ملخص
يجبر التشويش على النظام العالمي للملاحة الساتلية الطائرات على الرجوع إلى تقنيات الملاحة القديمة، وفي بعض الحالات يمكن أن يتسبب ذلك في اتخاذ الطائرات لمسارات جوية أطول
فجر رئيس لجنة الاستخبارات في مجلس النواب الأميركي مايكل آر تيرنر، مفاجأة من العيار الثقيل الشهر الماضي، عندما أعلن عن تطور روسي جديد في مجال تكنولوجيا الفضاء بدأ يشكل "تهديداً خطيراً للأمن القومي للولايات المتحدة". وإثر هذا التصريح، سارع المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأميركي جون كيربي للتأكيد على مشاركة المعلومات التي كشف عنها تيرنر مع لجنة الاستخبارات الأميركية وإتاحتها لأعضاء الكونغرس الآخرين.
وبينما لم تظهر أية تفاصيل جديدة من المسؤولين الأميركيين منذ ذلك الحين، كانت هناك تكهنات بين علماء الفضاء بأن هذه القدرة يمكن أن تدمر الاتصالات والمراقبة الفضائية وأنظمة القيادة والسيطرة العسكرية للولايات المتحدة، وذلك وسط تداول معلومات حول جهاز روسي يعمل بالطاقة النووية يمكنه التشويش أو تدمير الأجزاء الإلكترونية الداخلية للأقمار الاصطناعية الأميركية أو إصدار نبض كهرومغناطيسي يمكنه تدمير جميع إلكترونيات الأقمار الاصطناعية في نطاق معين.
اعتماد روسيا استراتيجية التشويش لتعطيل الأقمار الاصطناعية هو أمر في غاية الخطورة يستوجب استنفاراً من الولايات المتحدة وحلفائها، إذ أضحت الأقمار الاصطناعية التي تدور في الفضاء ضرورة لوظائف الحياة اليومية على الأرض، وتدعم البيانات التي تنتقل عبر هذه الأقمار تحديد المواقع والملاحة والتوقيت والاتصالات التي يعتمد عليها المجتمع الحديث، بدءاً من المعاملات المالية وحتى الملاحة عبر نظام تحديد المواقع العالمي GPS. وإضافة إلى هذه الاستخدامات المدنية، تدعم أنظمة الفضاء الاتصالات العسكرية والحكومية الآمنة، مثل الاستخبارات والقيادة والسيطرة والتحذير من الصواريخ وغيرها الكثير.
تعزيز قدرات التشويش
مثل العديد من الدول الكبرى التي ترتاد الفضاء، قامت روسيا على مدار السنوات الماضية بتجربة أنظمة فضائية لتعطيل الأقمار الاصطناعية. وقد تراوح ذلك بين الصواريخ الأرضية لإسقاط الأقمار الاصطناعية في المدار، إلى الطاقة النووية والطاقة الموجهة لتعطيلها. وبما أن الانفجارات النووية من شأنها أن تدمر بشكل عشوائي جميع الأقمار الاصطناعية الموجودة ضمن نطاق معين، والتي يمكن أن تكون روسية الصنع، وإسقاط الأقمار يترتب عنه تداعيات كارثية، لجأت روسيا إلى تطوير قدراتها على التشويش لتعطيل الأقمار الاصطناعية التي توفر مجموعة من القدرات للأنظمة القتالية على الأرض مثل التوجيه عبر نظام تحديد المواقع العالمي للذخائر والجنود، ومراقبة تحركات العدو، والقيادة والسيطرة.
وتأتي الخطوة الروسية التي كشف عنها تيرنر في أعقاب نشر أوكرانيا أقمار "ستارلينك" الاصطناعية التي منحتها قدرة "لا تقدر بثمن" على مشاركة المعلومات من مصادر متنوعة، كصور الأقمار الاصطناعية التجارية والاستخبارات السرية للغرب. كما يوفر نظام "ستارلينك" الذي يضم آلاف الأقمار مرونة ضد الأسلحة التقليدية المضادة للأقمار الاصطناعية مثل صواريخ ASAT وأسلحة الطاقة الموجهة.
استهداف أوروبا وحلف شمال الأطلسي
التحذير الذي أطلقه تيرنر حول القدرات الروسية ليس الأول من نوعه، إذ نبّهت قيادات عسكرية إستونية خلال الأشهر الماضية بأن روسيا تسعى لتعطيل أنظمة الأقمار الاصطناعية في منطقة البلطيق استعداداً للصراع مع حلف شمال الأطلسي "الناتو"، داعين إلى التحرك لحماية نظام تحديد المواقع العالمي الذي تستخدمه شركات الطيران والهواتف الذكية وأنظمة الأسلحة.
وكشفت دول أعضاء في حلف شمال الأطلسي، مطلع هذا العام، عن تشويش في الأجزاء الشرقية والجنوبية الشرقية من فنلندا، مصدره "جهاز تشويش البلطيق" في كالينينغراد، الجيب الروسي على بحر البلطيق. وتبع هذا الأمر تأكيد وزارة الدفاع الروسية أن وحدات الحرب الإلكترونية التابعة لها في كالينينغراد، المتاخمة لبولندا وليتوانيا العضوين في حلف شمال الأطلسي، أجرت تدريبات لتعطيل إشارات الراديو والأقمار الاصطناعية.
