Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

عندما تعبر سيرة الكاتبة حدود الذات إلى العالم الرحب

لنا عبد الرحمن تنفذ في "ذاكرة الوصال" إلى الطبقات الأعمق من الحياة الشخصية والعامة

السرد الذاتي بريشة أوجيني جيهانو (صفحة الرسامة - فيسبوك)

ملخص

تعتمد الكاتبة لنا عبد الرحمن في كتابها "ذاكرة الوصال- سيرة متأملة في الحياة" أسلوباً خاصاً في كتابة سيرة ذاتية، تشمل المسارات الحياتية والأدبية والثقافية. وقد انطلقت في رحلة تأملية من لحظات تشبثت بالذاكرة، نحو فضاءات تتجاوز حدود الذات، إلى عوالم أكثر اتساعاً.

نظراً إلى كون السيرة الأدبية تمثل النوع الأكثر مرونة، استطاع الكتّاب أن يسلكوا طرقاً متنوعة، في سردها، فانصرف بعضهم عن الارتكاز إلى الهم الخاص، واكتفوا بحضورهم كظل داخل السرد، أو كنقطة انطلاق، سريعاً ما يعبرونها إلى الهم العام، وإلى قضايا أكثر شمولية. وهذا ما قامت به الكاتبة لنا عبد الرحمن في كتابها "ذاكرة الوصال- سيرةُ متأمِلةٍ في الحياة" (دار العين)، إذ انطلقت في رحلة تأملية من لحظاتٍ تشبثت بالذاكرة، نحو فضاءات تتجاوز حدود الذات، إلى عوالم أكثر اتساعاً.

أعلنت الكاتبة منذ بداية السرد، غياب منطق التسلسل، وانهيار حدود الزمن، في سيرة حرة، تتبعت خلالها شذرات من تاريخ دوَّنته الحواس، وصنعت أحداثه روائح وأصداء، وصور ومذاقات. فبلغت طفولتها عبر ذاكرة شميَّة، مستدعية روائح زهور الغاردينيا، التي كانت الجدة تزرعها في شرفة منزل، دفعت الحرب والقذائف المتساقطة بأهله إلى مغادرته، تاركين الزهور وحيدة، في تجربة أولى للفقد، تدل في الوقت ذاته على نوع من الخيانة، وفق عقل طفلة، لم تع بعد منطق الحرب. كذلك أمسكت بنوع آخر من الرائحة، ذاك الذي يرتبط بالشخوص، فيمنحهم بصمة متفردة، لا تتشابه ولا تتكرر. وأبرزت أثر الذاكرة الشميّة في إذكاء الحنين، عبر التنقيب في أزمنة بعيدة، وأفشاه البوح بمحاولاتها المتكررة لزراعة الغاردينيا، لاستعادة ما انقضى، لكنه استمر حاضراً بين أروقة الذاكرة. ومن حدود ذاتها انطلقت الكاتبة إلى خارجها، فاستدعت حمولات معرفية عن الروائح. وأبرزت تورط الأدب بها، حدَّ أن اختارها كثير من الكتاب عنواناً لأعمالهم، مثل "رائحة الغوافة" لماركيز، "رائحة الورد وأنوف لا تشم" لإحسان عبد القدوس، "رائحة الخبز" لأحمد الخميسي، و"رائحة القرفة" لسمر يزبك وغيرها.

بين الذات والعالم

وكما أضاءت صلة الرائحة بالحنين، حفرت مزيداً من طبقات الذاكرة، التي تتشارك عبرها حواس أخرى، فأذكت ذلك الحنين، إلى موسيقى وأغنيات، وماض نسج فيه الراديو علاقات دافئة وحميمة مع المستمعين، واكتسى بوهج أغاني فيروز؛ "الصاخبة بالحب والانتظار". واصلت الكاتبة تجوالها بين الماضي والحاضر، وبين ذاتها والعالم، وبين الخاص والعام. تهاجمها رائحة الصنوبر العائدة من طفولة بعيدة، حين كانت تحملها نسمات قادمة من الغابة، فتدفعها لتأمل حاضر تتصارع فيه الكتابة والأمومة. يلح عليها موال قديم كان يردده مغني الحي، "احرقي الرسايل يا نار، ما أريد منهم تذكار"، فيدفعها لتأمل ما لحق بالرسائل، لا سيما الأدبية، بعد تحول الوسيط من الورق إلى الفضاءات الالكترونية. وتستدعي نماذج من الرسائل، في بعض النصوص الأدبية، ورسائل أخرى للمشاهير. وتعبر من تجربتها الذاتية في الطهو، إلى الطعام كمكون رئيس للثقافات، وكنوع من الفنون "الفن الثامن"، ووسيلة عالمية للتعبير عن المحبة، ولتحقيق السعادة، وإرضاء الشغف.

