Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الشرق الأوسط هو الوحيد القادر على إصلاح نفسه

الطريق نحو ظهور نظام ما بعد أميركا في المنطقة

كلما طال أمد الحرب، زاد خطر حدوث انقسامات أوسع في جميع أنحاء الشرق الأوسط (رويترز)

في الأسابيع الأولى من عام 2024، عندما بدأ التوتر يزداد في المنطقة عقب الحرب الكارثية في قطاع غزة، بدا أن استقرار الشرق الأوسط في صميم أجندة السياسة الخارجية الأميركية مرة أخرى. في الأيام الأولى التي أعقبت هجمات حركة "حماس" في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، نقلت إدارة بايدن مجموعتين هجوميتين من حاملات الطائرات وغواصة تعمل بالطاقة النووية إلى الشرق الأوسط، في حين بدأ كبار المسؤولين الأميركيين، بمن في ذلك الرئيس جو بايدن، القيام بسلسلة من الزيارات الرفيعة المستوى إلى المنطقة. وبعد ذلك، عندما أصبح احتواء الصراع أكثر صعوبة، ذهبت الولايات المتحدة إلى أبعد من ذلك في إجراءاتها. ففي أوائل تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، رداً على الهجمات التي شنتها الجماعات المدعومة من إيران على قوات عسكرية أميركية في العراق وسوريا، نفذت واشنطن هجمات على مواقع أسلحة في سوريا يستخدمها الحرس الثوري الإسلامي الإيراني، وفي أوائل يناير (كانون الثاني)، قتلت القوات الأميركية قائداً كبيراً لإحدى تلك الجماعات في بغداد. وفي منتصف الشهر نفسه، وبعد أسابيع من الهجمات على سفن الشحن التجارية في البحر الأحمر التي شنتها جماعة الحوثي، المدعومة من إيران أيضاً، أطلقت الولايات المتحدة، بالتعاون مع المملكة المتحدة، سلسلة من الضربات على معاقل الحوثيين في اليمن.

على رغم استعراض القوة هذا، لن تكون من الحكمة المراهنة على أن الولايات المتحدة ستلتزم تخصيص موارد دبلوماسية وأمنية كبيرة للشرق الأوسط على المدى الطويل. قبل هجمات السابع من أكتوبر التي شنتها "حماس"، أشارت الإدارات الأميركية المتعاقبة إلى عزمها التحول بعيداً من المنطقة مع التركيز بدلاً من ذلك على التحديات التي يفرضها صعود الصين. علاوة على ذلك، تواجه إدارة بايدن أيضاً حرب روسيا في أوكرانيا، مما حدّ بشكل أكبر من قدرتها على التعامل مع الشرق الأوسط. وبحلول عام 2023، كان المسؤولون الأميركيون يئسوا إلى حد كبير وفقدوا الأمل في إمكان إعادة إحياء الاتفاق النووي مع إيران، وسعوا عوضاً عن ذلك إلى التوصل إلى ترتيبات غير رسمية ترمي إلى خفض التصعيد مع نظرائهم الإيرانيين. وفي الوقت نفسه، كانت الإدارة تعمل على تعزيز القدرة العسكرية الإقليمية في محاولة لإزاحة بعض العبء الأمني عن كاهل واشنطن. وعلى رغم التردد الأولي الذي أبداه بايدن في التعامل مع الرياض، أعطى الرئيس الأولوية للتوصل إلى اتفاق سلام بين السعودية وإسرائيل. وفي سعيها إلى تحقيق الصفقة، كانت الولايات المتحدة على استعداد لتقديم حوافز كبيرة لكلا الطرفين متجاهلة القضية الفلسطينية إلى حد كبير.

لكن السابع من أكتوبر قلب هذا النهج رأساً على عقب، فسلّط الضوء على الأهمية الجوهرية التي تحتلها القضية الفلسطينية وأجبر الولايات المتحدة على زيادة تدخلها العسكري المباشر. لكن، من اللافت للنظر أن الحرب في غزة لم تؤدِّ إلى تحولات كبيرة في التوجه السياسي الرئيس لواشنطن. فالإدارة الأميركية تواصل الضغط من أجل عقد اتفاق سلام مع السعودية على رغم المعارضة الإسرائيلية لقيام دولة فلسطينية منفصلة، وهو الشرط الذي وضعه السعوديون لأي اتفاق من هذا القبيل. علاوة على ذلك، يبدو أن هناك قليلاً من المؤشرات التي تشير إلى أن المسؤولين الأميركيين مستعدون للتخلي عن استراتيجيتهم المتمثلة في الانسحاب من صراعات الشرق الأوسط. وفي الواقع، قد تؤدي ديناميكيات الحرب المتزايدة التعقيد إلى تضاؤل رغبة واشنطن في التدخل في المنطقة. ومن المستبعد أن يشكل تعزيز الالتزامات في الشرق الأوسط استراتيجية رابحة لأي من الحزبين السياسيين الأميركيين في عام انتخابي حاسم.

