Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

زمن المآسي الضاحكة... مصريون على طريق "شر البلية"

النكتة وسيلتهم للتغلب على المأزق الاقتصادي ومتخصصون يعتبرونها "نشرة أحوال العباد الحقيقية"

تعلم المصري من خلال النكتة كيف يقفز فوق الظروف الصعبة بتحويلها إلى وسيلة للتندر (أ ف ب)

ملخص

كان لرؤساء مصر السابقين صولات وجولات مع النكات التي تسخر من مواقفهم واتخذوا بناء عليها قرارات سريعة وحاسمة وغير متوقعة

إذا كانت الدول تحرص على مخاطبة الشعوب عبر منصاتها الإعلامية الرسمية والمؤتمرات وبياناتها التي تنشر على نطاق واسع، فإن لدى عامة الشعب أيضاً إعلامه الخاص الذي يبث من خلاله رسائله الصادقة بلا تجميل، ومحظوظ من يعرف كيف يفك رموز تلك الشيفرات باعتبارها نشرة أحوال العباد الحقيقية. إنها النكتة سلاح الجمهور العادي في مواجهة الظروف العصيبة والعصية على الاستيعاب بطرق اعتيادية، إذ يتعلم من خلالها كيف يقفز فوق هذه الظروف بتحويلها إلى وسيلة للتندر.

لكن تلك النكتة من جانب سلبي قد تساعد على التعايش مع الأزمات مهما كانت خانقة، فكونها وسيلة للتنفيس ذات سقف مرتفع من الحرية قد تعتبر بالنسبة إلى كثيرين وبينهم قطاعات من المصريين كافية وربما أكثر، وتؤدي الواجب والهدف، وعادة يبقى الوضع على ما هو عليه ما دام أنه أخذ مكانه في قائمة النكت الطويلة التي تمتد منذ عصر الفراعنة كما يرى بعض المؤرخين، حين جرى تدوين بعض الأوصاف المضحكة على عدد من المسؤولين عبر أوراق البردي والنقوش، فضحايا النكتة عادة ما يكونون من ذوي الحيثيات.

 

 

إنها الهبة التي لم تهزم أبداً مهما كانت طبيعة العصر، ومهما تكالبت الأزمات بأنواعها شتى على الشعب المصري، فحتى في عز نكسة عام 1967 كانت التعليقات الطريفة المغلفة بالمرارة حاضرة بقوة وقسوة وشجاعة لأن الانكسار على الجبهة كانت تنبغي محاربته لتحقيق انتصار معنوي بهذا السلاح، والمصري عادة ما ينتصر في حرب المعنويات، ويبتكر طرقاً للتغاضي عن المآزق من بينها النكتة التي لا تكون "هزاراً" أبداً وإن بدا ظاهرها كذلك.

أخيراً ومع موجات ارتفاع الأسعار، أصبح هناك سيل هائل في النكت تعلق على تلك الظروف التي اشتدت بعد تداعيات أزمة كورونا ثم حربي أوكرانيا وغزة، إذ عرفت التأثيرات طريقها مباشرة إلى قوت المواطن المصري، والمؤكد أن النكات تلقى انتشاراً ورواجاً لأن الشكوى تخص كل الطبقات الاجتماعية تقريباً، وكذلك بسبب وجود وسيط مهم مثل الـ"سوشيال ميديا" أسهم في تطوير هذا الفن الاجتماعي السياسي الذي يميز المصريين بصورة ملحوظة.

القلق من النكتة

بالطبع النكتة ملمح أساسي في حياة شعوب العالم كافة، لكنها تعتبر زاداً بالنسبة إلى المصريين، واعتادوا على أن تكون حاضرة دوماً في تعليقاتهم على كل الأحداث، رياضية وفنية واجتماعية وسياسية واقتصادية، فتبدو وكأنها موهبة مستمدة من الجينات ومورث شعبي متأصل في الجذور، وهي لفرط حدتها في بعض الأوقات قد تجعل بعض المسؤولين يتخذون قرارت سريعة لتجنب تأثيراتها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وفقاً لشهادة المفكر المصري الراحل جلال أمين، صاحب كتاب "ماذا حدث للمصريين"، فقد طالب الرئيس جمال عبدالناصر في أعقاب نكسة يونيو (حزيران) 1967 الشعب بالكف عن إطلاق النكات، نظراً إلى أن السخرية من الأوضاع وقتها بلغت ذروتها ولم تعد تطاق بالنسبة إلى الدائرة السياسية العليا. وعلق أمين على هذا الموقف في إحدى مقالاته بالتأكيد على أن النكتة سلاح مصري بتّار، متابعاً أنه "ربما كان لهذه النكت أثر فى قيام الحكومات بتوفير السلع الاستهلاكية فى الجمعيات التعاونية فى أعقاب الهزيمة، حتى لا تضاف أسباب اقتصادية إلى للشكوى إلى جانب الأسباب السياسية".

شاعت في تلك الفترة النكت الطويلة والقصيرة التي تلخص الأوضاع بحس ساخر قد يحمل مبالغة ولكنه يقول ما يعتمل في صدور الشعب، فالنكات السريعة الذكية التي تنتقد الأوضاع بمصداقية حتى لو كانت لاذعة تصيب الهدف أسرع من عشرات الخطابات، وبين أبرز النكات أن مواطناً قرر السفر من القاهرة إلى الإسكندرية ليتمكن من شراء الرز إذ كان شحيحاً في هذا الوقت، لكنه فوجئ بالسائق ينزله في منتصف الطريق ويخبره أن طابور انتظار الرز يبدأ من هذه البقعة، للدلالة على مدى طول الطابور الذي يصطف فيه المواطنون لأجل الحصول على سلعة بسيطة تتعلق بأساسيات غذائهم. ومن الملاحظ أن مطالبة عبدالناصر بالتوقف عن "التنكيت" كانت علنية وفي خطاب شاهده الجمهور عام 1968، فاعتبر الرئيس الراحل أن التنكيت يطعن الدولة في الظهر. إلى هذا الحد كانت النكتة مقلقة باعتبارها أكثر إنباءً من التقارير المنمقة.

سخرية أم لا مبالاة؟

إذاً كما هو واضح، فالتندر ربما يكون سبباً في تغيير خطط الحكومة واتخاذ قرارات على هذا القدر من الأهمية، إذ إن النكتة تعتبر خطاباً ثورياً ينتشر ببساطة وسلاسة بين الجمهور، بل قد يغير الصورة الذهنية في العقل الجمعي تجاه شخص أو وضع معين، من هنا تأتي أهمية وسائل التعبير بالنسبة إلى الشعوب، فيشير أستاذ البلاغة وتحليل الخطاب بجامعة القاهرة عماد عبداللطيف إلى أن الشعوب تختبر أحداثاً كبرى مثل الحروب والكوارث الطبيعية وأشكال عدم الاستقرار السياسي والمجاعات، مما يولد مشاعر جماعية ضاغطة، ويعبر عنها كل شعب بوسائل مختلفة بحسب خبرته التاريخية والظروف التي يمر بها، فالجماعات التي لديها تراث من العمل الجماعي المنظم وحرية نسبية تختار على سبيل المثال أفعالاً جماعية من خلال التنظيم والحشد، وتخرج في صورة مسيرات واستعراضات وأعمال فنية جماعية مثل الأناشيد والهتافات، لكن قد تلجأ جماعات أخرى إلى التنفيس عن المشاعر الضاغطة عبر خطابات ذات طابع فردي ويجري إنتاجها من دون خطة، ثم تتداول من شخص إلى آخر مثل النكت والفكاهات.

 

 

هذا يقودنا إلى الحديث عن النكتة في هذا الوضع باعتبارها وسيلة تلقائية يجري استدعاؤها للدفاع عن النفس من التوترات، فيتفق الأكاديمي عماد عبداللطيف مع هذا الطرح، ويقول إنها بالفعل وسيلة للاحتفاظ بدرجة ما من السوية النفسية المجتمعية، بخاصة إذا ما جرت تنحية سبل التعبير الأخرى جانباً، وهنا تحقق السخرية وظيفة مزدوجة، فهي من ناحية تخفف وقع الضغوط على المرء نتيجة الأثر الاسترخائي الذي تحدثه الفكاهة في النفس، ومن ناحية أخرى تشبع جزءاً من الرغبة في الانتقام الرمزي من مسببي المشاعر السلبية عن طريق السخرية منهم. وينتج من ذلك إكساب الجماعة مزيداً من القدرة على تحمل المصاعب.