ومن ذكرى جارة فطنة، تتجاوز بالحيلة حرج عدم تشابه فناجين تقدمها لضيوفها، ينفتح النص على حكايات أخرى، توثق صلات بين الفنجان والتاريخ، والتقاليد والثقافات والحروب. ويبرز صلات أخرى بين الأكواب، والسمات النفسية، والطبقة الاجتماعية. ويوثق طرائف ومفارقات قاد عبرها كوب؛ إلى اكتشاف جندي ألماني مندس، بين صفوف الجيش الإنجليزي. وقَلب كوب آخر "مدثر بالفراء"، حياة فنانة سويسرية (ميريت أوبنهايم). كذلك كانت إحدى صفحات السوشيال ميديا المهتمة بالسحر، محفزاً دفع الكاتبة إلى بلوغ العصور الوسطى في أوروبا، ورصد ما شاع خلالها، من إعدام الساحرات، اعتقاداً في كونهن سبباً لكل البلايا، حتى زيادة برودة الطقس! وهذا ما جعل من تهمة السحر مدخلاً لإزهاق أرواح نسوة بريئات، لم يقترفن ذنباً سوى الفقر، الأمر الذي كان سبباً في شعور أجيال متعاقبة في الغرب، بالأسى والأسف، تأملت الكاتبة انعكاساته في قيامهم بتشييد نصب تذكاري في مدينة فاردو في النرويج، إضافة إلى متحف يوجد فيه واحد وتسعون مصباحاً، يحتوي على إحدى وتسعين نافذة صغيرة، ترمز لإحدى وتسعين امرأة تم إعدامهن. ورصدت عبد الرحمن انجذاب الإنجليز للعوالم السحرية الغامضة، الذي بدا عبر الأدب، وكذلك عبر تأثرهم بسلسلة روايات "هاري بوتر" للكاتبة ج. ك. رولينغ، حدَّ قيام أحد المستثمرين بتشييد كوخ مستوحى من كوخ الحارس "هاغريد" في الرواية، لينافس الفنادق باهظة الثمن.

سلكت الكاتبة في تأملاتها ما يشبه الدوائر المتداخلة، فكانت الفكرة تشتبك بالفكرة، وتلتف حولها. تذهب إليها وتعود منها. تنطلق من ذكرى قديمة لجارة، إلى تأمل أنواع مختلفة من "الكراكيب"، التي لا قيمة ولا حاجة لها، بداية بالأشياء، ومروراً بالأشخاص، والعلاقات، تلك التي كانت موضوعاً لكتاب "عبودية الكراكيب"، للكاتبة الأميركية كارين كينغ ستون.

ثم تقودها تأملاتها إلى دائرة جديدة، تكون فيها الكراكيب شحوماً مكدسة في جسد المرأة، فتتبع تغير مفاهيم الجمال من زمن إلى آخر، ومن ثقافة إلى أخرى. وتتأمل أثر العولمة، في شيوع مفهوم النحول الشديد، كرمز للجمال. وتستدعي ثقافات تمرَّدت على النحافة كمفهوم جمالي متعولم، كما في موريتانيا، التي توجد فيها ظاهرة التسمين القسري، اتساقاً مع ثقافة تعتبر النحيفات أقل شأناً، بل ويجلبن العار لأسرهن. ثم تعبر عبد الرحمن كل تلك الدوائر، إلى رؤى تُعلي من الجمال التناسبي، الذي يشير إلى التناسق في الشكل والانسجام بين الفرد وجسده. وبالمثل انطلقت من ذكرى أخرى لجارة، دفعها حلم رأته خلال نومها، للطلاق من زوجها. وتذكرت الكاتبة حلمين تكررا لديها، لتتبع تعاطي البشر مع أحلامهم منذ القدم، وفي الحضارات المختلفة. واستدعت بعض الأعمال الأدبية التي برز فيها حضور الحلم، كأحد المكونات الأصيلة للسرد، مثل قصص نجيب محفوظ "رأيت في ما يرى النائم". وعبر دائرة الأحلام اشتبكت مع دوائر أخرى، تأملت عبرها النوم والأرق، في الواقع والأدب أيضاً.

