ملخص
إذا حكمنا من خلال استطلاعات الرأي العام، فإن أربعة أخماس الروس لا يطلقون على هذه الخصخصة سوى وصف "السرقة" ويعدونها "مفترسة" و"معادية للشعب". يتساءل الباقون بكل تواضع: لماذا بينما كان كل شيء حولنا "للشعب"، كانت هناك طوابير ورفوف فارغة في المتاجر، ولكن بعد "نهب روسيا"، أصبح من الممكن العيش فيها، بصورة أو بأخرى، ولو بفقر محتمل؟
يهوى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ممارسة سياسة "العصا والجزرة" مع رجال الأوليغارشية في بلاده، وأحياناً يلاعبهم لعبة "القط والفأر" ويذكرهم بأنه يعرف مصدر النعيم الذي ينعمون به، ومنبع ثرواتهم وأصولهم وأوراقهم المالية التي نهبوها من المال العام قبل اعتلائه سدة الحكم، وبعد تربعه على عرش الكرملين.
لا يترك الرئيس بوتين الذي نصب نفسه قيصراً على "الإمبراطورية" الروسية الشاسعة منذ نحو ربع قرن، مناسبة أو رسالة إلى الأمة أو خطبة بتراء، إلا ويثير فيها موضوع الخصخصة المجحفة لمؤسسات الدولة في تسعينيات القرن الماضي، وآخر مرة ذكر فيها رجال الأوليغارشية باستيلائهم على المال العام ومؤسسات الدولة ومصانعها بأثمان زهيدة لا تتناسب مع أسعارها الحقيقية، كانت خلال لقائه ممثلي أوساط الأعمال الروس، في الـ25 من أبريل (نيسان) الماضي، حين طمأن حاشيته من كبار رجال الأوليغارشية الواقعين مثله تحت نير العقوبات الغربية، بأن إعادة عدد من الأصول إلى الدولة ليس مراجعة لنتائج الخصخصة التي تمخضت عن نظام رأسمالي متوحش في أول دولة اشتراكية في العالم، لا مثيل له في أعتى الرأسماليات الغربية والشرقية على حد سواء.
مصير مشترك في قارب واحد
قال بوتين الذي وجد نفسه فجأة في قارب واحد مع رجال الأوليغارشية في بلاده بمواجهة العقوبات الغربية المتتالية، إن استعادة بعض الأصول المنهوبة مبرر فقط "إذا كانت تصرفات المالك تضر بأمن الدولة"، أي أن ما يحكم شرعية هذه الأصول والثروات ليس طريقة الحصول والاستيلاء عليها، بل كيفية التصرف بها وطبيعة استخدامها، في مصلحة الكرملين وسياساته، أم ضد الحرب التي يشنها على أوكرانيا منذ أكثر من عامين ونيف.
لذلك أكد الرئيس الروسي خلال كلمته في مؤتمر اتحاد الصناعيين ورجال الأعمال وممثلي أوساط الأعمال الروس، أن "عودة بعض الأصول والمصانع والممتلكات إلى ملكية الدولة لا يمكن تبريرها إلا إذا كانت تصرفات المالك تضر بأمن الدولة".
وقال بوتين: "في الآونة الأخيرة، فتحت وكالات إنفاذ القانون عدداً من القضايا لإعادة بعض الأصول إلى ملكية الدولة. أود أن أؤكد أن الأمر لا يتعلق بمراجعة الخصخصة، بل يتعلق بالحالات التي تتسبب فيها تصرفات أو تقاعس أصحاب الشركات والمجمعات العقارية في ضرر مباشر لأمن البلاد والمصالح الوطنية".
ووفقاً له، فإن "الاستيلاء على الشركة" لا يكون مبرراً إلا في مثل هذه الحالات، "ولا توجد أسباب أو أدلة رسمية مقبولة لتفسير المطالبات المرفوعة ضد أصحابها". على سبيل المثال، أعطى بوتين مثلاً في خصخصة بعض الشركات في التسعينيات فقط بالاتفاق مع السلطات الإقليمية، ولكن ليس الفيدرالية، مشيراً إلى أن مجلس الوزراء في ذلك الوقت نأى بنفسه عن المشاركة في هذا الأمر. وأضاف "لم تسيطر الحكومة، ولم تفعل ما كان ينبغي عليها فعله وفقاً للإطار التنظيمي آنذاك، مما يعني أن المطالبات ضد المالكين الحاليين للأصول غير مناسبة". وأضاف "بخاصة لأولئك الذين يعملون بصورة طبيعية وناجحون ويحلون القضايا الاجتماعية ويساعدون في ضمان الأمن القومي".
تقسيم رجال الأوليغارشية إلى "جيدين وسيئين"
على رغم عشرات ومئات الانتقادات التي وجهها لعمليات الخصخصة التي حصلت في عهد سلفه بوريس يلتسين ووصفه لها بعمليات "نهب غير شرعية" للمال العام، فإن بوتين لم يتخذ إجراء واحداً يعيد النظر في مدى شرعية عمليات الخصخصة وتطابقها مع القوانين، ولا في الغبن الهائل الذي ألحقته بحقوق المواطنين، وبرر موقفه الديماغوجي هذا في خطابه الأخير في الـ25 من أبريل الماضي، بأنه لا توجد شكاوى ضد أصحاب الشركات المخصخصة المحترمين الذين يعملون بنجاح ويساعدون في ضمان الأمن القومي للاتحاد الروسي. ومن غير المقبول تطبيق أي أسباب أو أدلة رسمية عليها، على سبيل المثال، إذا تمت خصخصة الأصل في أوائل التسعينيات بالاتفاق مع المنطقة فقط، دون مشاركة المركز الفيدرالي. أي أن هناك رجالاً أوليغارشية "جيدون" يعملون بنجاح ويساعدون في ضمان الأمن القومي للاتحاد الروسي ويخدمون سياسات الكرملين، وآخرون "سيئون" تضر تصرفاتهم بأمن الدولة ومصالحها... وحروبها.
وتابع بوتين قائلاً "لن أقول الآن ما إذا كان قد تم ذلك (الخصخصة) بوعي أم لا، لا يهم". لكن الحقيقة تظل حقيقة. وقال الرئيس الروسي، إن الحكومة لم تسيطر ولم تفعل ما كان ينبغي عليها فعله وفقاً للإطار التنظيمي آنذاك، مما يعني أن المطالبات ضد المالكين الحاليين للأصول غير مناسبة.
طمأنة حاشية الأوليغارشيين
مثل هذا التصريح الواضح من قبل رئيس الدولة الروسية مهم من وجهة نظر راحة بال رجال الأوليغارشية الذين تغولوا على الاقتصاد الروسي وعلى كل مقدرات البلاد وثرواتها. ويعتقد غيورغي أوستابكوفيتش، مدير مركز أبحاث السوق في المدرسة العليا للاقتصاد بجامعة الأبحاث الوطنية، أن هذا يعني مواصلة روسيا انخراطها في النظام الرأسمالي العالمي وتوغلها فيه، على رغم خلافاتها العميقة مع أرباب هذا النظام في الغرب، وأنه لا يوجد اتجاه نحو تأميم الاقتصاد في روسيا، ولن يكون هناك تصفية للأعمال الخاصة لصالح الدولة.
بصورة عامة، بوتين مقتنع بأن نقل ملكية الدولة إلى أيدي القطاع الخاص هو محرك الاقتصاد بخاصة في ظل جام العقوبات التي تنهال على البلاد من معظم الدول ذات الاقتصادات المتقدمة. ويعتبر "القيصر" أن الأعمال التجارية تميل إلى إدارة الأصول بشكل أكثر كفاءة من الدولة. وإضافة إلى ذلك، فإن الخصخصة كانت وما زالت مصدراً جيداً لتجديد الموازنة وتمويل عجزها لا سيما في زمن الحرب. لكنه في الوقت نفسه لا يقبل، بالطبع، بيع الشركات ذات الأهمية الاستراتيجية للبلاد، وبخاصة شركات ومصانع إنتاج الأسلحة والذخائر، وكل ما له علاقة بأمن البلاد وقدرتها على الدفاع عن أراضيها وقرارات حكامها وقيصرها.
لا تأميم
وبصورة منفصلة، ركز الرئيس الروسي على المخاوف التجارية المتعلقة باحتمال إعادة الخصخصة. وأشار إلى أن ضباط إنفاذ القانون فتحوا، أخيراً، قضايا لإعادة بعض الأصول إلى الدولة. وقال "أود أن أؤكد: الأمر لا يتعلق بمراجعة الخصخصة، لقد تحدثنا عن ذلك في الاجتماع السابق، ولكن يتعلق بالحالات التي تؤدي فيها أفعال أو تقاعس أصحاب الشركات والمجمعات العقارية إلى ضرر مباشر بأمن البلاد والمصالح الوطنية".
في وقت سابق، أعلنت محكمة التحكيم في إقليم بيرم، بناء على طلب مكتب المدعي العام المحلي، أن خصخصة مصنع المغنيسيوم سوليكامسك "أس أم زد" في عام 1992 غير قانوني، ثم تم نقل 89.4 في المئة من أسهم المصنع إلى ملكية الدولة من المالكين الأربعة الرئيسين، سيرغي كيربيتشيف وبيوتر كوندراشيف وتيمور ستاروستين وإيغور بيستريكوف. وفي عام 2024، استعادت المحكمة ما يقارب 11 في المئة من أسهم مصنع "أس أم زد"، المملوكة لـ2.3 ألف مستثمر تجزئة اشتروا هذه الأسهم في بورصة موسكو. وكانت المحاكمة هي الأولى من نوعها في السوق. أوضحت محكمة التحكيم في إقليم بيرم الاستيلاء على أسهم "أس أم زد" من مساهمي الأقلية لصالح الدولة من خلال إعلان أن خصخصة الشركة في عام 1992 غير قانونية، بالتالي، لا يمكن اعتبار جميع المعاملات اللاحقة حسنة النية، لأن "الاستحواذ على الأسهم المثيرة للجدل تم في البداية من ملكية الدولة في غياب الأسباب القانونية الموجبة لذلك".
واقترح برنامج أعده رجال الأوليغارشية، وضع قانون التقادم لمدة 10 أعوام لمراجعة معاملات الخصخصة، فضلاً عن ضمان توفير التعويض عن القيمة السوقية عندما يتم الاستيلاء على الأصول من تلك الشركات التي اشترت بحسن نية الأصول التي حصل عليها سابقاً بطرق غير شرعية.
تعويضات لا مراجعات
كان بوتين قد دعا حين ترأس الحكومة من عام 2008 حتى 2012، قبيل إعادة ترشحه لمنصب الرئاسة في عام 2012، لفرض تعويضات على رجال الأوليغارشية لمرة واحدة والانتهاء من قضية "الخصخصة غير العادلة" وإضفاء الصفة القانونية على المالكين الجدد في أعين المجتمع. وأسف بحضور مجموعة كبيرة من المسؤولين الاقتصاديين في الدولة ورجال الأعمال من كافة القطاعات والمستويات، للشرخ الكبير الذي أحدثته عملية خصخصة أملاك الدولة في التسعينيات بين المجتمع وأوساط الأعمال، وتداعيات المرحلة السوفياتية على عقلية المواطن في شأن الملكية الخاصة.
وقال بوتين إنه "يجب علينا أن ننتهي من هذه المرحلة، وأن نطرح خيارات مختلفة تقوم ببحثها الهيئات الاجتماعية والخبراء، لتصاغ بالشكل الذي يتقبله المجتمع للانتهاء من مشكلات التسعينيات في شأن الخصخصة غير العادلة وفرض الضريبة إما على صورة دفعة محددة أو شيء آخر.
وطرح بوتين على الحضور مهمة صياغة خريطة طريق لتحديد عملية تطور البلاد الاقتصادي وتعزيز الوضع القانوني للأعمال، فيما أيد الجميع ضرورة فتح صفحة جديدة في تاريخ أوساط الأعمال في روسيا ووجدوا أن مسألة الحصول على تعويضات من الأثرياء معقدة وصعبة، "كمثل طلب تبرعات من بائعات الهوى لبناء مسجد أو كنيسة".
وقال رئيس بنك "في تي بي" أندريه كوستين المقرب من بوتين، إن "هناك أمراً أساسياً، فأنا لست مالكاً لوسائل الإنتاج لكنني أدرك أن اقتسام الملكيات، مهما كان شكل الخصخصة في التسعينيات، مؤثر جداً. مثل فصل الحدود بين الدول بعد الحرب. وفي هذا المجال هناك أمور مشتركة يجب تعزيزها من أجل المحافظة على الاستقرار في مجتمعنا.
ما أخذ بالتدليس يسترد بالقانون
على رغم مواقف بوتين المتذبذبة وغير القاطعة في استرجاع ما تم خصخصته من أموال الدولة بالتدليس والخداع والرشوة، مما سمح لفئة قليلة من الانتهازيين والمتمولين بالاستيلاء على ممتلكات الشعب والدولة بأثمان بخسة زهيدة، لا يمكن على الإطلاق مقارنتها بالسعر الحقيقي للأصول التي تم الاستحواذ عليها، تستمر إجراءات إنفاذ القانون. فخلال العام الماضي، رفع مكتب المدعي العام بصورة متكررة دعاوى قضائية لتحويل الشركات الصناعية الخاصة إلى ملكية الدولة في ما يتعلق بالخصخصة غير القانونية. وإحدى أحدث الحالات هي مصنع "إيفانوفو" للآلات الثقيلة، الذي، كما ادعى مكتب المدعي العام، انتقل إلى أيدي القطاع الخاص من دون الحصول على إذن من الحكومة. ولسبب مماثل، طالبت الإدارة في أوائل فبراير (شباط) الماضي، بمصادرة ثلاثة مصانع تابعة لمصنع "تشيليابينسك" للمعادن الكهربائية. وفي الـ26 فبراير (شباط)، نقلت المحكمة أسهم مجموعة مصانع ChEMK "شميك" إلى الدولة.
وأمام هذا الوضع القانوني المعقد، لم يجد الرئيس الروسي مخرجاً إلا التأكيد، أنه لا يمكن التنازل عن شيء يساوي الملايين أو حتى المليارات مقابل القليل من المال.
وقال بوتين خلال اجتماعه مع زعماء الكتل البرلمانية في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، "إن نموذج الخصخصة في التسعينيات غير مقبول بالنسبة لروسيا الحديثة". وأوضح أنه من المستحيل بيع الإنتاج والمؤسسات التي تبلغ قيمتها ملايين أو حتى مليارات الروبلات "مقابل ثمن زهيد".
وأشار الرئيس الروسي إلى أن "الخصخصة نفسها، مثل الخصخصة المبكرة، وبخاصة الطريقة التي تمت بها في التسعينيات في بعض المجالات، غير مقبولة بالنسبة لنا، ويجب أن تكون مفيدة للاقتصاد وتحسن هيكله". وشدد الرئيس على أنه في المحادثات التي دارت في المطابخ، تذكر الناس الخصخصة في التسعينيات والترف المتفاخر للنخب الجديدة.
العقوبات تكشف نقمة الأكثرية
لم يشعر أي من الروس العاديين بالأسف تجاه أولئك الذين فقدوا رؤوس أموالهم في البنوك الأجنبية وغيرها من الأصول في الخارج. صرح بذلك الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في رسالته إلى الجمعية الفيدرالية في ديسمبر (كانون الثاني) الماضي. وقال في رسالته "لم يشعر أي من المواطنين العاديين في روسيا بالأسف على أولئك الذين فقدوا رؤوس أموالهم في البنوك الأجنبية، ولم يشعروا بالأسف على أولئك الذين فقدوا يخوتهم وقصورهم في الخارج، وفي المحادثات التي جرت في مطابخهم، تذكر الناس الخصخصة في التسعينيات".
وأشار إلى أنه خلال عملية الخصخصة في التسعينيات، تم بيع الشركات التي أنشئت في جميع أنحاء البلاد مقابل لا شيء تقريباً. وفي حديثه عن حقيقة أن أياً من الروس لم يشعر بالأسف تجاه الأشخاص الذين ذكرهم، أشار بوتين إلى أن هذا شيء بسيط ولكنه مهم للغاية.
وللخروج من هذا المأزق، اقترح رئيس بنك "في تي بي" أندريه كوستين، مرحلة جديدة من الخصخصة في روسيا. ودعا إلى استخدام الأموال الناتجة في إنشاء نموذج اقتصادي جديد ليحل محل النموذج الذي تطور على مدار الـ30 عاماً الماضية ودمرته العقوبات. وقال المصرفي، إن نقل ملكية الدولة إلى أيدي القطاع الخاص بشروط شفافة وسوقية هو أداة أثبتت فعاليتها مراراً وتكراراً.
تاريخ الخصخصة
في الثالث من يوليو (تموز) المقبل، تبلغ الخصخصة الروسية عامها الـ33. في مثل هذا اليوم من عام 1991، اعتمد المجلس الأعلى لروسيا، الذي كان لا يزال جمهورية روسيا الاتحادية الاشتراكية السوفياتية، أول قانون معياري ينظم ذلك، وهو قانون "خصخصة مؤسسات الدولة والبلديات".
وإذا حكمنا من خلال استطلاعات الرأي العام، فإن أربعة أخماس الروس لا يطلقون على هذه الخصخصة سوى وصف "السرقة" ويعدونها "مفترسة" و"معادية للشعب". يتساءل الباقون بكل تواضع: لماذا بينما كان كل شيء حولنا "للشعب"، كانت هناك طوابير ورفوف فارغة في المتاجر، ولكن بعد "نهب روسيا"، أصبح من الممكن العيش فيها، بصورة أو بأخرى، ولو بفقر محتمل؟
إن عدم إنسانية الرأسمالية الروسية الوليدة أمر يعترف به الجميع، وليس فقط الشيوعيون المتشددون خصوصاً. الخلاف يدور حول أساليب ونتائج الخصخصة وما أسفرت عنه من إرساء نظام رأسمالي متوحش، تتحكم فيه قلة قليلة بأرزاق ومصائر الأكثرية الساحقة من الشعب.
التردد والتصميم
في التاريخ المذكور أعلاه، كان لم يتبقَ سوى أسبوع واحد على موعد تنصيب بوريس يلتسين رئيساً، ولكن كان من المهم بالنسبة لأول رئيس منتخب لروسيا الخارجة للتو من العباءة السوفياتية أن يثبت أنه لم يتم اختياره عبثاً، فقد انتهت فترة عدم اليقين والوقت المحدد، وبدأت الإجراءات الحاسمة في عملية الطلاق مع كل ما هو شيوعي وسوفياتي.
ولم يكن إقرار قانون الخصخصة آنذاك حدثاً مهماً في نظر الناس. عاشت البلاد مع "هاجس الحرب الأهلية". لقد أدرك الجميع أن القضية الأساسية كانت مسألة السلطة، واعتماداً على كيفية حل هذه القضية، فإن الطريق إلى الخروج من الأزمة الاقتصادية سيتحدد عبر إصلاحات السوق، أو "تعزيز انضباط الدولة" و"مكافحة التربح". كان هناك شيء واحد واضح: الوضع القائم لا يمكن أن يستمر لفترة طويلة.
لم يتخذ ميخائيل غورباتشوف أي خيار قط. تم التعبير عن الفكرة الاقتصادية الرئيسة المخادعة للبيريسترويكا (إعادة الهيكلة) من قبل، ألكسندر ياكوفليف، الذي كان يعتبر عميل الرأسمالية الأول داخل المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفياتي، فاعتمد عبارة "خذ خطة جيدة قليلاً، وسوقاً جيدة قليلاً".
لم يتعلم الرئيس الأول والأخير لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية نطق عبارة "الملكية الخاصة" من دون تردد إلا بعد انقلاب أغسطس (آب) 1991 الذي كان يهدف لإقصائه عن السلطة.
ومن خلال "عناصر السوق"، كان مهندسو البيريسترويكا يفهمون التمويل الذاتي في المؤسسات المملوكة للدولة إضافة إلى التعاونيات، والتعاقد الجماعي في المناطق الريفية، ونشاط العمل الفردي، إذ يكون العمال مالكين في الوقت نفسه. إن استخدام العمل المأجور في القطاع الخاص كان بمثابة "استغلال الإنسان للإنسان" من قبل الشيوعيين، بالتالي فهو بدعة غير مقبولة.
قصة الخصخصة والانقلاب على الاشتراكية
في الـ28 من أكتوبر (تشرين الأول) 1991، أعطى المؤتمر الخامس لنواب الشعب في جمهورية روسيا الاتحادية الاشتراكية السوفياتية، بغالبية 876 صوتاً مؤيداً و16 صوتاً معارضاً، يلتسين صلاحيات الطوارئ، بما في ذلك الحق في تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية من خلال مراسيم رئاسية.
لكن، وفي غضون أشهر قليلة وجد غالبية النواب أنفسهم في معارضة الرئيس وإصلاحاته. وفقاً للصحافيين الذين عملوا في المؤتمر، كانت هناك محادثات على الهامش جرت على النحو التالي: دعه يفعل ما يريد، الآن لا يمكنك الجدل معه على أي حال، ولكن عندما يبدأ إفقار الجماهير، فإننا سنتخلص منه.