وبطبيعة الحال، ستستمر الولايات المتحدة في التدخل في الشرق الأوسط. فإذا أسفرت ضربات صاروخية على القوات الأميركية عن سقوط ضحايا أميركيين أو إذا أدى هجوم إرهابي مرتبط بالصراع في غزة إلى مقتل مدنيين أميركيين، فقد يفرض ذلك مشاركة عسكرية أميركية أكبر مما قد ترغب فيه الإدارة. لكن انتظار الولايات المتحدة لتأخذ زمام المبادرة في إدارة مسألة غزة بصورة فاعلة وإرساء سلام دائم في الشرق الأوسط سيكون أقرب إلى "انتظار غودو" [واحدة من أهم أعمال الدراما المسرحية الحديثة وأكثرها غموضاً لصموئيل بيكيت، عُرضت للمرة الأولى عام 1953، تدور القصة حول شخصيتين، هما فلاديمير وإستراغون اللذان ينتظران وصول شخص يُدعى غودو الذي لا يظهر أبداً]: فالديناميكيات الإقليمية والعالمية الحالية تجعل من الصعب للغاية على واشنطن أن تقوم بهذا الدور المهيمن. وهذا لا يعني أن القوى العالمية الأخرى ستحل محل الولايات المتحدة. في الحقيقة، لم يُظهِر أي من القادة الأوروبيين أو الصينيين اهتماماً كبيراً أو قدرة على تولي هذه المهمة، حتى مع تراجع نفوذ واشنطن. وبالنظر إلى هذا الواقع الناشئ، فإن القوى الإقليمية التي كانت تنسق في ما بينها منذ بدء الحرب، بحاجة ماسة إلى تكثيف الجهود وتحديد طريق للمضي قدماً بصورة جماعية.

إن إيجاد أرضية مشتركة بعد الهجمات الوحشية التي شنتها "حماس" في السابع من أكتوبر الماضي والحملة الإسرائيلية المدمرة في غزة سيكون أمراً بالغ الصعوبة. وكلما طال أمد الحرب، زاد خطر حدوث انقسامات أوسع في جميع أنحاء الشرق الأوسط. لكن خلال الأعوام التي سبقت الهجمات، أظهرت الدول العربية وغير العربية استعدادها لإنشاء أشكال جديدة من التعاون في ما مثّل إعادة ضبط كبيرة للعلاقات في جميع أنحاء المنطقة. وحتى بعد أشهر من الحرب، بقي عدد كبير من تلك العلاقات على حاله. والآن، قبل أن يتبدل هذا الاتجاه، من الضروري أن تتحد هذه الحكومات من أجل بناء آليات دائمة لمنع نشوب الصراعات وتحقيق السلام في نهاية المطاف.

والمهمة الأكثر إلحاحاً هي أن القوى الإقليمية يجب أن تدعم عملية سياسية مجدية بين الإسرائيليين والفلسطينيين. ولكن يتعين عليها في الوقت نفسه أن تتخذ خطوات حاسمة في سبيل منع تكرار مثل هذه الكارثة. وعلى وجه الخصوص، عليها أن تسعى إلى إقامة ترتيبات أمنية إقليمية جديدة وأكثر قوة قادرة على ضمان حال من الاستقرار، بغض النظر عما إذا كانت الولايات المتحدة ستتولى زمام المبادرة أو لا. لقد طال انتظار قيام الشرق الأوسط بإنشاء منتدى دائم للأمن الإقليمي يعمل على خلق مساحة دائمة للحوار بين قواه. وسيتطلب تحويل المأساة إلى فرصة جهوداً حثيثة والتزاماً على أعلى المستويات السياسية. ولكن بقدر ما قد تبدو هذه الرؤية بعيدة المنال اليوم، إلا أن الزعماء في الشرق الأوسط يستطيعون إيقاف دوامة العنف وتوجيه المنطقة نحو مسار أكثر إيجابية.

مخاوف في شأن النفوذ

على رغم تزايد الاستياء من إدارة بايدن لعدم اتخاذها إجراءات حاسمة لإنهاء الحرب، قد يعرب بعض القادة العرب، إلى جانب مؤيدي التدخل في واشنطن، عن لهفتهم لرؤية "عودة" المشاركة الأميركية النشطة في الشرق الأوسط. وتشير الاستجابة الدبلوماسية والعسكرية السريعة التي اعتمدتها إدارة بايدن، واستعدادها لاستخدام القوة ضد الجماعات المتحالفة مع إيران، إلى أن المنطقة أصبحت مجدداً في صميم شواغل الأمن القومي الأميركي. في الواقع، من حيث القوة العسكرية، لم تغادر الولايات المتحدة الشرق الأوسط قط: خلال هجمات السابع من أكتوبر، كان عشرات آلاف الجنود الأميركيين متمركزين بالفعل في المنطقة، ولا تزال واشنطن تحتفظ بقواعد عسكرية كبيرة في البحرين وقطر، وتنفذ عمليات انتشار عسكرية أصغر في كل من سوريا والعراق.

لكن النشاط العسكري والدبلوماسي الأميركي منذ السابع من أكتوبر لم يكن مطمئناً. أولاً، كانت جهود الإدارة الرامية إلى منع نشوب صراع إقليمي أوسع نطاقاً متباينة تماماً. وفي واحدة من أكثر نقاط التوتر حساسية وإثارةً للقلق، وهي نقطة متعلقة باحتدام الصراع بين إسرائيل و"حزب الله" على الحدود اللبنانية، لم تتمكن واشنطن من منع تصاعد العنف على الجبهتين. وإلى جانب الخسائر الكبيرة في صفوف العسكريين والمدنيين، اضطر عشرات آلاف المدنيين إلى إخلاء بلدات في شمال إسرائيل وجنوب لبنان. وعلى رغم الحوافز الاقتصادية، رفض "حزب الله" حتى الآن سحب قواته من الحدود، وفي المقابل، أشارت إسرائيل التي سبق أن اغتالت أحد كبار مسؤولي حركة "حماس" في بيروت، إلى أن الوقت ينفد أمام الحلول الدبلوماسية.