تجاذب الأجناس

تتيح مرونة السيرة؛ إمكان انفتاحها على فنون متنوعة وأجناس أدبية متعددة، مما مكّن الكاتبة في مساحات واسعة من النص؛ من الاستفادة من تجاذب أوتلاقح الأجناس الأدبية، من دون الإخلال بانسجام السرد وانسيابيته ، بل خدم غايتها الرئيسة، في التراوح بين الأنا والعالم، فبرز حضور الرسائل، وقامت بالدفع بالشعر. وهيمنت الروح النقدية على تعاطيها، مع ما استدعته من إبداع أدبي، وموسيقي، وسينمائي، وما مرّرته من قراءات، ورؤى حول النصوص، مثل رواية "بيوغرافيا الجوع" للبلجيكية إميلي نوتومب، رواية "جوع" للمصري محمد بساطي، "بائع الحليب" للإيرلندية آنا بيرنز، "متحف البراءة" للتركي أورهان باموق.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وتسلَّلت مرات من عوالم النص، إلى ظروف كتابته، والعالم الحقيقي لكاتبه، بل سعت أحياناً إلى التوحد مع بعض المبدعين، وتقييم منجزهم الإبداعي، والاقتراب من تجاربهم الإنسانية، عبر بلوغ طبقاتهم الأعمق، والأكثر هشاشة، فكان افتتانها بالمغنية داليدا منذ طفولتها، حدَّ الاتصال الروحي؛ حافزاً لفهم هشاشة المطربة العالمية، وتأمل الفقد الذي نال من كل روافد الأمان لديها، ملتهماً الأب، الوطن، الاطمئنان والأمل، وتركها لوحش من العوز العاطفي، زاد من وطأة هشاشتها، وانجذابها نحو حالة من التلاشي، تجلت في أعمالها لا سيما أغنية "أنا مريضة" التي فاضت باحتراقها الداخلي.

مارلين مونرو كانت واحدة من الشخصيات الأخرى، التي اقتربت الكاتبة من تجربتها الإنسانية، فطرقت سبلاً غير مألوفة، حاولت عبرها إضاءة ما كان بعيداً عن الأضواء، مثل علاقة الممثلة بالطهو، وكذا قصائدها التي سجلت عبرها هزائمها وإحباطاتها.

وفي عروجها على فيلمها الأخير، أبرزت عبد الرحمن ردود الفعل المتباينة بين الجمهور والنقاد، وموقف مونرو ذاتها من الفيلم. واستدعت كذلك كتاب "حياة وآراء الكلب ماف وصديقته مارلين مونرو" الذي حاول كشف حقيقة مونرو خارج الأيقونة التي وُضِعتْ فيها. هذا الاقتراب والفهم العميق حدّ التوحد، حظيّ به مبدعون آخرون، مثل بليغ حمدي، أحمد ذكي، إيزابيل الليندي، شارل أزنافور. وعبر فرادتهم، أضفت الكاتبة فرادة جديدة على تأملاتها، التي تجاورت عبرها مشاهد الماضي والحاضر، الأنا والآخر، الهنا والهناك فتجلت تناقضات العالم، ومراوحته بين القبح والجمال، الجوع والشبع، الانتماء والاغتراب. وأطلّت عبر ما طرقتْه من قضايا النفس والمجتمعات والإبداع؛ وجوه العزلة، الحرب، الجوع، والخوف، وطرحت أسئلتها الخاصة عن المحبة، الوجود والمصير.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة