ملخص
اشترك المصريون في أمنيات حالمة بأن يتأخر التعويم المرتقب أو يتعثر أو يجري نسيانه أو تجاوزه في الأقل لما بعد رمضان
وقع فأس التعويم في رأس المصريين، نزل عليهم قرار التعويم الجديد نزول الصاعقة، وهم من كانوا يأملون أن تمر سلسلة المشروعات الاستثمارية الكبرى والشراكات المتعددة الجنسيات العظمى ومليارات الدولارات التي لاحت في الأفق مرور الكرام على التعويم، أو كما يقول البسطاء أن يجعل كلام المليارات خفيفاً على الجنيه المتحير المتعثر المتعسر.
أربعاء لكنه خميس
ولأنه كان يوم الأربعاء، أي لم يكن الخميس الذي بات المصريون يتوجسون منه خيفة، خشية قرار إلغاء دعم هنا أو زيادة تعريفة كهرباء ووقود هناك أو تعويم بات في السنوات السبع الأخيرة "بعبع المصريين"، فقد نزل القرار "المفاجئ" للبنك المركزي المصري في اجتماعه "الاستثنائي" برفع الفائدة بواقع ستة في المئة، لتبلغ 27.75 في المئة نزول الصاعقة. وتأكد أن اليوم الأربعاء فعلاً، لكن بنكهة الخميس. وفي الجلسة ذاتها، أعلن البنك المركزي المصري السماح بتسعير العملات الأجنبية بحسب آليات التسعير الحر.
عنصر المفاجأة في القرار وصفة "الاستثنائية" في الاجتماع، اللذان جرى التلويح بهما في "الخبر العاجل" الذي زين المواقع الخبرية، وركض أسفل الشاشات التلفزيونية، وقفز بـ"البنك المركزي" ليكون سيد الـ"ترند"، أفسدا القليل المتبقي من تشبث المصريين بفرحة رمضان.
رمضان هذا العام يأتي في ظروف اقتصادية يقول المصريون إنها الأصعب، ويصفها الاقتصاديون بأنها الأعقد. وعلى رغم أنه جرت العادة أن تتعالى شكاوى الشارع في مثل هذه الوقت من كل عام، تارة لارتفاع أسعار المكسرات أو لجنون تسعير اللحوم والدواجن أو لقيود جرى فرضها على استيراد الفوانيس، فإن ما صدر عن الشارع هذا العام لم يكن شكاوى بقدر ما كان تأوهات مخلوطة ببصيص أمل، أمعنت الحكومة في تسويقه على مدار الأيام القليلة الماضية متمثلاً في مشروعات استثمارية كبرى بدت وكأنها طوق نجاة مرصع بقبلة حياة ومكلل بابتسامة باهتة عرفت طريقها، أخيراً، إلى الوجوه الواجمة.
الابتسامة الكبيرة التي زينت وجه الرئيس السيسي والحديث الضاحك قبل نحو أسبوع في فعالية "قادرون باختلاف" المخصصة لذوي الهمم وهو يمازح رئيس الوزراء مصطفى مدبولي ويسأله إن كانت الأموال قد دخلت الصندوق (صندوق قادرون باختلاف)، ثم يطلب منه "جزءاً كبيراً" بعد دخول مئات المليارات، فـ"سأل مدبولي: مليار؟ فرد الرئيس: مليار إيه يا دكتور؟! أنت أخذت مئات المليارات. مش أنت ماسك (مسؤول) الصندوق هذا الصندوق؟ أقول أنا، 10 مليار جنيه"، جعلا البعض من البسطاء يعتقد أن فصلاً صعباً قد طُوي، وآخر سلسلاً قد بدأ.
غير البسطاء احتفظوا بوجلهم وأبقوا على توجسهم، لا سيما في ظل ضبابية تفاصيل المشروعات الكبرى الجديدة، إضافة إلى معرفة شبه يقينية بأن المشروعات في حد ذاتها ليست الحبر الذي تكتب به كلمة "النهاية" للأزمة الاقتصادية.
لكن الجميع اشترك في أمنيات يمكن وصفها بـ"الحالمة" أو "المحلقة" أو "غير الواقعية" بأن يتأخر التعويم المرتقب أو يتعثر أو يجري نسيانه أو تجاوزه في الأقل لما بعد رمضان. البعض برر أمنياته بأن تنخفض الأسعار التي جن جنونها كثيراً أو حتى قليلاً، حتى إذا ما جاء التعويم، تسبب في بعض الألم، ولم يضرب القاعدة العريضة من الناس في مقتل.
البعض الآخر توقع، بل نشر نبوءته على منصات الـ"سوشيال ميديا" بأن على الجميع أن يضع حمله الثقيل من متاعب وآلام الأزمة الاقتصادية الطاحنة على خاصية "التأجيل" أو "التجميد" إلى ما بعد رمضان، اعتماداً على أن الحكومة لن يهون عليها أن تفسد ما تبقى من مصادر بهجة شحيحة، ومنها الشهر الكريم أو أن حلحلة الأزمة الاقتصادية الضاغطة بإبرام صفقة رأس الحكمة سيجبر صانعي القرار على إرجاء أي قرارات من شأنها أن تنكد على المواطنين، لا سيما أن سيل النكد قد بلغ الزبى، وذلك ضمن قائمة طويلة مما يمكن أن يطلق عليه "تفكير الأمنيات".
قلة قليلة فقط هي من كانت تدرك أن نيل الأماني لا يحدث بالتمني، وهي القلة التي نجت من صدمة التعويم، وأفلتت من جزعة التوقيت، وكلتاهما تبعته ضربة إبرام اتفاق قرض "الصندوق".
الصندوق والتوقيت
"الصندوق" في الشارع المصري هو "صندوق النقد الدولي". والقرض هو أي قرض يجري التفاوض حوله أو الاختلاف عليه أو إبرامه. قيمة القرض، التي بلغت هذه المرة ثمانية مليارات دولار أميركي، لا تهم الغالبية.
الغالبية حين تتحدث عن "الصندوق" و"القرض" في أي من المرات السابقة التي توصلت فيها مصر إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي، تتناول قائمة من المخاوف: مخاوف تضخم الديون، ومخاوف العجز عن السداد، ومخاوف توريث الفقر والضغوط الاقتصادية، ومخاوف التدخل في قرارات مصر الاقتصادية، ومخاوف الوصاية، وغيرها.
لكن معظم الخبراء، سواء الداعمون والمبررون للقرارات الاقتصادية الأخيرة أو المعارضون والرافضون لها، يؤكدون أن الصندوق ليس قوة احتلال أو جهة وصاية، حتى وإن كان يعتنق توجهات رأسمالية معينة ويؤمن بعلاجات اقتصادية تتسم بقدر عال من المرارة.
مرارة فقدان الجنيه المصري نحو ثلث قيمته أمام الدولار في غضون سويعات قليلة بعد اجتماع البنك المركزي "الاستثنائي" وصدور قراراته المفاجئة في الأيام القليلة السابقة لشهر رمضان الذين ينتظره المصريون بشوق ولهفة لا تناقضها سوى "حلاوة" التصريحات الرسمية التي تصف قرارات المركزي بـ"الصائبة" و"الراجحة" وغيرها من النعوت التي يفترض أن تطمئن الجموع القلقة والمتفاجئة.
رئيس الوزراء مدبولي قال إن من شأن قرارات المركزي والتنسيق بينه والحكومة خفض معدلات التضخم، وضبط الدين والانتقال به إلى مسار نزولي، جنباً إلى جنب مع "الاستمرار في إجراءات برنامج الإصلاحات الهيكلية الذي يركز على دفع قطاعات الصناعة والزراعة والاتصالات، مع استمرار السياسات الداعمة لزيادة مساهمة القطاع الخاص في الاقتصاد المصري".
لكن الاقتصاد المصري ومعه المواطن ما زالا في مرحلة الصدمة. صدمة الأول مستمرة منذ ما يقارب عامين، هما طول الفصل الأصعب والمرحلة الأطول في مسيرة أزمات مصر الاقتصادية في التاريخ المعاصر. إنها فترة اختلال أسعار الصرف، وارتفاع التضخم لنسب غير مسبوقة، وذلك لأسباب بعضها خارجي يتعلق بآثار الوباء وصراع أوكرانيا وحرب غزة.
أما البعض الآخر فداخلي، وهو ما تحول إلى مثار شد وجذب بين من يرى أن الحظ لم يحالف مصر في مسيرة التنمية والبناء من جهة، ومن يعتبر أن الحظ بريء من الاتهام، وأن أخطاء الإدارة وسوء الأولويات تتحمل المسؤولية كاملة.
أما صدمة المواطن فهي الأعمق والأصعب. فهو من يكابد أهوال المعيشة ويضطر إلى التعايش مع تقلبات الأوضاع ويبحث عن مخارج من الأزمات في زمن عزت فيه الحلول، وإن بقيت مصادر البهجة تقاوم من أجل البقاء، ومنها شهر رمضان الذي يعتبره المصريون دائماً فرصة للفرح والبهجة في أحلك الظروف.
تقلص الكراتين
الظروف الاقتصادية في مصر هذا العام كانت قد هيأت الجميع لشهر رمضان بهامش أصغر من "كراتين الخير"، وقدر أقل من موائد الرحمن، واختيارات أقل على مآدب الإفطار، مع ترشيح معظمها للنزول درجة أو درجات لتصبح موائد عادية.
حتى قبل اجتماع المركزي "الاستثنائي" بدقائق، كانت المؤشرات تلوح إلى تقلص المعروض من "كراتين رمضان" التي يشتريها المقتدرون نسبياً، للتبرع بها إلى المحتاجين مادياً، وذلك بسبب تقلص الطلب، إضافة إلى شح عديد من السلع الغذائية الأساسية، مثل السكر والشاي وغلاء غيرها مثل الرز والزيت.
كما جرى رصد تراجع أعداد المتبرعين بوجبات لإفطار صائمين، أو خفض عدد الوجبات المتبرع بها، إضافة بالطبع إلى ارتفاع قيمة هذه الوجبات مع تضاؤل مكوناتها أو خفض جودتها أو كليهما.
بعد الاجتماع، ساد الوجوم وبدا الترقب والتوجس. إنه توجس مشوب بالقلق، وكذلك غضب لا يخلو من لوم. رجل الشارع يتساءل مستنكراً: ألم يكن في الإمكان تأجيل هذه القرارات لما بعد العيد؟ أما الترقب، فهو انتظار لما ستسفر عنه القرارات والإجراءات والقرض حقاً، وذلك بعيداً من تزيين المزينين أو تقبيح المقبحين.
وكعادة المصريين لا تخلو أزمة من نكتة، ولا تمر ضائقة من دون تندر أو سخرية، لا من الأزمة أو الضائقة، ولا من المسؤولين عن الأزمة أو المسؤولين في المطلق، لكن من أنفسهم. كثرة تداول العبارات الاقتصادية شديدة التخصص من ارتفاع تضخم وخفض عملة وخلل ميزان المدفوعات والتقشف الحكومية وخط الفقر المتمدد ووضع الجنيه ووضع الدولار جعلت البعض يطالب بالتوقف عن الكلام عن التعويم ورفع الفائدة وتقييم دين القرض، والاكتفاء بالحديث عن "وضع البانيه" (الدجاج المخلي)، أي "البانيه ارتفع، البانيه انخفض، البانيه اتلغى".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
حتى الطبقة التي كانت مصنفة "مخملية" فقد انضمت إلى مواكب المتوجسين وجموع المتضررين. جانب من طلاب الجامعات الذين يسدد ذووهم المصروفات الدراسية بالدولار أو ما يعادله بالجنيه المصري اكتشفوا أن استمراراهم في جامعاتهم بات على محك التعويم، وهو الخامس في أقل من ثماني سنوات. الأربعاء، صارت مصروفات العام الدراسي الواحد بمليون جنيه مصري (20 ألف دولار أميركي). وهو مما دفع أحد الطلاب في الفرقة الأولى ليكتب على صفحة الجامعة: "لو افترضنا تثبيت المصروفات على مدار السنوات الثلاث المتبقية، فهذا يعني أن يسدد أبي ثلاثة ملايين جنيه مصري (60 ألف دولار أميركي)، وأن على بعضي لا أساوي نصف هذا المبلغ".
الجامعة ذاتها، التي ترسل لخريجيها بصفة مستمرة دعوات لحضور مناسبات وفعاليات والتبرع لصالح الجامعة ببضعة آلاف أو ملايين، وأمام إصرارها على المضي قدماً في طلب التبرعات، دفعت خريجاً مخضرماً إلى مراسلتها "جامعتي العزيزة، ستكون حركة (تصرفاً) لطيفة لو وزعت علينا كراتين رمضان في هذه الأيام العصيبة".
الأيام العصيبة ستشهد قضاء أو في الأقل تقليصاً لتداول الدولار في السوق السوداء، وذلك بفضل أو بفعل القرارات المفاجئة والقرض المبرم. وقد دعا ذلك البعض للسؤال: هل القضاء على السوق السوداء يعني بالضرورة القضاء على الأيام السوداء؟وبين سواد الليل وشمس النهار، يستمر المصريون على حالهم في مراقبة وضع الدولار وأداء الجنيه وحركة الأسعار صعوداً وهو الأرجح، أو هبوطاً وهو غاية المنى، وكل الأمل سواء في رمضان أو غير رمضان.