وفي الـ29 من ديسمبر 1991، و29 يناير 1992 أصدر رئيس الجمهورية المرسومين رقم 341 و66 اللذين أطلقا عملية للخصخصة وشرعا الباب لعملية النهب العشوائية للمال العام ولممتلكات الشعب ومدخراته وكل إنجازاته الاشتراكية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مهندسو الخراب بحجة الإصلاحات
في أمسية شتوية باردة كان الثلج يتساقط فيها بكثافة، وبعد اجتماع حكومي آخر أخذ إيغور غيدار مهندس "الإصلاحات" المرة والسامة أناتولي تشوبايس جانباً وطلب منه البدء بالخصخصة.
إيغور أجاب تشوبايس مع تنهد عميق، "هل تفهم أنه بغض النظر عن النتيجة، سأظل مكروهاً طوال حياتي باعتباري الشخص الذي باع روسيا؟"، فأجاب غيدار: "علينا جميعاً أن نشرب من هذه الكأس المرة".
في البداية، استقرت لجنة أملاك الدولة في الغرف الشتوية غير المدفأة المعرضة للتيارات الهوائية في مبنى "الكتاب" في شارع أربات الراقي.
يتذكر المستشار الأميركي جوناثان هاي الذي حضر ليعلم عملاءه "ألف باء الرأسمالية" والطريق الأسرع لتخريب اقتصاد البلاد ونهبه "لم يكن لدينا تدفئة، ولا آلة تصوير، ولا جهاز فاكس، ولا طعام".
"اعمل كما لو أن كل يوم هو يومك الأخير، وعليك أن تبذل قصارى جهدك لجعل التغييرات لا رجعة فيها"، هكذا أوعز تلميذه تشوبايس لموظفيه.
الطريق نحو الجلجلة
لم يمر أحد في العالم بتجربة ترك اشتراكية الدولة، فهذا الانقلاب الاقتصادي-السياسي لا سابق له في التاريخ ولا في الجغرافيا. لم تكن هناك أيضاً تطورات نظرية: بالنسبة إلى الغرب، لم يكن الموضوع ذا صلة، وفي البلدان الاشتراكية، لأسباب واضحة، لم يكن من الممكن مناقشة مثل هذا البحث.
وفقاً للمصرفي ألكسندر سمولينسكي، فقد تم تأليف كثير من الكتب حول كيفية بناء الاشتراكية، ولكن لم يتم تأليف كتاب واحد حول كيفية تفكيكها والخروج منها.
إن أكبر عملية خصخصة في تاريخ الغرب، هي تلك التي نفذتها رئيسة وزراء بريطانيا مارغريت تاتشر، والتي حلت مقارنة بالمشكلة الروسية، مشكلة مستهدفة وسهلة. لأنه قبل تاتشر، كان 90 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي البريطاني يتم إنشاؤه في القطاع الخاص. كان لدى البلاد رأس مال حر، وسوق للأوراق المالية، وإطار قانوني متطور، وثقافة أعمال عمرها قرن من الزمان.
ويبدو أن الصين وأوروبا الشرقية كانتا أقرب إلى الواقع الروسي. لكن حتى هناك كان الوضع مختلفاً جذرياً.
لم تكن هناك مثل هذه المجموعة الضخمة من الصناعات الثقيلة، العسكرية في المقام الأول، التي لا تناسب بطبيعتها مع اقتصاد السوق الرأسمالي الاستهلاكي.
استمر تراكم الإنجازات الاشتراكية 70 عاماً، لكن اتصال الأوقات لم ينقطع بعد، بقي الناس الذين يتذكرون حياتهم السابقة وطمأنينتهم إلى غدهم، واستقرارهم الاجتماعي والاقتصادي. فضلاً عن ذلك فقد كانت الصين تتمتع بحكومة قوية، وفي أوروبا الشرقية ودول البلطيق تزامن "العلاج بالصدمة" والخصخصة مع انتفاضة وطنية ناجمة عن أوهام التحرر من نظام احتلال أجنبي. ففي اليوم الذي أعلنت فيه ليتوانيا استقلالها، قال سكان العاصمة فيلنيوس إنهم من أجل الحرية مستعدون، إذا لزم الأمر، للسير حفاة وجائعين لبعض الوقت.
لكن في روسيا كانت الصعوبات التي واجهتها الفترة الانتقالية مقترنة بالشعور بالإهانة الوطنية نتيجة لانهيار قوة عظمى، كما حدت ديكتاتورية السوق والجوع والفوضى العشوائية من فرص وضع حد لعجلة الناهبين والأثرياء الجدد الذين كانوا يتوشحون بعباءة الإصلاحيين.
وأياً كان ما فعلوه، فإن أياً من قراراتهم لم تكن محل نزاع على الفور أو موضوعاً في الأقل لانتقادات لاذعة، لأن عمليات النهب والرشوة والسرقة والاستيلاء على المال العام كانت تتم تحت شعار "الإصلاح".
بمجرد أن أنشأ بوريس يلتسين "لجنة أملاك الدولة" برئاسة تشوبايس، أنشأ النواب صندوق الملكية الفيدرالية الروسي، الذي يسيطر عليه المجلس الأعلى، مما أدى إلى ارتباك في الشؤون ونزاعات لا نهاية لها حول السلطات والصلاحيات.
وبسبب مقاومة الفصائل البرلمانية اليسارية، لم يتم تقنين الملكية الخاصة للأراضي إلا في عهد فلاديمير بوتين الذي سار قدماً في عمليات الخصخصة رغم معرفته بالغبن الذي تلحقه بعامة الشعب و"بعمليات" النهب التي ترافقها.
تعدد خيارات نهب المال العام
تم اقتراح ثلاث طرق للخصخصة، ولم يكن أي منها غير قابل للجدال.
الطريقة الأكثر منطقية وانتشاراً في العالم هي بيع ممتلكات الدولة بأموال حقيقية لأولئك الذين يدفعون أكثر، مع إضافة العائدات إلى الموازنة واستخدامها لاحقاً للحاجات العامة. وهذا بالضبط ما فعلته مارغريت تاتشر.
كان غيدار وتشوبايس في البداية من أنصار تلك الطريقة. في الرابع من أبريل 1992، سافروا بالطائرة إلى مدينة نيجني نوفغورود إذ كان ربيب يلتسين، اليميني بوريس نيمتسوف حاكماً، لحضور أول مزاد في روسيا لبيع المحال التجارية وصالونات مصففي الشعر ومصانع الشاحنات، وكانوا سعداء بنتائجه.
ومع ذلك، استقبل العاملون في خدمة المستهلك أعضاء الحكومة بملصقات: "ارفعوا أيديكم عن التجارة السوفياتية" و"ابحث عن مدينة أخرى لتجاربك"، لقد أرادوا من الشركات الصغيرة أن تقدم أشياء مجانية لأولئك الذين يعملون لديهم.
بصورة عامة، كانت فكرة بيع ممتلكات الدولة مقابل المال لا تحظى بشعبية كبيرة. منذ الطفولة، تم تعليم الناس أن "كل ما حولنا هو للشعب، كل ما حولنا هو لكم"، وإذا كانت الدولة "ضغطت" على ممتلكاتنا، فدعها تعيد المسروقات. ادفع مقابل ماذا؟
ومن الناحية العملية، في السنوات الأولى ما بعد الاتحاد السوفياتي، لم يكن هناك ببساطة أي أشخاص في البلاد، أغنياء بالقدر الكافي لشراء الشركات، ولم يكن المستثمرون الأجانب في عجلة من أمرهم لدخول بلد لا يمكن التنبؤ به وغير مفهوم. إضافة إلى ذلك، تسببت فكرة "بيع الوطن للأجانب" برفض جماعي.
وكان الخيار الثاني هو نقل المؤسسات إلى ملكية التعاونيات العمالية. تم الترويج لهذا الخيار بنشاط، على وجه الخصوص، من قبل المتخصصة في الشأن الاقتصادي لاريسا بياشيفا، التي اشتهرت في عام 1987 بالعبارة الشهيرة: "كلما كانت السوق أكبر، كانت الفطائر أكثر روعة".
كان من الواضح أنه في هذه الحالة سيصبح قادة التعاونيات العمالية قريباً المالكين الحقيقيين. حتى إنه كانت هناك مقترحات بعدم الفلسفة على الإطلاق، ولكن لاتخاذ وإعلان جميع الشركات ملكية شخصية لمديريها، ثم السماح للسوق نفسها باختيار القادرين.
وهنا ظهرت الأسئلة مرة أخرى. اتضح أن العمال في مجال إنتاج المواد فقط هم الذين سيتمكنون من المشاركة في الخصخصة.
ولم يكن من يسمون أنفسهم الإصلاحيين الشباب راضين بصورة قاطعة عن نقل السيطرة على الاقتصاد إلى أيدي "المديرين الحمر". لقد أرادوا الحصول على فئة من الملاك الجدد نتيجة للخصخصة، غير مثقلين بالماضي السوفياتي وعلم النفس الاشتراكي.
وفي الوقت ذاته، خلال "الخصخصة التلقائية"، بحلول صيف عام 1992، كانت نحو 2200 شركة انتقلت بالفعل إلى أيدي المديرين والأشخاص المقربين منهم. ونتيجة للتسوية بين "فريق تشوبايس" والمجلس الأعلى، إذ كان "لوبي المدير" قوياً، نفذ هذا الخيار جزئياً، في المصانع والمصانع الفردية، إذ تم حجز جزء من الأسهم لموظفيها.
خدعة القسائم (فاوتشر)
كانت الطريقة الرئيسة لمهندسي الخصخصة هي توزيع ممتلكات الدولة من خلال شيكات الخصخصة، المعروفة باسم القسائم. وقع بوريس يلتسين المرسوم المقابل في الـ14 من أغسطس (آب) 1992. وقال "إن الشيك هو بمثابة تذكرة عبور إلى اقتصاد حر لكل واحد منا".
وبحلول أكتوبر، تمت طباعة أوراق جميلة. وحصل كل روسي، بما في ذلك الأطفال الرضع، على قسيمة واحدة.
وقدرت قيمة جميع ممتلكات الدولة التي تمت خصخصتها بمبلغ تريليون و400 مليار روبل. مقابل هذا المبلغ، كان على الشركات إصدار أسهم، التي كان من المقرر تبادل قسائمها بحلول نهاية عام 1993. تم تحديد كلفة كل منهم بـ10 آلاف روبل (نشأ هذا الرقم نتيجة قسمة قيمة الممتلكات المخصخصة على عدد المواطنين). ورفض المتمولون والنافذون والمندفعون لاستغلال سذاجة البسطاء، اقتراح جعل القسائم شخصية، لمنع شرائها وتركيزها والمتاجرة بها ونهبها في النهاية. وعلى العكس من ذلك، كان التداول بالقسائم أمراً مرغوباً فيه بحجة إنعاش سوق الأوراق المالية وتسريع عملية الخصخصة.