تلك النقطة التي يشير إليها أستاذ تحليل الخطاب تجعل النكتة تمثل منتهى "الفعل" بالنسبة إلى بعضهم، مما يوقعهم في فخ السلبية عبر الاكتفاء تماماً بهذا الدور من دون محاولة الخروج من الأزمة بطرق عملية مثل مواجهة جشع التجار باللجوء إلى القانون، أو محاولة الدخول في مشاريع مجتمعية تضمن عدم التلاعب بالأسعار.

ويواصل عبداللطيف تحليله لتداعيات النكتة في هذا الإطار، موضحاً أنها "تسهم في تقليل الدافعية لمواجهة الأسباب الحقيقية المؤدية إلى المشاعر الجماعية السلبية، ومن هذه الزاوية فإن السخرية تؤدي وظائف مهمة للساخر والمستهدف بالسخرية على حد سواء، فالسخرية قد تصبح بالفعل أداة من أدوات الحفاظ على الوضع القائم. وهناك دراسات عدة تبرهن على أثر أفعال مثل السخرية والشتائم في تحمل الأفراد ظروفاً مادية قاسية، مثل وضع الأيدي في الرمال الملتهبة على سبيل المثال".

من جهته، يعرف الأكاديمي العراقي رحيم السعدي النكتة أو الطرفة بأنها "مفهوم قياس لنمط تفكير وعقول الشعوب، فهي تفسر طبائعهم وطرق تعاملهم ومقدار تغلبهم على الضغوط النفسية، أو أنها تفسر لا مبالاتهم ونكوصهم وانهزامهم عن أهدافهم وهوياتهم".

ويتابع أستاذ الفلسفة في الجامعة المستنصرية بالعراق في دراسة تحمل عنوان "فلسفة النكتة"، "كما أن النكت والطرف تعطي الوظيفة والمقدرة للفرد في التعامل مع المواقف وتحويرها وابتكار مخيلة الصدمة النفسية الإيجابية المفاجئة". وهي في مصر تبدو كعلامة دائمة على الحرية، فعلى رغم أن بعض المواضيع يجري تداولها بحذر شديد فإنها حين تتحول إلى نكتة ومصدر للإضحاك  تبدو أخف وطأة، وحتى لو لم تكن صريحة تماماً فإنها تكون واضحة الدلالة بين متداوليها وكأنها شيفرة خاصة يعلم الجميع كيفية فك رموزها.

متى يزدهر الضحك؟

من تبادل النكت في المقاهي قديماً، وفي التجمعات العائلية، إلى نشرها في الجرائد ومن بينها جريدة "التنكيت والتبكيت" التي أصدرها عبدالله النديم قبيل نهاية القرن الـ19 بنحو 10 سنوات، وكانت معنية بنشر المقالات اللاذعة التي تنتقد الأوضاع بطريقة السخرية السوداء، وعُدّت خطاباً موجهاً للشعب والسلطة على السواء يتحدث بجرأة شديدة عن الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.

ثم جاء العصر الذهبي للكاريكاتير في الستينيات بأعمال كبار بينهم حجازي وصلاح جاهين، وصولاً إلى زمن "نص كلمة" التي بدأها أحمد بهجت كقطعة صغيرة ينتظرها عشاق الضحك الفلسفي والابتسامة التي تستدعي التفكير مع نهاية الستينيات في جريدة "أخبار اليوم"، وذاع صيتها في ما بعد حينما شكل بهجت ثنائياً مع الرسام مصطفى حسين في منتصف السبعينيات وأبدعا معاً شخصيات تعبر عن أحوال المواطن، من بينها "كمبورة" و"عبده مشتاق".