وفي الوقت نفسه، تواجه الولايات المتحدة صعوبة في احتواء الضغط العسكري من وكلاء إيران في العراق وسوريا واليمن. منذ بداية الحرب، تعرضت القوات الأميركية في العراق وسوريا لأكثر من 150 هجوماً شنته تلك الجماعات. وعلى رغم سلسلة الضربات الانتقامية التي نفذتها الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، لم تتمكن واشنطن من وضع حد لهجمات الحوثيين المتواصلة بالصواريخ والطائرات المسيّرة في البحر الأحمر. وبالفعل، تمكن الحوثيون من إحداث اضطرابات كبيرة في التجارة الدولية، مما أجبر شركات الشحن الكبرى على تجنب الإبحار في قناة السويس. ويذكر أن محاولات الولايات المتحدة الرامية إلى تشكيل قوة بحرية متعددة الجنسيات من أجل مواجهة التهديد لم تتمكن من جذب الشركاء الإقليميين مثل مصر والأردن والسعودية، بسبب عدم ارتياح تلك الدول لسياسات الإدارة الأميركية في غزة.

النشاط العسكري والدبلوماسي الأميركي لم يكن مطمئناً

 

ومع تضاؤل النفوذ العسكري لواشنطن، ضعفت قوتها الدبلوماسية أيضاً. وعوضاً عن إظهار العزم، كشفت الزيارات المتكررة التي قام بها كبار مسؤولي الإدارة إلى المنطقة عن مدى تضاؤل تأثير الولايات المتحدة، أو في حالة إسرائيل، عدم رغبة الإدارة الأميركية في ممارسة هذا النفوذ. خلال الأشهر الأولى من الحرب، كان أحد الإنجازات القليلة الواضحة التي حققتها الإدارة الأميركية هي وقف القتال لمدة أسبوع واحد في أواخر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، مما أدى إلى إطلاق سراح أكثر من 100 رهينة إسرائيلية وأجنبية وتقديم مساعدات إنسانية متواضعة إلى غزة. ولكن حتى في تلك الحالة قامت الوساطة القطرية والمصرية بدور حاسم، وبخلاف ذلك، لم تكُن الولايات المتحدة راغبة (في الأقل حتى تاريخ كتابة هذا المقالة) في الدعوة إلى وقف إطلاق النار، وكانت الدبلوماسية العلنية التي تبنتها الإدارة في الغالب مقتصرة على الجهود الخطابية الرامية إلى كبح التصرفات الأسوأ لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وحكومته اليمينية.

في المقابل، كانت الولايات المتحدة أكثر وضوحاً وعزماً في الترويج لخطط السلام "بعد انتهاء القتال" وركّزت فيها على ما أسمته قيادة السلطة الفلسطينية "المعاد إحياؤها" في الضفة الغربية وغزة والدعم الإقليمي لإعادة إعمار غزة. لكن القوى الإقليمية، بخاصة دول الخليج العربية الثرية، أوضحت أنها لن تؤيد مثل هذه الخطط من دون اتخاذ خطوات ثابتة لا يمكن التراجع عنها نحو قيام دولة فلسطينية. وبعد أن بدأ المسؤولون الأميركيون يتحدثون بصورة أكثر علنية عن الحاجة إلى حل الدولتين كجزء من اتفاق سلام أكبر مع السعودية، رفض نتنياهو هذا الاحتمال رفضاً قاطعاً وأصر على أن إسرائيل يجب أن تبقى مسيطرة أمنياً بصورة كاملة على المناطق الفلسطينية. لكن حتى المسؤولين الإسرائيليين الوسطيين عبروا عن دهشتهم من أن الولايات المتحدة تدفع باتجاه مبادرات السلام بينما الحرب الشاملة ضد "حماس" لا تزال مشتعلة. وفي منحى مقابل، أدى الدعم الذي قدمته الإدارة الأميركية لإسرائيل في القتال وقلة التعاطف التي أبدتها إزاء معاناة الفلسطينيين، إلى خلق عقبات كبيرة أمام اجتذاب التأييد الإقليمي، ناهيك عن قبول الفلسطينيين لأي خطة تقودها الولايات المتحدة.

لا شك في أن الولايات المتحدة ستحتفظ بدورها المهم في المنطقة بسبب الأصول والقدرات العسكرية التي تمتلكها هناك وعلاقتها الوثيقة مع إسرائيل. ولكن أي توقع بأن واشنطن ستتمكن من التوصل إلى اتفاق كبير قادر على إيجاد حل نهائي للصراع الإسرائيلي- الفلسطيني، هو أمر لا صلة له بواقع الشرق الأوسط اليوم. وفي نهاية المطاف، من المرجح أن تكون المنطقة بحد ذاتها هي المصدر والأساس لأي إنجازات دبلوماسية كبرى.

جهود دول المنطقة معاً

إن عواقب تضاؤل نفوذ واشنطن في الشرق الأوسط تمتد إلى ما هو أبعد من الصراع الحالي. فمع تراجع تدخّل الولايات المتحدة في المنطقة خلال الأعوام التي سبقت السابع من أكتوبر  الماضي، كثفت القوى الإقليمية الكبرى بصورة مطّردة جهودها الرامية إلى وضع ترتيبات أمنية خاصة بها. في الواقع، اعتباراً من عام 2019، شرعت الحكومات في جميع أنحاء المنطقة في إصلاح العلاقات التي كانت متوترة سابقاً. لم تكُن الأولويات الاقتصادية الدافع الوحيد وراء إعادة ضبط العلاقات الفريدة هذه على المستوى الإقليمي، أي التغلب على الخلافات التي عطلت أو أعاقت التجارة والنمو في السابق، بل أيضاً الاعتقاد بأن اهتمام واشنطن بالتعامل مع صراعات الشرق الأوسط آخذ في التراجع.