وتبادل بعض العمال القسائم مباشرة مقابل أسهم في مؤسساتهم الخاصة. ولم يعرف الباقون ماذا يفعلون وإلى أين يذهبون بهذه القسائم. وباع البعض قسائمهم للمشترين المتجولين بمتوسط سعر أربعة آلاف روبل، أي بثمن نحو زجاجتي فودكا. وسرعان ما دخلت هذه الأوراق المالية إلى البورصة على صورة حزم كبيرة. حقق بعض المستغلين ومن يسمون "رواد الأعمال الروس" أول ثرواتهم الكبيرة من خلال تداول هذه القسائم تحديداً.
وأودع آخرون قسائمهم في صناديق استثمار الشيكات الناشئة. كان من المفترض أن المتخصصين المؤهلين الذين يعملون هناك سينقذون المواطنين من كل المتاعب: سيشترون الأسهم، ويحاولون عدم وضع كل بيضهم في سلة واحدة، وسيحصلون على أرباح وتوزيعها على المساهمين بحسب عدد القسائم المستثمرة مطروحاً منها أسهمهم.
وكانت المشكلة أنه في ذلك الوقت، حتى على الأسهم الحقيقية للشركات الروسية، لم تكن أرباح الأسهم تدفع على الإطلاق أو كانت اسمية. لذلك، باعت صناديق الاستثمار، في معظم الحالات، الأسهم وجمع القسائم في البورصة لتغطية النفقات التنظيمية، وعاش البعض "حياة شبحية" لفترة من الوقت، ثم اختفوا بهدوء.
بصورة عامة، نشأ سوء تفاهم كبير بين الحكومة والمواطنين حول هذه القضية. رأى الإصلاحيون في القسيمة فرصة للجميع لتجربة أنفسهم في عالم الفرص الرأسمالية، والناس كالتزام الدولة بمنحهم "حصة" معينة من دون بذل جهد إضافي من جانبهم.
بالنسبة لليبراليين الروس، أصبح أناتولي تشوبايس شخصية معبودة، لأن خدعته التي انطلت على المواطنين في تحول روسيا إلى الرأسمالية لا يمكن مقارنتها إلا مع ما فعله يلتسين سياسياً من هدم النظام الاشتراكي.
حيلة مزادات القروض مقابل الأسهم
وبنهاية عام 1993، أصبحت 5603 شركات كبيرة ومتوسطة الحجم تضم 15 مليون موظف، أصحاب أسهم مشتركة. ومع ذلك، فإن أهم عملية خصخصة لم تكن ملحمة القسائم، بل حيلة مزادات القروض مقابل الأسهم في عام 1996.
أصدر المصرفيون الروس، الذين حصلوا بالفعل على رأس المال الأولي بحلول ذلك الوقت، قروضاً للدولة بضمان أكبر الشركات وأكثرها ربحية ومضمونية، بخاصة في مجال إنتاج النفط وصناعة التعدين.
ولم يكن سراً أن الحكومة لن تسدد الديون، وعند انتهاء الفترة المحددة، ستصبح الشركات ملكاً للدائنين.
وكانت المشاركة في مزادات القروض في مقابل الأسهم سبباً في تحويل دائرة ضيقة من الأثرياء ببساطة إلى "أنصار حكم القلة" الأقوياء، أي رجال الأوليغارشية الذين لم يتجاوز عددهم عدد أصابع اليدين في ذلك الوقت لكنهم كانوا أقوى من الدولة نفسها مالياً. ووفقاً لكثيرين، فقد شكر بوريس يلتسين "مصرفيي البلاط" على دعمهم السخي له خلال الحملة الرئاسية الانتخابية عام 1996، التي تمكن فيها من الفوز بصعوبة على زعيم الحزب الشيوعي غينادي زوغانوف بفارق ضئيل.
هناك وجهة نظر أخرى، ففي وقت لاحق، قال أحد أعضاء "المصرفيين السبعة" السابقين ألكسندر سمولينسكي، إنه نظراً إلى الإدارة السيئة والمعدات القديمة وعبء الالتزامات الاجتماعية، فإن مئات الملايين من الدولارات المدفوعة للشركات كانت "أموالاً مجنونة" وأموالها المجنونة، الرسملة العالية الحالية هي ميزة للمالكين الجدد.
ومع ذلك، يعتقد معظم المؤرخين أن النفعية السياسية لعبت دوراً عند إجراء مزادات القروض مقابل الأسهم.
يشتهر أناتولي تشوبايس بقوله المخادع، إنه لا يمكنك صنع حوت واحد من ألف سمكة رنجة.
لمحاربة المعارضة الشيوعية القوية، لم يكن الكرملين في حاجة إلى عدد كبير من ملايين صغار الملاك، المفككين وغير السياسيين تقليدياً في روسيا، بل إلى كبار رجال الأعمال القادرين على تعبئة الموارد المالية والإعلامية بسرعة، وهو ما فعلوه في عام 1996، عندما تعرضت سياسات يلتسين لاختبار صعب وتحديات كبيرة، ومعه كانت الرأسمالية الروسية معلقة بخيط رفيع.
