ملخص
عودة إلى مآسي قبيلة "التوتسي" التي سقط منها مليون شخص خلال المجازر التي ارتكبها ضدها القادة المتطرفون في جماعة ال"هوتو" العام 1994. في الذكرى الثلاثين لهذه المجازر صدر في باريس كتاب بعنوان "القافلة" يسترجع الحكايات الألمية التي شهدها شعب "التوتسي".
في كتاب مؤثر سمّته "القافلة" صدر حديثاً عن "دار فلاماريون" في باريس، تروي بياتا أوموبيي-ماريس قصة إنقاذها من الموت المحتم يوم شن القادة المتطرفون في جماعة الـ "هوتو" التي تمثل الغالبية في رواندا، حملة إبادة ضد الأقلية من قبيلة الـ "توتسي"، ذهب ضحيتها خلال 100 يوم، نحو مليون توتسي، فضلاً عن معتدلين من الـ "هوتو" والـ "توا" وغيرهم ممن عارضوا هذه المجازر الجماعية.
واستهلت أوموبيي-ماريس كتابها بالعبارة الآتية: "لقد نجوت، ففي 18 يونيو (حزيران) سنة 1994 تمكنت من الفرار من بلدي بفضل قافلة إغاثة اسمها ’أرض الرجال‘ تابعة لمنظمة إنسانية سويسرية، وكنت آنذاك في الـ 15 من عمري". كان ذلك منذ ما يقارب الـ 30عاماً حين غادرت بياتا وأمها بوتار، أكبر مدن جنوب رواندا، مختبئتين تحت كم من البطانيات في شاحنة مخصصة للأطفال دون 12 عاماً، متجهة إلى بوروندي.
ومذ ذاك كرست هذه الناجية أيامها للتقصي والبحث عن وقائع هذه الإبادة، فقابلت عدداً من الناجين الآخرين واستمعت إلى رواياتهم المؤثرة، وقرأت كثيراً من الكتب والمقالات ودرست الوثائق مدونة حصيلة عملها المضني في هذا الكتاب الذي استغرق الإعداد له 15 عاماً. ويجمع الكتاب في الوقت عينه بين التحقيق الاستقصائي عن هذه الإبادة الوحشية، وقصة نجاة أوموبيي-ماريس وذكرياتها الأليمة المكتوبة بكلمات مؤثرة ودقيقة تروي تفاصيل مرعبة حدثت فعلاً في ربيع وصيف عام 1994.
ففي فترة لا تتعدى الـ 100 يوم قُتل ما يقارب 800 ألف شخص وتعرضت مئات آلاف النساء للاغتصاب في واحدة من أقسى الإبادات الجماعية في تاريخ أفريقيا والعالم، بسبب العنف الوحشي والاضطهاد الذي مورس بحق الـ "توتسيين" المدونة هويتهم العرقية على بطاقاتهم، وفق التصنيف الذي أدرجته الحكومة البلجيكية أثناء فترة الاستعمار عام 1933. وساعدت بطاقات الهوية قوات الحكومة في التعرف على الـ "توتسيين" وقتلهم، ولا تزال آثار هذه الإبادة باقية في رواندا المدمرة بعد أن خلفت مئات آلاف الناجين الذين يعانون الصدمات والجروح النفسية، وحولت البنية التحتية للبلاد إلى أنقاض.
وفي خضم هذه الأحداث المؤلمة ووسط مئات آلاف الجثث جاء إنقاذ حياة 1000 طفل بمثابة قطرة ماء في محيط من الجثث، وقد أجلوا إلى بوروندي بفضل قوافل نظمتها جمعية "أرض الرجال" السويسرية. وعلى رغم أن هذه العملية كانت مخصصة لإنقاذ الأطفال إلا أن بياتا أوموبيي-ماريس ووالدتها استطاعتا أن تكونا جزءاً من هذه القافلة المنطلقة باتجاه الحياة والحرية بفضل إحدى الراهبات.
