من أمراض معينة على الخروج في الهواء الطلق، فضلاً عن تعريض الأشخاص الضعفاء إلى خطر الجريمة وإبعاد السائقين العاملين في توصيل الطلبيات عن العمل في مجالهم. لا تستطيع لندن تحمل رضا عن الذات كهذا، لأن المدن تتنافس دولياً على التجارة والمواهب والعاملين والاستثمار، وفي الوقت الحالي، تخسر لندن أمام غلاسكو وبرمنغهام ومانشستر وبريستول... وحتى لشبونة وباريس ومدريد.

قيل بالفعل الكثير حول مغادرة "المبدعين" لندن، وهذا صحيح، لكن كلمة "مبدع" تشوهها الغطرسة، وليست كافية حقاً لهذه المهمة. هي تشير إلى أن كل ما تخسره لندن هو عدد قليل من مؤلفي الموسيقى المثيرة للشجن والممثلين المنغمسين في الملذات، وربما إحدى الشاحنات التي تنقل مأكولات التاكو الخضرية أو اثنتين، وكتّاب انتهازيين مثلي.

يمكن للندن بسهولة أن تخسر عدداً قليلاً منا، بالتأكيد، لكن لندن لا تستطيع أن تفقد جاذبيتها، وهذا ما يحدث أمام أعيننا. أود أن أقول إن إبلاغ بورصة لندن أخيراً عن انخفاض بنسبة 60 في المئة في عديد الشركات المدرجة منذ تسعينيات القرن العشرين ليس مصادفة – ذلك أن التسعينيات كانت الوقت الذي ازدهرت فيه "بريطانيا الرائعة" على قدم وساق في العاصمة. حيث يزدهر المبدعون، يتبعهم المال. الأشياء كلها مترابطة.

تُبعِد لندن أيضاً الأشخاص ذوي القلوب الكبيرة: لم يعد بإمكان المهنيين الطبيين تحمل تكاليف العيش بالقرب من المستشفيات التي يعملون فيها، وتُخرِج الأسعار المرتفعة من لندن المعلمين وقادة المجتمع من المجتمعات الصغيرة نفسها التي يعملون بلا كلل لتحسينها، وكذلك العاملين الدوليين الذين يسافرون إلى لندن للعمل بجد في قطاعات الخدمات من أجل حياة أفضل لهم ولعائلاتهم. الأشخاص الذين لديهم أفكار كبيرة وأهداف كبيرة وأحلام كبيرة هم الأشخاص الذين يجعلون لندن تنبض. وعندما يتوقف القلب عن النبض، نعلم جميعاً ما سيحدث بعد ذلك.

 

 


 

© The Independent

اقرأ المزيد