وبطبيعة الحال، كان لهذه الميدالية وجه آخر أكثر قتامة وخطورة. إذ أصبح أفراد حكومة القلة أقوياء للغاية، حتى إنه في النصف الثاني من التسعينيات ظهرت نكتة حول تغيير المكتب السياسي إلى "أوليغبورو" إلى مكتب الأوليغارشيين الذين كانوا يديرون البلاد بالفعل.
وعند وصول فلاديمير بوتين إلى السلطة في أواخر عام 1999، قلل بصورة كبيرة من النفوذ السياسي للشركات الكبرى لكنه لم يلغه تماماً، وطارد عدداً من رجال الأوليغارشية في وقت كان يستولد ويربي فيه جيلاً جديداً منهم. ويعتقد بعض الروس أن المنافسة السياسية وحرية التعبير أصبحت أيضاً ضحية لهذا الصراع.
الحياة اليومية للرأسمالية
بعد إحكام قبضته على السلطة، بدأ بوتين بالتخلص تدريجاً من "حكم" الأوليغارشية، وأوقف أو أبطأ تخلي الدولة عن سيطرتها على المؤسسات الإنتاجية الاستراتيجية، وبخاصة في مجال الدفاع والأسلحة، وحاول في السنوات الأخيرة استعادة السيطرة على القطاعات الرئيسة للاقتصاد: إنتاج النفط والغاز والنقل، وأكبر البنوك، ومعظم الهندسة الميكانيكية، والسكك الحديد، والنقل الجوي والبحري. ويصف رجال الأوليغارشية الذين تم تقليم بعض أظافرهم وليس كلها، الوضع الحالي في الاقتصاد الروسي بأنه رأسمالية الدولة ويدعون إلى وضع حد له.
وزير المالية السابق أليكسي كودرين، الذي يعتبر منظر الليبراليين الجدد والمقرب شخصياً من بوتين، لا يزال ينادي بأعلى صوته وبكل ما يمتلك من حجج ونظريات، بأن البلاد يجب أن تواجه موجة ثانية من الخصخصة الجماعية، وبأن الخصخصة هذه المرة يجب أن تتم "على طريقة تاتشر".
جدل عقيم
"إصلاحات" التسعينيات التي قدمت ثروات البلاد الباطنة والظاهرة ومصانعها ومؤسساتها المنتجة على طبق من ذهب لقلة من رجال الأوليغارشية، الذين اغتنوا بين ليلة وضحاها على حساب إفقار الأكثرية الساحقة من الشعب الروسي، مهما نظرت إليها، ومن أي زاوية، سترى أنها تمخضت عن سوق مسخ مشوهة، ونظام رأسمالي متوحش، وملاك غير فعالين كل همهم منحصر في تحقيق ثروات سريعة وكبيرة، والاحتيال على بعض قواعد اللعبة الرأسمالية وجاذبية الاستثمار، لذلك وصلت الحياة اليومية للرأسمالية الروسية إلى أكبر وأعمق مأزق فساد، يعشش في كل المؤسسات الحكومية وغير الحكومية، ويصعب التخلص والشفاء منه، لأنه مثل السرطان ملازم لهذا النظام الاقتصادي الذي بني على الغش والنهب والاستغلال والمحاباة.
منذ التسعينيات، أثار المجتمع الروسي باستمرار مسألة استعادة العدالة، ومراجعة نتائج الخصخصة وإعادة الممتلكات الوطنية المأخوذة منه ظلماً إلى الشعب المسروق. الحكومة الروسية التي كانت مجبرة على الاستماع إلى مثل هذا المنطق صمت آذانها وتجاهلت الأمر ولم تقم بأي خطوة فعلية في هذا الاتجاه، وجاء بوتين، أخيراً، ليقدم صكوك الغفران لرجال الأوليغارشية الذين وجد نفسه معهم على قارب واحد في بحر العقوبات الغربية والعالمية.
لقد كانت مسألة العدالة دائماً نقطة حساسة للشعب الروسي، وهذا بارز في الأدب الروسي العظيم، لا سيما في رواية "الجريمة والعقاب" للكاتب الكبير فيودور دوستويفسكي.
لماذا كانت الخصخصة غير شريفة، ومن حصل على ثروات ومال الشعب وكيف، ومن سرق ضرع الوطن الأم ولماذا؟ هذه أسئلة ستبقى تتردد على ألسنة الروس لأجيال وأجيال، لأن تاريخ الخصخصة في روسيا هو تاريخ الجريمة والخيانة الوطنية العظمى.
ما تردد ويتردد اليوم عن عدم شرعية عمليات الخصخصة التي تشبه عمليات تشريع النهب كان وما زال مجرد جدل عقيم، كل يجادل فيه لغاية في نفسه، فبوتين يجادل في الأمر ليبقي سيف الكرملين مصلتاً على رقاب رجال الأوليغارشية المستعدين في كل لحظة لارتكاب جرم الخيانة الوطنية مقابل تأمين مصالحهم، والعلماء، والاقتصاديون يتحدثون عن ذلك ليؤكدوا كشفهم الأكاديمي لما تم في ليل مظلم وظالم، والمواطنون يجادلون في ذلك لتغطية عورات فقرهم وتسلية نسائهم وبعضهم بعضاً بقصص تشبه الأساطير المنفلتة من غياهب "ألف ليلة وليلة" أو مغارة "علي بابا والأربعين حرامي".