 

 

والآن بات عالم الـ"كوميكس" يحكم حياة المصريين على الـ"سوشيال ميديا"، ومعه أيضاً آلاف الفيديوهات التي ينتجها هواة يعبرون من خلالها بطرافة وطزاجة عن أحوالهم بعد موجات غلاء الأسعار، سواء بطريقة التورية أو المباشرة، وحتى بعد الانفراجة النسبية التي أعقبت الإعلان عن تفاصيل صفقة "رأس الحكمة" وتراجع سعر الدولار في السوق الموازية.

غير أن أسعار السلع الأساسية لا تزال تحلق بعيداً، والخفوضات عليها تبدو قليلة للغاية وفي منافذ بيع بعينها لا تتوافر للغالبية، لذا ظل الأسلوب النقدي الساخر مسيطراً في الخطاب اليومي، ومن أبرز ما أبدعه رواد الـ"سوشيال ميديا" في الفترة الأخيرة، طلب التعامل برفق مع كل من يرونه يستقل وسائل المواصلات العامة للمرة الأولى، وأن يجلسوه إلى جوار الشباك في الحافلة للتخفيف عنه، فهو بالتأكيد من طبقة اقتصادية أعلى لكن الظروف الأخيرة اضطرته إلى ترك سيارته لغلاء أسعار البنزين، واختيار وسيلة أرخص ثمناً للتنقل.

في الإطار نفسه، كانت هناك نكات وأوصاف مضحكة حول أفراد الطبقة الذين يمتلكون سيارات فارهة ومعهم أجهزة إلكترونية ثمينة للغاية ويرتدون أغلى ماركات الملابس، ومع ذلك فإن جيوبهم خاوية، في إشارة أيضاً إلى هبوطهم إلى طبقات أقل بعدما التهمت المتطلبات اليومية الضرورية للغاية رواتبهم، في حين أن ممتلكاتهم هذه كانت معهم منذ سنوات قبيل التعويم الأخير، كما أصبحت إيصالات الدفع مقابل شراء مستلزمات المنزل الشهرية التي يعود تاريخها لعامين أو ثلاثة مضت تسمى في عرف المصريين "بردية" تندراً على مدى قدمها مقارنة بأسعار المتطلبات نفسها حالياً، إذ زادت الأسعار بمقدار ثلاثة وأربعة أضعاف في الأقل لكثير من الأصناف.

واعتبرت منشورات أن سعر الكيلوغرام من البن متوسط الجودة الذي وصل إلى 1500 جنيه مصري (نحو 48 دولاراً) يجعل من الطبيعي إطلاق لقب متعاطٍ على شاربي القهوة لأن السعر بات يشبه أسعار المواد المخدرة، وكذلك انتشرت صورة مضحكة أيضاً لشريحة لحم جرى ربط أطرافها بالمقلاة أثناء الطهي وعليها تعليق يقول "من المستحيل أن يتركها صاحبها تنكمش بفعل الحرارة"، نظراً إلى أن سعر الكيلوغرام الواحد وصل إلى 450 جنيهاً (15 دولاراً)، والأمر نفسه ينسحب على أسعار المكسرات الرمضانية، إذ انتشر "ميم" شهير جرى تركيبه على لقطة للراحل عبدالفتاح القصري من فيلم "ابن حميدو" (1957) واستبدل النشطاء كلماته بأخرى معبرة عن الحال، فبدا القصري وهو يقول لزوجته إنه لن يتمكن من شراء المكسرات والياميش لأنها انضمت إلى فئة الأحجار الكريمة، بعد أن تجاوزت أسعار بعضها الألف جنيه (35 دولاراً) للكيلوغرام الواحد.

عودة بكيزة الدرملي

الأعمال الفنية كانت حاضرة بقوة بالفعل، بخاصة ما يتعلق بشخصية "بكيزة هانم الدرملي" التي قدمتها الراحلة سهير البابلي في مسلسل وفيلم عن شخصيتي "بكيزة" و"زغلول" في نهاية الثمانينيات، واقتسمت معها البطولة الفنانة إسعاد يونس، وبما أن "بكيزة" كانت المرأة الثرية التي هوت بها المقادير لتعيش حياة الفقراء، فقد كانت مثالية لأن تصبح لسان حال كثيرين ممن هبطوا من طبقة اجتماعية عليا بسرعة فائقة.