لنأخذ على سبيل المثال التقارب بين دول الخليج وإيران. في 2019، بدأت الإمارات العربية المتحدة باستعادة العلاقات الثنائية مع إيران بعد قطيعة دامت ثلاثة أعوام، إذ رأت فرصة لإدارة العلاقات بصورة مباشرة وحماية مصالحها من الجماعات المدعومة من إيران التي كانت تعطل الشحن في الخليج وتهدد السياحة والتجارة الإماراتية. واستأنفت أبو ظبي علاقاتها الدبلوماسية رسمياً مع طهران في 2022، مما مهد الطريق أمام الرياض لتحذو حذوها. في مارس (آذار) 2023، أعلنت السعودية وإيران، الدولتان المتخاصمتان منذ فترة طويلة، أنهما ستستأنفان العلاقات في اتفاق توسطت فيه الصين بعد أشهر من محادثات عبر قنوات خلفية أدارتها عمان والعراق. ولم يكن للولايات المتحدة أي دور في ذلك.

وفي الوقت نفسه، أنهت البحرين ومصر والسعودية والإمارات العربية المتحدة عام 2021، مقاطعة دامت ثلاث سنوات ونصف لقطر والتي كانت مدفوعةً بصورة أساسية بسب دعمها لجماعات الإخوان المسلمين وعلاقاتها الوثيقة مع إيران وتركيا والدور الذي تقوم به قناة "الجزيرة". كما أصلحت الإمارات العربية المتحدة والسعودية أيضاً علاقاتهما مع تركيا، متجاوزتين خلافاتهما السابقة التي كانت ترجع إلى حد كبير إلى دعم تركيا لقطر والجماعات المرتبطة بالإخوان المسلمين. من خلال إعادة إحياء العلاقات مع تركيا، فتح السعوديون والإماراتيون الباب أمام استثمارات خليجية كبيرة في الاقتصاد التركي المتعثر. وفي مايو (أيار) 2023، دعا القادة العرب الرئيس السوري بشار الأسد إلى العودة لجامعة الدول العربية، مما مثّل نهاية أكثر من عقد من العزلة خلال الحرب الأهلية الوحشية في سوريا.


وكجزء من عملية إعادة المعايرة الإقليمية الأوسع هذه، بدأت الحكومات في جميع أنحاء الشرق الأوسط أيضاً المشاركة في مجموعة متنوعة من المنتديات الإقليمية. فجمع "مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة" الذي عُقد للمرة الأولى في بغداد عام 2021 ومرة أخرى في عمان عام 2022 من أجل مناقشة استقرار العراق، مجموعة واسعة من الخصوم السابقين، بما في ذلك إيران وتركيا، وأعضاء مجلس التعاون الخليجي، والأردن ومصر. واستطراداً، ضم "منتدى غاز شرق المتوسط" الذي تأسس عام 2020، كلاً من قبرص ومصر وفرنسا واليونان وإسرائيل وإيطاليا والأردن، إلى جانب ممثلين عن السلطة الفلسطينية، في ما صُمّم ليكون حواراً منتظماً حول أمن الغاز والتخلص من انبعاثات الكربون. وأنشئ أيضاً في 2021 ما يسمى "آي2 يو2" I2U2، وهو تحالف يضم الهند وإسرائيل والإمارات العربية المتحدة والولايات المتحدة، من أجل تعزيز الشراكات الإقليمية التي تركز على الصحة والبنية التحتية والطاقة.

وكان الجانب الآخر من عملية إعادة المعايرة الإقليمية هذه هو عقد معاهدات سلام بين إسرائيل ومجموعة من الحكومات العربية. في "اتفاقات أبراهام" لعام 2020، وافقت البحرين والمغرب والإمارات العربية المتحدة على إقامة علاقات رسمية مع إسرائيل، مما خلق فرصاً لعلاقات اقتصادية وتجارية جديدة. ويذكر أن أحد أهداف هذه الاتفاقات كان تمهيد الطريق لإقامة علاقات أمنية مباشرة جديدة بين إسرائيل والعالم العربي. قبل هجمات السابع من أكتوبر، كانت إدارة بايدن تعقد آمالاً كبيرة على أن السعودية، باعتبارها عضواً بارزاً في العالم العربي، ستنضم إلى هذه المجموعة أيضاً. وانطلاقاً من أسس تلك الاتفاقات، اجتمعت البحرين ومصر وإسرائيل والمغرب والإمارات العربية المتحدة والولايات المتحدة في "قمة النقب" في مارس 2022 لتشجيع التعاون الاقتصادي والأمني في ما كان يُفترض أن يكون عبارة عن اجتماعات منتظمة.

لكن ما غاب بصورة صارخة عن صفقات اتفاقات السلام هو القضية الفلسطينية التي جرى تجاهلها إلى حد كبير. ونتيجة لذلك، رفض الأردن المشاركة في "قمة النقب"، ومع اندلاع التوترات حول المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية أوائل عام 2023، تأجّل اجتماع آخر للمجموعة مرات عدة. والآن، في ظل الدمار الذي لحق بغزة، فإن أي تقدم إضافي لن يكون متوقفاً على إنهاء الحرب فحسب، بل أيضاً على بناء خطة قابلة للتطبيق ترمي إلى إقامة دولة فلسطينية.

التصدعات والقدرة على الصمود

من حيث المبدأ، كان من المتوقع أن تشكل الحرب الكارثية في غزة تهديداً خطراً لعملية إعادة ضبط العلاقات الجارية في الشرق الأوسط. في معظم الحالات، فإن العلاقات الإقليمية التي تشكلت أخيراً لا تزال هشة وهي لم تواجه بعد قضايا شائكة مثل انتشار الأسلح، ودعم الإمارات العربية المتحدة المستمر للفصائل المسلحة في ليبيا والسودان ودعم إيران للميليشيات المسلحة غير الحكومية في جميع أنحاء المنطقة وتصدير سوريا لمخدر الكبتاغون. وإلى جانب تعريض اتفاقات السلام الحديثة العهد بين إسرائيل والحكومات العربية للخطر، فإن المشاركة المكثفة للجماعات المدعومة من إيران، بدءاً من "حزب الله" والحوثيين إلى الميليشيات المختلفة في سوريا والعراق، تهدد بإثارة توترات جديدة بين إيران ودول الخليج. ولكن حتى هذه اللحظة، أثبتت التحالفات الجديدة أنها متينة للغاية.

ويبدو أن حرب غزة أدت إلى تعزيز العلاقات بين إيران والسعودية عوضاً عن عرقلتها. وفي نوفمبر 2023، حضر الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي اجتماعاً مشتركاً نادراً لجامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي، استضافه ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في الرياض، وفي الشهر التالي، التقى القادة الإيرانيون والسعوديون مرة أخرى في بكين لمناقشة حرب غزة.

لغاية الآن، يبدو أن حرب غزة أدت إلى تعزيز العلاقات بين إيران والسعودية

 

في الوقت نفسه، ظلت العلاقات الدبلوماسية بين إسرائيل وشركائها في "اتفاقات أبراهام" صامدة حتى الآن. وأوضحت الإمارات العربية المتحدة أنها تعتبر الحوار مع الحكومة الإسرائيلية، حتى في الأزمة الحالية، وسيلة مهمة لإحراز تقدم في التسوية السياسية للصراع الإسرائيلي- الفلسطيني. وعلى رغم أن البرلمان البحريني دان الهجوم المستمر على غزة، إلا أن البلاد لم تقطع علاقاتها رسمياً مع إسرائيل. فبالنسبة إلى هاتين الدولتين العربيتين، لا يقتصر اتفاق السلام على تقوية الروابط الاقتصادية مع إسرائيل فحسب، بل يتعلق أيضاً بتعزيز العلاقات الاستراتيجية مع الولايات المتحدة. وعلى رغم تحول واشنطن الملحوظ بعيداً من المنطقة خلال الأعوام الأخيرة، لا تزال دول الخليج العربي تسعى إلى الحصول على ضمانات أمنية وحماية أميركية: في يناير 2022، صنّف بايدن قطر على أنها "حليف رئيس من خارج الناتو"، وفي سبتمبر 2023، وقّعت البحرين والولايات المتحدة اتفاقاً يرمي إلى تعزيز شراكتهما الاستراتيجية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

من المؤكد أن الحرب فرضت عقبات جديدة أمام التعاون الإقليمي، بخاصة في ما يتصل بالعلاقات بين إسرائيل وجيرانها. في الواقع، سحبت كل من تركيا والأردن سفيريهما من إسرائيل، وتوقفت الرحلات الجوية المباشرة بين إسرائيل والمغرب في أكتوبر. وبحلول أواخر يناير، ومع مقتل أكثر من 26 ألف شخص في غزة وغياب أي احتمال لوقف إطلاق النار، أصبح الرأي العام العربي أكثر معارضة لاتفاقات سلام من أي وقت مضى. ويخشى كثيرون أيضاً من أن الضربات العسكرية الأميركية والبريطانية على الحوثيين في اليمن يمكن أن تقوّي الجماعة في اليمن وتعرقل الجهود الرامية إلى إضفاء الطابع الرسمي على وقف إطلاق النار الذي طال انتظاره في اليمن منذ حوالى عقد من الزمن. وعلى رغم التواصل الدبلوماسي المستمر بين دول الخليج العربي وطهران، إلا أن عدداً قليلاً من المسؤولين في المنطقة يعقدون الأمل على أن تغير إيران نهجها المتمثل في "الدفاع الأمامي" [الرامي إلى نقل المواجهة بعيداً من الأراضي الإيرانية]، وهي استراتيجية تعتمد فيها طهران على الجماعات المسلحة لبناء نفوذ استراتيجي والحفاظ على قوة الردع. وفي منتصف يناير، زادت التوترات بسبب الضربات الصاروخية المباشرة التي شنتها طهران على العراق وباكستان وسوريا رداً على الضربات الإسرائيلية، والهجوم الذي شنه تنظيم "داعش" في مدينة كرمان الإيرانية.

في الوقت الحالي، هناك دلائل تشير إلى أن زعماء الشرق الأوسط يسعون إلى تجاوز هذه النزاعات. على سبيل المثال، في سبيل إدارة الضغوط الاقتصادية المتزايدة والاضطرابات في الداخل، أعطت إيران أولوية جديدة للأعمال والعلاقات التجارية الإقليمية، ليس مع دول الخليج العربي فحسب، بل أيضاً مع العراق وتركيا ودول آسيا الوسطى، فضلاً عن الصين وروسيا. وهذا يسلط الضوء على الدوافع والاعتبارات العملية وراء موقف طهران الذي يؤكد سعيها إلى تجنب التورط مباشرة في الصراع في غزة على رغم دعمها لمختلف الجماعات الوكيلة لها. ولكن مع تصاعد الهجمات الانتقامية المتبادلة في مختلف أنحاء المنطقة وسط غياب تام لوقف إطلاق النار في غزة، من الممكن أن تتغير حسابات إيران.

تأثير غزة

من المفارقة أن إحدى أكبر القوى التي تحافظ على تماسك المنطقة قد تكون مأساة غزة نفسها والقضية الفلسطينية الأوسع والتي أسهمت الحرب في تسليط الضوء العالمي عليها بصورة صارخة، قد تكون واحدة من أقوى العوامل التي تحافظ على تماسك المنطقة. وفي مواجهة الغضب الشعبي العارم واحتمال ظهور الراديكالية على المدى الطويل وعودة الجماعات المتطرفة، عمل زعماء المنطقة على مواءمة استجاباتهم السياسية وتعاملهم مع الصراع في الغالب. وعلى رغم تباين استراتيجياتها تجاه إسرائيل والفلسطينيين قبل السابع من أكتوبر، فإن الحكومات في جميع أنحاء الشرق الأوسط تقف متحدة على نطاق واسع خلف المطالبة بوقف فوري لإطلاق النار ومعارضة أي تهجير للفلسطينيين إلى خارج القطاع والدعوة إلى وصول المساعدات الإنسانية إلى غزة وتوفير المساعدات العاجلة ودعم المفاوضات من أجل إطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين مقابل إنهاء الحرب. والسؤال المحوري الآن هو ما إذا كان من الممكن توجيه هذا الإجماع نحو بناء عملية سلام مشروعة.

وبالنسبة إلى عدد من الدول العربية والإسلامية في المنطقة، كانت الأولوية القصوى تتلخص في تحديد خطة واضحة لغزة، ثم إقامة دولة فلسطينية في نهاية المطاف. يقترح القادة الإسرائيليون تقسيم كلف إعادة إعمار غزة على دول الخليج الأكثر ثراء. لكن الحكومة الإسرائيلية الحالية قالت إنها تعارض قيام دولة فلسطينية، ووسط الصراع المستمر، فإن الحكومات العربية غير مستعدة لتقديم التزامات من هذا النوع ولا ترغب في أن يُنظر إليها على أنها تدعم المجهود الحربي الإسرائيلي. وعوضاً عن ذلك، قدمت تلك الدول مقترحاتها الخاصة للسلام بعد الحرب.

في ديسمبر (كانون الأول) 2023، طرحت مصر وقطر خطة تبدأ بوقف لإطلاق النار يكون مشروطاً بالإفراج التدريجي عن الرهائن وتبادل الأسرى. وبعد فترة انتقالية، كان من شأن خطوات بناء الثقة تلك، من الناحية النظرية، أن تؤدي إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية فلسطينية. وفي ضوء المطلب الإقليمي الحاسم المتمثل في إنهاء الفصل السياسي بين الأراضي الفلسطينية المختلفة، ستخضع الضفة الغربية وغزة بصورة مشتركة لحكم هذه القيادة الجديدة، المؤلفة من أعضاء ينتمون إلى حركة "فتح"، الحزب القومي الذي سيطر لفترة طويلة على السلطة الفلسطينية، وحركة "حماس". وستتطلب هذه المرحلة الأخيرة إجراء انتخابات فلسطينية وإقامة دولة فلسطينية. وعلى رغم أن إسرائيل رفضت تلك الخطة، سواء بسبب تحفظات في شأن مشاركة "حماس" أو بسبب مسألة إقامة الدولة، إلا أنها وفرت نقطة انطلاق لمزيد من المحادثات.

 

وفي المقابل، طرحت تركيا فكرة نظام ضامن متعدد البلدان، تعمل بموجبه دول المنطقة على حماية وتعزيز الأمن والحكم الفلسطيني، في حين تقدم الولايات المتحدة والدول الأوروبية ضمانات أمنية لإسرائيل. واقترحت دول أخرى أن تدير الأمم المتحدة سلطة انتقالية في الضفة الغربية وقطاع غزة، وهو نهج من شأنه أن يتيح الوقت لإعادة هيكلة الحكم الفلسطيني وإصلاحه، وإرساء الأسس لإجراء انتخابات فلسطينية في نهاية المطاف. من جانبها، أعلنت إيران مراراً وتكراراً أنها ستؤيد أي نتيجة يدعمها الفلسطينيون أنفسهم، مما يشير إلى أن هناك فرصة سانحة جديدة لإقناع طهران بدعم الصفقة والتخلي عن دورها التخريبي المعتاد.

وفي الوقت نفسه، تعمل السعودية مع دول عربية أخرى على تطوير خطة سلام من شأنها أن تجعل مسألة السلام مع إسرائيل أمراً مشروطاً بخلق مسار لا رجعة فيه نحو إقامة دولة فلسطينية. ويرتكز نهج الرياض على مبادرة السلام العربية لعام 2002 التي التزمت الاعتراف العربي بإسرائيل مقابل إنشاء دولة فلسطينية في القدس الشرقية وغزة والضفة الغربية. وتتوافق الخطة السعودية الحالية مع مساعي واشنطن لاتفاق السلام الإسرائيلي- السعودي. ومع ذلك، لا يزال من غير الواضح ما إذا كان السعوديون سيتفقون مع نظرائهم الأميركيين على ما يشكل خطوات جديرة بالثقة وثابتة نحو إقامة دولة فلسطينية، بخاصة في ضوء المعارضة الشديدة التي تبديها إسرائيل.

في عهد نتنياهو، رفضت الحكومة الإسرائيلية كل هذه المبادرات. لكن وحتى أواخر يناير، كانت إسرائيل لا تزال بعيدة من تحقيق هدفها الحربي المتمثل في القضاء على "حماس"، ولم تتمكن بعد من تأمين إطلاق سراح أكثر من 100 رهينة متبقية. ونشأت أيضاً توترات متزايدة بين حكومة الحرب المصغرة والجمهور الإسرائيلي في شأن المسار المستقبلي للحملة العسكرية. علاوة على ذلك، أرجأت البلاد أي نقاش عام أو سياسي جدي حول أمنها المستقبلي إلى ما بعد الحرب. وعندما يحدث ذلك، ستحتاج إسرائيل إلى فتح قنوات دبلوماسية مع الحكومات العربية وتأمين التمويل والضمانات الأمنية من تلك الحكومات، فضلاً عن الحفاظ على مشاركة واشنطن خلال هذه العملية.