الكاتبة التي نجت
تخبرنا الكاتبة أنه بعد مضي 13 عاماً على نجاتها بدأت في البحث عن لائحة محتملة تضم أسماء هؤلاء الناجين الصغار، ومن خلال التواصل مع صحافيين بريطانيين كانوا موجودين على الأرض تمكنت من الحصول على شريط فيديو وبعض الصور، واستمر بحثها الحثيث عنهم حتى توصلت إلى اكتشاف السلسلة البشرية التي شكلت لتنظيم عملية الإنقاذ هذه.
ذكرني عنوان كتاب بياتا أوموبيي-ماريس بكتاب شارلوت دلبو الصادر في الستينيات من القرن الماضي بعنوان "قافلة 24 يناير"، ففي هذا الكتاب الاستثنائي تروي دِلبو وهي واحدة من الناجيات من معسكر الاعتقال النازي أوشفيتز، قصة قافلة ضمت 49 امرأة استطعن النجاة من وحشية النازية، وقد نجحت الكاتبة في جمع كل النساء اللاتي كن موجودات في هذه القافلة ودونت شهاداتهن، وذكرني الكتاب كذلك بعدد من الكتب التي تناولت عملية القتل الجماعي التي حصلت في أراضي الدولة العثمانية بحق الأرمن على يد حكومة جمعية الاتحاد والترقي خلال الحرب العالمية الأولى، وقد وثقت هذه الإبادة في آلاف الروايات لشهود العيان والناجين التي تقدم سرداً للأحداث من وجهات نظر مختلفة، علماً أنه مهما كانت العصور ومهما تغيرت الأماكن فإن الإبادات الجماعية تتشابه وتتقارب أصوات ضحاياها الذين يجمعهم مصير واحد.
وتقول بياتا أوموبيي-ماريس إن السبب الذي دفعها إلى وضع كتابها هذا هو اكتشافها أن كل النصوص والمقالات والدراسات التي تناولت الأحداث المرتبطة بالإبادة الجماعية في رواندا كتبها أناس غير روانديين، تغلبت سردياتهم ووجهة نظرهم في تفسير أسباب ما حصل على وجهة نظر من عاشها، وقد تلخصت في أن الإبادة كانت متبادلة وأن الكراهية كانت متأصلة بين طرفين يناضلان من أجل السلطة، وتعترف في مقابلة أجرتها معها صحيفة "لاكروا" الفرنسية أنه من واجب "ضحايا الأمس من الروانديين" رواية القصة كما عاينوها، معبرة عن حزنها وموافقتها على قول الناقدة والكاتبة الأميركية سوزان سونتاغ في ما يتعلق بالطريقة التي يعامل الغرب بها أفريقيا من خلال استغلال صور وأفلام الضحايا من دون الاستفسار عن رأيهم، فغالباً ما يتلاعب بروايات الناجين وشهود العيان وتقييد حرية كلامهم، لذا يجيء كتابها المؤثر والضروري في وقته ليمنح المضطهدين صوتاً وليفك أسر أحداث ماض مكبوت في الصدور، عله يساعد العالم في تغيير نظرتهم إلى هذه المأساة الإنسانية الرهيبة التي عاشتها هذه الفتاة الناجية من المناجل والهراوات والسلاح والاغتصاب والقتل والتدمير وسرقة الممتلكات من الذين كانوا بالأمس جيران وأحباء، بعد أن أصبحت اليوم أماً وكاتبة.
وإذ تحمل أوموبيي-ماريس فرنسا جزءاً من المسؤولية في حصول هذه الأحداث، فإنها تعيد للذاكرة مشاهد تراجيديا تاريخية يستعد العالم للاحتفال بذكراها الـ 30 في السابع من أبريل (نيسان) المقبل، مذكرة قراءها أنها لطالما شعرت على مدى 30 عاماً أن كلمات الناجين كانت تتلى في إطارات غير مناسبة، فكثيرة هي وسائل الإعلام أو المؤتمرات التي كانت تطلب منهم الإدلاء بشهاداتهم، لكنها كانت تملي عليهم دوماً ما يجب قوله في مدة زمنية لا تتعدى بضع دقائق، وبمعنى ما كان على الناجين الصمت والإصغاء إلى مداخلات متخصصين يتحدثون بدلاً منهم، وعندما تتاح لهم الفرصة للحديث عن معاناتهم وعن الجرائم المخيفة التي تعرضوا لها فإن الجمهور لا يستمع إليهم ولا يدرك حجم المأساة التي عاشوها، مضيفة أن الإعلام الأوروبي لم يُظهر صور الناجين الـ "توتسيين" بل ركز اهتمامه على نقل صور المواطنين البلجيكيين أو الفرنسيين الذين أجلوا، مما يعزز فرضية لامبالاة الحكومات أو سكوتها الخطر أمام الأحداث.