اللافت أن هناك فئات كثيرة انضمت إلى كتيبة التندر، فوجدنا فيديوهات تمثيلية ساخرة أبطالها أفراد من الشارع العادي، ومن بينها مجموعة من الرجال في صعيد مصر ظهروا في فيديو وهم يتسابقون في لعبة تخمين، وحينما يصادف أحدهم توقعاً صحيحاً يفوز بسلعة منزلية معروف أن ثمنها بات مرتفعاً بالنسة إلى رواتب غالبيتهم مثل السكر أو الزيت أو الرز. فالأزمة التي طاولت الجميع جعلت كثراً يحاولون كسب قوتهم بطرق لم يعتادوها، فهذه امرأة تسكن في منزل فاره بحديقة أرضية تحاول أن تستعرض طرقها في التوفير بإعادة تدوير أشياء مضحكة للغاية مثل أكياس القمامة، أو حتى عبوات المنظفات الفارغة. وآخر من أسرة متوسطة يتحدث عن أنه يفكر في أن يطلب الحصول على مرتبه بعملة غير متوقعة وهي "عملة البانيه"، في إشارة إلى شرائح الدجاج غالية الثمن للغاية والتي تستحق أن تصبح عملة للتداول بدلاً من الجنيه.

 

 

كانت هناك آراء كثيرة تتحدث عن تراجع حس النكتة لدى المصريين، ربما بدافع الانشغال في تحصيل لقمة العيش، أو أن بعضهم بات أكثر تحفظاً وحذراً، لكن على العكس فقد أفرزت الأسابيع الماضية بفعل توترات سوق السلع كماً هائلاً من الطرائف، وجميعها تتمحور حول يوميات الجمهور مع أثمان المنتجات التي تزداد وكأنها بورصة لا تعرف إلا اتجاه الصعود، فيما يعتبر أستاذ علم الاجتماع سعيد المصري أن "النكتة لدى المصريين تعلو وتيرتها بقوة في أيام الرخاء والتأزم على السواء، وهي ليست مرتبطة فقط بالظروف الصعبة". ولم ينكر المصري أن "هذا الحس اتخذ منحى أكثر اختلافاً على أكثر من مستوى عقب ثورة الـ25 من يناير (كانون الثاني) 2011".

أما أستاذ البلاغة عماد عبداللطيف، فيعتقد بأن من الصعب المقارنة بين حس التندر والتنكيت في ما قبل ثورة يناير والظروف الراهنة، فهذا الأمر يحتاج إلى دراسات شاملة لواقع إنتاج الخطاب الفكاهي الشعبي وتداوله في الفترتين، لكن ما يبدو واضحاً بالنسبة إليه هو أن المصريين الآن يستعملون أشكالاً من الفكاهة والتنكيت لم تكن شائعة قبل 15 عاماً مثل الميمات، كما أن الفكاهة والتنكيت التي ينتجها ويتداولها أشخاص حقيقيون أصبحت أكثر رمزية وأقل مباشرة، ربما بسبب تفاوت حدود حرية التعبير.

تهمة التنكيت وعواقبها

بالطبع من الملاحظ أن ثورة يناير أسهمت في رفع سقف النقد اللاذع بقوة، ولم يسلم أي طرف من السخرية، واستمر الأمر مع تعاقب التيارات السياسية، وشهدت فترة حكم الإخوان المسلمين كثيراً من النكات التي أطلقتها الـ"سوشيال ميديا"، إذ إن معظمها جاء تعليقاً على أحداث واقعية، فمثلاً بعد قيام أحد نواب التيار السلفي في البرلمان برفع الأذان أثناء الجلسة النيابية اعتبر النشطاء أنه إذا استمرت الحال بهذا الوضع فقد تحدث مشادات بين الأعضاء على من سيتولى مهمة ضرب مدفع الإفطار.