في الواقع، إن تهيئة الظروف السياسية اللازمة لعملية سلام جادة قد يستغرق أعواماً بعد هذا الصراع المدمر. ومع ذلك فإن الحرب وتداعياتها الإقليمية تشكل تذكيراً صارخاً بأن الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني، وإن لم يكن العامل الوحيد، سيظل يهدد الاستقرار الإقليمي ما دام قائماً. وتدرك الحكومات الإقليمية على نحو متزايد أنها لا تستطيع الاعتماد على الولايات المتحدة وحدها لتحقيق عملية سلام مستدامة.

من الخصومة إلى التعاون

وعلى رغم أن الحرب في غزة أعادت وضع القضية الفلسطينية على رأس الأجندة الدولية، إلا أنها سلطت الضوء على تحولات كبيرة في الديناميكيات السياسية السائدة في جميع أنحاء الشرق الأوسط. فمن ناحية، يبدو أن الولايات المتحدة تتمتع بنفوذ أقل، ولكن من ناحية أخرى، بدأت القوى الإقليمية، من بينها تلك التي كانت على خلاف في السابق، تأخذ زمام المبادرة، وتدخل في الوساطة، وتنسق استجاباتها السياسية. قبل السابع من أكتوبر، كانت القوى الإقليمية، لا سيما مصر والأردن وقطر والسعودية وتركيا والإمارات العربية المتحدة، أقل توافقاً في شأن القضية الفلسطينية. أما الآن، فهي تتصرف بروح مذهلة من التضامن والتنسيق والتخطيط. ولكن لكي يصبح هذا التصميم المشترك أساساً دائماً للقيادة الموحدة، تحتاج هذه الدول إلى تبني مؤسسات وترتيبات إقليمية أكثر استدامة.

والأهم من ذلك أن هذه الخطوات يجب أن تتضمن منتدى دائماً للحوار يغطي المنطقة بأسرها. ولا شك في أن مؤتمرات القمة غير المنتظمة التي تضم الوزراء والتحالفات "المصغرة" المخصصة مثل "منتدى غاز شرق المتوسط" وتحالف "آي2 يو2" ستستمر في تحديد المشهد الإقليمي خلال الأعوام المقبلة. ولكن مع ذلك، لا تزال المنطقة تفتقر إلى منتدى دائم للأمن الإقليمي. وفي أجزاء أخرى من العالم، تمكنت المنتديات الأمنية التعاونية، على غرار "منظمة الأمن والتعاون في أوروبا" و"رابطة أمم دول جنوب شرق آسيا"، من التطور بموازاة التحالفات الأمنية الثنائية والإقليمية، مما أدى إلى تعزيز التواصل حتى بين الخصوم والمساعدة في منع الصراعات. وليس هناك سبب لكي يظل الشرق الأوسط استثناءً على مستوى العالم. ونظراً إلى حاجة المنطقة الملحة للتنسيق ووقف التصعيد، فإن الأزمة الحالية توفر فرصة حاسمة لبدء مثل هذه المبادرة.

وعلى رغم أن الزعماء كانوا متشككين في شأن فكرة منتدى يضم المنطقة برمتها، إلا أن هناك طرقاً عدة يمكن من خلالها بناء آليات جديدة للتعاون الأمني. على سبيل المثال، منذ إطلاق عملية السلام في مدريد في أوائل تسعينيات القرن الماضي من أجل معالجة الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني ["مؤتمر مدريد للسلام العربي-الإسرائيلي"]، اقتُرحت مثل هذه الترتيبات بصورة غير رسمية في الحوارات بين الخبراء. وعلى مدى الأعوام الأخيرة، أوضح عدد من صناع السياسات وغيرهم أن هذا النهج جاهز للتنفيذ على المستوى الرسمي. وفي نهاية المطاف، لا بد من أن يهدف منتدى مماثل إلى ضمّ المنطقة بالكامل، أي كل الدول العربية وإيران وإسرائيل وتركيا، إلا أن ذلك لن يكون ممكناً على الفور. لكن يمكن لعدد أقل من الدول المحورية إطلاق عملية رسمية، مما يفتح الباب أمام احتمال مشاركة أوسع في المستقبل. وبما أن بعض الدول العربية وتركيا لديها علاقات مع كل من إسرائيل وإيران، فإن مشاركتها ستكون ذات قيمة خاصة في المراحل الأولى.

يفتقر الشرق الأوسط إلى منتدى دائم للأمن الإقليمي

 

هذه المنظمة الجديدة التي يمكن أن يطلَق عليها اسم "منتدى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا"، يتعين عليها أن تركز في البداية على القضايا الجامعة التي تلقى إجماعاً واسع النطاق مثل المناخ والطاقة والاستجابات الطارئة للأزمات، لكي تغطي الرؤية الأكثر شمولاً لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وعلى رغم أن الحل لحرب غزة والصراع الإسرائيلي- الفلسطيني سيتطلّب على الأرجح أن تديره مبادرة عربية منفصلة، إلا أن المنتدى يستطيع تنسيق المواقف حول غزة في مرحلة ما بعد الحرب من خلال أجندة الاستجابة الطارئة، بما في ذلك الدعم الإنساني ومساعدات إعادة الإعمار للفلسطينيين. ولن يتوسط المنتدى في حد ذاته بصورة مباشرة في الصراعات: فقد أثبتت الحوارات الأمنية التعاونية فاعلية أكبر عندما تركز على تحسين الاتصال والتنسيق من أجل تخفيف حدة التوترات وتوفير فوائد اجتماعية اقتصادية وأمنية متبادلة للأعضاء. ولكن من خلال الاتصالات المنتظمة وبناء الثقة تدريجاً، فإن مثل هذه العملية يمكن أن تدعم حل الصراع في الساحة الإسرائيلية- الفلسطينية وخارجها.