مواصفات لاإنسانية
وتقول الكاتبة إنه خلال بحثها الدؤوب عن القوافل الإنسانية التي نظمتها جمعية "أرض الرجال" اكتشفت بدهشة أن مأساة الروانديين وصور عبور بعض أطفالهم مناطق نفوذ الـ "هوتو" حتى اجتيازهم حدود البلاد نشرت في مجلات أوروبية متخصصة بالمغامرات، ولكأن وقائع الإبادة الجماعية قد نزعت عنها الصفة الإنسانية فأصبحت موضوع مقالات صحافية تهتم بالرحلات والمغامرات والرياضات الشاقة، ومع ذلك قررت بياتا أوموبيي-ماريس العودة بذاكرتها الممزقة لهذا الماضي البغيض بغية جلاء ما حصل لها، ليس فقط على المستوى النفسي الداخلي بل على المستوى الجماعي لشعبها الذي حاول أفراده الإجابة عن سؤال معنى البقاء على قيد الحياة، بعد إبادة جماعية فظيعة سوغتها اتهامات باطلة بحقهم وصورتهم كأشخاص غير مؤمنين يحاولون استعادة الملكية الـ "توتسية" واستعباد شعب الـ "هوتو".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي الكتاب روايات مؤلمة عن حالات الصدمة المتكررة التي يعانيها كثير من الناجين وعن الصعاب التي يواجهونها، إن على الصعيد المادي أو الجسدي أو على الصعيد النفسي، فكثير منهم يعيشون في فقر مدقع ويعانون مشكلات صحية معقدة مثل فيروس نقص المناعة البشرية المكتسبة، كنتيجة مباشرة لأشكال العنف المختلفة التي تعرضوا لها خلال الإبادة. وتقول بياتا أوموبيي-ماريس إن بعض الناجين قد هددوا أو هوجموا على يد الجناة السابقين، لذا نراهم يعيشون حياة يكتنفها الخوف والغموض.
وفي الكتاب أيضاً كثير من الوصف لإعمال الإبادة المقززة، وبما أن كل نجاة معجزة لا يمكن تفسيرها، فإن بياتا أوموبيي-ماريس تعتبر نفسها محظوظة بسبب برودة أعصابها التي دفعتها إلى الادعاء أن أمها لا تتحدث سوى الفرنسية عندما طلب من والدتها أن تظهر بطاقتها الشخصية الموسومة بعلامة هويتها العرقية المميتة، وبسبب لون بشرتها الخلاسية التي جعلت منها بيضاء في عيون القتلة.
كما تخبرنا أنها على رغم صغر سنها تلفظت أمام زعيم الـ "هوتو" بعبارة مدهشة: "فرانسوا ميتران صديقك، إذا قتلت امرأة فرنسية فسيغضب منك ويتوقف عن مساعدتك"، وهي عبارة تعتقد الكاتبة أنه كان لها دور في نجاتها وأمها من موت محتم.
ما أحوجنا اليوم الى مثل هذا الكتاب في هذه اللحظة التاريخية المأسوية التي تحياها شعوب فلسطين وأوكرانيا وغيرها من الشعوب المعذبة في الأرض، بل ما أحوج الذاكرة الجماعية والفردية إلى استعادة هذه الأحداث المؤلمة التي واجهها شعب لم يهتم لأمره إلا قلة عزيزة جداً، ولم يحاول التدخل لمنع الظلم اللاحق به سوى عدد ضئيل من المنظمات الإنسانية.
كتاب بياتا أوموبيي-ماريس شهادة مؤثرة على بشاعة العنف والإجرام الذي يقف التعبير البشري دونهما، فلا يواجههما ولا يلاقيهما إلا على ضوء النفوس المتجرحة التي قادتها كلومها البالغة نحو ماض ليس دونه هرب.