وقبل بضعة أيام، ذكرت مصادر بريطانية عدة أن روسيا شوشت على إشارة القمر الاصطناعي التي استخدمتها طائرة وزير الدفاع البريطاني غرانت شابس حين كانت تحلق بالقرب من منطقة كالينينغراد الروسية في منطقة البلطيق خلال عودته من بولندا إلى بريطانيا، لتضيف المصادر أن موسكو استعانت بمنظومة الحرب الإلكترونية المتنقلة Krasukha-2O للتشويش على إشارة نظام تحديد المواقع العالمي لمدة 30 دقيقة تقريباً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وطوال شهر يناير (كانون الثاني) الماضي، اتهمت جهات عدة روسيا بالتشويش على إشارات نظام تحديد المواقع العالمي في شمال أوروبا، لتعطيل الطائرات من دون طيار والصواريخ الأوكرانية، فيما اعتبر مارتن هيريم قائد قوات الدفاع الإستونية أن ما يحصل يعود لرغبة موسكو في تطوير واختبار قدرات التشويش قبل الصراع المحتمل مع حلف شمال الأطلسي في المستقبل.
من جهته، تحدث إد مورتيمر نائب الرئيس للشؤون الحكومية في شركة خدمات تحديد الموقع الجغرافي NextNav، في الفترة الأخيرة، عن توسع عمليات التشويش الروسية في أوروبا الشرقية بسبب الحرب الأوكرانية، قائلاً إن ما تقوم به روسيا سيكون له تأثير كبير في البنية التحتية الحيوية للدول، وتابع شارحاً "لقد أصبح البحر الأسود منطقة للعمليات العسكرية الروسية، وحتى رومانيا أقدمت على اتهام روسيا بالتشويش على النظام العالمي للملاحة الساتلية هناك، مما يزيد من خطر حدوث اصطدامات بين السفن. كما يجبر التشويش على النظام العالمي للملاحة الساتلية الطائرات على الرجوع إلى تقنيات الملاحة القديمة، وفي بعض الحالات، يمكن أن يتسبب ذلك في اتخاذ الطائرات لمسارات جوية أطول".
وفي سبتمبر (أيلول) 2023، اتهم رئيس أركان الجيش الروماني الجنرال دانييل بيتريسكو، روسيا بالتشويش "بشكل نشط ومستمر" على اتصالات نظام تحديد المواقع العالمي للسفن في مياه رومانيا الإقليمية، وأضاف أمام المنتدى "الأوروبي - الأطلسي" في بوخارست "لقد عادت الحرب إلى أوروبا. إنها حرب اختارتها روسيا وهي بالنسبة لأوكرانيا حرب من أجل البقاء الوطني ومعركة من أجل القيم الغربية، ويشكل اعتراض وتعطيل الإشارات الإلكترونية لتحديد مواقع عمليات العدو، عنصراً مهماً في الهجوم الروسي على أوكرانيا وتحدي الكرملين لأوروبا".
التشويش في أوكرانيا
أما في مسرح الحرب الأوكرانية، فقامت القوات الروسية المتمركزة في جنوب أوكرانيا، العام الماضي، بتركيب جهاز تشويش لاسلكي قوي يسمى Pole-21، مصمم للتداخل مع الإشارات التي تساعد في توجيه الطائرات من دون طيار الموجهة بنظام تحديد المواقع العالمي وصواريخ كروز والقنابل الموجهة بدقة مثل ذخيرة "الهجوم المباشر المشترك" الأميركية التي تعتمد على نظام تحديد المواقع للتوجيه.
ومع اعتماد الأوكرانيين على مزيد من المركبات الجوية من دون طيار والذخائر الغربية، ضاعف الروس جهودهم في البنية التحتية للحرب الإلكترونية في أوكرانيا. وقد لاحظ معهد "دراسات الحرب" في واشنطن العاصمة أنه عندما شن الروس هجوماً مضاداً حول أفدييفكا في شرق أوكرانيا في العاشر من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، بدأت العملية بتشويش واسع النطاق، مشيراً إلى أن القوات الروسية تطبق الدروس المستفادة من العمليات في جنوب أوكرانيا على قطاعات أخرى من الجبهة.
وتكمن المشكلة الأساسية في هذه الأجهزة بأنها تشوش على كل شيء إن كانت إشارات عدوة أو صديقة على حد سواء. لذا، يجب على الطاقم الذي يشغلها أن يكون حكيماً بكيفية استخدام التشويش الخاص بها، بحيث لا يقوم بتشغيلها إلا عندما لا تكون هناك قوات روسية في المنطقة المجاورة تحتاج إلى توجيه عبر الأقمار الاصطناعية. من هنا توضح الدراسات العسكرية أن الحرب الإلكترونية الروسية لا تقوم في كثير من الأحيان بقمع معدات العدو فحسب، بل أيضاً معداتها، مما يؤدي إلى إيقاف تشغيل هذه الأنظمة في بعض الأحيان.
وسبق لمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية CSIS الأميركي أن كشف، في عام 2022، عن استخدام روسيا شاحنات كبيرة تظهر بسهولة في بعض صور الأقمار الاصطناعية للتشويش على تدريبات عسكرية أجرتها الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي في شمال النرويج، منوهاً إلى أن المعدات المستخدمة من "الدرجة العسكرية"، وهذا يعني أن روسيا أمضت سنوات في تطويرها.
ولفت المركز الأميركي إلى أن التشويش كان يحدث قبل فترة طويلة من بدء الهجوم الروسي على أوكرانيا، إذ قام الجيش الروسي بشكل متكرر بالتشويش على إشارات نظام تحديد المواقع العالمي في أوكرانيا منذ عام 2014، وشهد ذلك العام قيام الروس بضم شبه جزيرة القرم، التي كانت حتى ذلك الحين جزءاً من الأراضي الأوكرانية.