لكن الرئيس السابق حسني مبارك كان الضحية الأولى لموجات السخرية، فجاءت النكات قاسية، ومن بينها أنه حين سُئل عن سبب مغادرته الحكم، هل السم (مثل عبدالناصر) أو حادثة إطلاق نار (مثل أنور السادات)، رد بالقول "بل فيسبوك"، في إشارة إلى أن دعوات التظاهر خرجت للمرة الأولى عن طريق هذه المنصة الشهيرة، وآخرون تندروا على تأخره الدائم في إلقاء خطاباته إبان التظاهرات التي عمت البلاد بهدف إزاحته عقب ثلاثة عقود كاملة في سدة الحكم، بأن السبب يعود إلى وقوفه للتفتيش في اللجان الشعبية، وغيرها كثير.

 

 

من المعروف إن إطلاق النكت التي تنتقد الأوضاع الاقتصادية تحديداً بشكل حاد وكاريكاتيري كان يمكن أن تذهب بصاحبها إلى وراء القضبان، بخاصة أن مثل تلك الوسائل تصل إلى الجمهور بسرعة وتؤثر فيه مباشرة من دون وساطة، وهو ما حصل مع الفنان الراحل سعيد صالح في الواقعة الشهيرة التي حدثت بعد مرور عامين على تسلم مبارك مقاليد الحكم، إذ حكم عليه بالحبس ستة أشهر بتهمة التعاطي بعد أن أطلق في مسرحيته "لعبة اسمها الفلوس" نكتة تتحدث عن رؤساء مصر عبدالناصر والسادات ومبارك وقتها، ووصف الأخير بأنه "لا بيهش ولا بينش"، بينما اعتبر أن زمن عبدالناصر "وقت تقتير وضيق في الرزق"، ووصف عصر السادات بأنه "زمن الغش التجاري".

إطلاق النكات أيضاً كان تهمة الكاتب الساخر الراحل محمود السعدني التي أوصلته إلى السجن السياسي بتهمة التخطيط لقلب نظام الحكم في عصر الرئيس الراحل أنور السادات، فكان معروفاً عنه حسه الساخر وشعبيته الكبيرة، وعلى رغم أن السادات نفسه كان مستمعاً جيداً للنكات المضحكة ويتبادلها في جلساته، لكنه لم يتحمل حس محمود السعدني التهكمي، ومن ضمن ما قاله الكاتب البارز إن "الرئيس جمال عبدالناصر على رغم عظمته فإنه أشبع المصريين خوفاً طوال 18 عاماً، بينما يمكن أن ينجح السادات خلال 18 يوماً فقط في أن يميت المصريين من الضحك".

أما المفكر المصري والأكاديمي البارز الراحل عبدالوهاب المسيري، فجرى إلغاء أكثر من فعالية له يتناول فيها مدى تأثير النكتة وأهميتها في حياة المصريين في الفترة بين عامي 2006 و2007، ووقتها صرح بأنه أُبلغ أن تلك الفعاليات ألغيت لأسباب أمنية، مبدياً استغرابه من مدى قلق الجهاز الأمني حينها من الحديث عن السخرية والطرفة.

أستاذ تحليل الخطاب والبلاغة بجامعة القاهرة عماد عبداللطيف يعلق على مدى قوة فن النكتة في إيصال رسالة ما، بخاصة في زمن الأزمات، بالقول إن "النكت أداة تعبير شعبية يمكن أن تكشف عن توجهات جماعة من الناس في لحظة تاريخية معينة نحو مسألة معينة". ويتوقع أن تهتم المؤسسات التي تدير الشأن العام بالتعرف إلى رأي الناس في المسائل ذات الأهمية القصوى مثل الأوضاع الاقتصادية والسياسية.

لكن درجة هذا الاهتمام والآثار المترتبة عليه يختلفان من مجتمع إلى آخر. فحين تكون لدى الشعوب قوة تغيير الوضع الراهن ستسعى المؤسسات إلى التجاوب بفاعلية مع الرسائل التي تحملها الفكاهة السياسية، والتخفيف من أسباب توليد المشاعر الضاغطة على الجماعات، أما في حالات أخرى فإن هذه الرسائل تكون ضعيفة التأثير، وربما لا تجد اهتماماً من الأساس.

المزيد من تحقيقات ومطولات