والواقع أن الاجتماعات الإقليمية الدائمة من الممكن أن توفر فرصاً مهمة، ناهيك عن الغطاء السياسي، لإجراء حوارات حول النزاعات المثيرة للجدل بين المنافسين والخصوم الذين لا يملكون أي قنوات اتصال مباشرة في غياب تلك الاجتماعات. ومن الممكن ألا تقتصر على الإسرائيليين والفلسطينيين فحسب، بل أن تشمل في نهاية المطاف أيضاً الإسرائيليين والإيرانيين الذين يمكن أن يلتقوا ضمن مجموعات عمل فنية تتناول القضايا غير المثيرة للجدل وذات الاهتمام المشترك. في الواقع، سبق أن تكشفت مثل هذه التفاعلات بصمت على هامش المنتديات المتعددة الأطراف الأخرى التي تركز على المناخ والمياه، مما يشير إلى أن التعاون الإقليمي الأكثر شمولاً أمر ممكن في نهاية المطاف.

إن إنشاء منتدى أمني في الشرق الأوسط سيتطلب إرادة سياسية على أعلى المستويات، فضلاً عن وجود مناصر إقليمي قوي يعتبر طرفاً محايداً. أحد الاحتمالات هو الإعلان عن المنظمة الجديدة في اجتماع يضم وزراء الخارجية، ربما على هامش اجتماع إقليمي آخر، مثل إحدى الدورات الاقتصادية التي عقدت في البحر الميت في الأردن. ومن المرجح أن تنجح المبادرة إذا أنشئت في المنطقة وتولّت إدارتها جهات من المنطقة. ويمكن للقوى المتوسطة في آسيا وأوروبا أن تقدم الدعم السياسي والفني في المجالات التي قد تتمتع فيها بخبرة قيمة، على سبيل المثال. في البداية على الأقل، ينبغي أن تكون للصين وروسيا والولايات المتحدة أدوار محدودة من أجل منع المنتدى من التحول إلى منصة أخرى تتنافس فيها القوى العظمى. ومع ذلك، فإن الدعم من كل من واشنطن وبكين سيكون حاسماً لضمان أن يصبح المنتدى إضافة مفيدة، وليس تهديداً، لدبلوماسيتهما في المنطقة.

حان الوقت لتولي القيادة

ربما من بين الحقائق الصعبة التي كشفت عنها الحرب في غزة بوضوح، أن القوة الأميركية محدودة. في الواقع، من المستبعد أن تضطلع الولايات المتحدة بدور قيادي حاسم أو أن تتمتع بالنفوذ اللازم للحث على التوصل إلى تسوية إسرائيلية- فلسطينية دائمة، حتى لو رغبت في ذلك. وستكون مسؤولية تولي زمام المبادرة ملقاة على عاتق زعماء المنطقة ودبلوماسييها. فمن خلال استحواذ الحرب على اهتمام المنطقة وجهودها الدبلوماسية، قدمت الحرب فرصة نادرة لأشكال جديدة من القيادة التعاونية.

لا يمكن لمنتدى أمني إقليمي أن يحقق بمفرده السلام في الشرق الأوسط، ولا يمكن لأي مبادرة بمفردها أن تفعل ذلك. وفي غياب الحكم المسؤول، سيظل تحقيق استقرار حقيقي على المدى الطويل بعيد المنال. إضافة إلى ذلك، لا يمكن لمنظمة مثل هذه أن تحل محل توازن القوى التنافسي الذي يتميّز به فن الحكم في الشرق الأوسط منذ فترة طويلة. وحتى في آسيا وأوروبا، لم تنجح الترتيبات التعاونية في إلغاء المنافسات الاستراتيجية الوطنية أو منع المواجهة العسكرية، وفق ما أظهرته الحرب في أوكرانيا بصورة مؤلمة. ومع ذلك، فإن إنشاء منتدى دوري من شأنه أن يوفر مستوى إضافياً حاسماً من الاستقرار في الشرق الأوسط المعرض لنشوب نزاعات. وأصبحت الحاجة إلى مثل هذه المبادرة ملحة على نحو متزايد.

على رغم أن أحداث السابع من أكتوبر لم تبدّل بعد مسار جميع الاتجاهات الإقليمية المؤيدة لوقف التصعيد والتسوية، إلا أن مهلة الاستفادة من عملية إعادة الضبط هذه بدأت تنفد. ويتعين على الدول العربية الرائدة، جنباً إلى جنب مع القوى الإقليمية مثل تركيا، أن تغتنم الفرصة لترسيخ بعض التقارب الذي كان قائماً قبل الصراع في غزة والحفاظ على التنسيق الذي نشأ منذ ذلك الحين. يقف الشرق الأوسط على مفترق طرق، فإما أن يصاب بالشلل ويصبح عاجزاً عن المضي قدماً بسبب إراقة الدماء المروعة في غزة، وبذلك ينزلق إلى مزيد من الأزمات والصراعات، وإما أن يختار البدء ببناء مستقبل مختلف.

 

داليا داسا كاي باحثة كبيرة في مركز بيركل للعلاقات الدولية بجامعة كاليفونيا في لوس أنجليس، وهي باحثة زائرة في برنامج فولبرايت شومان في جامعة لوند.

سنام وكيل هي مديرة برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مركز تشاتام هاوس.

مترجم عن "فورين أفيرز" 1 فبراير 2024

اقرأ المزيد

المزيد من آراء