Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"دون كيشوت" ينتصر في مسرحية الطواحين المصرية

المخرج أحمد طه اعتمد اقتباسا فرنسيا للنص وخاض اللعبة مع ممثلين شباب

من مسرحية "دون كيشوت" في صيغتها المصرية (خدمة الفرقة)

في تجربته مع فرقة المنتخب المسرحي لجامعة قناة السويس خاض المخرج المصري أحمد طه مغامرة لم تكلل بالهزيمة مثلما انتهت إليه مغامرة بطل عرضه المسرحي "دون كيشوت" إذ تحلى بالحكمة، وعرف نقاط قوته وضعفه، فحقق غايته، من دون إخفاقات محبطة، أو إصابات موجعة.

أدرك طه أنه بصدد التعامل مع ممثلين جدد ما زالوا يتلمسون طريقهم، وقد تكون حماستهم أكبر من مواهبهم، تماماً مثل دون كيشوت نفسه، الذي سبقت عاطفته عقله. فكان على المخرج ترويض تلك الحماسة، وتوظيف كل طاقة في موضعها، بحسب حجمها، مستغلاً خبراته في تدريب الممثل، ومستعيناً في صناعة عناصره الأخرى (ديكور، إضاءة، موسيقى، أشعار) بمجموعة من المحترفين الذين أعانوا التجربة على التماسك، وأسهموا في خروجها بصورة يدرك معها المشاهد النوعي مدى الجهد المبذول فيها.

سخر الروائي والشاعر الإسباني ميغيل دي ثربانتيس (1547-1616) الذي كتب روايته " دون كيشوت" خلال ما يعرف بعصر التنوير الأوروبي، من الفروسية الزائفة، والاندفاعات العاطفية، والتوهمات غير العقلانية، وعدم التحلي بالحكمة، قاصداً إحداث قطيعة معرفية مع عصور الظلام وتصوراتها الساذجة عن العالم، لتكون روايته، بحسب عبدالرحمن بدوي في تصديره للترجمة العربية لها، واحدة من روائع الأدب العالمي الأربعة، مع "الإلياذة" لهوميروس، و"الكوميديا الإلهية" لدانتي، و"فاوست" لغوته.

السعي إلى الإصلاح

اعتمد العرض على نص الكاتب الفرنسي إيف جامياك (1918-1987) الذي لم يقتبس الرواية حرفياً، وإن أبقى على شخصياتها الرئيسة، دون كيشوت. وتابعه ثانشو الفلاح المحدود الفهم، الذي لا يعرف القراءة والكتابة.

بدا نص العرض أكثر تعاطفاً مع شخصية دون كيشوت، فهو هنا يسعى إلى الإصلاح حتى ولو على حساب نفسه. نحن أمام أحد النبلاء الثانويين، المشغول بالقراءة، وكاد يفقد بصره من كثرة إدمانه على قراءة كتب الفروسية. قرأ مئات الكتب وآمن بالحق والخير والجمال، وقرر نصرة الإنسان بالقول والفعل إلى حد التضحية بنفسه، وأيقن أن عليه رسالة يجب أن يؤديها، فتمرد على مكتبته، وخرج ليحقق رسالته. لكن عاطفته سبقته، وأدت خبرته المحدودة بالعالم الخارجي إلى هزيمته وعودته إلى بيته. لكنه شخص لا يعرف اليأس، وهو ما يؤكده استعراض النهاية (صاغه شعراً أحمد زيدان، وموسيقى رفيق يوسف)، داعياً إلى استمرار المحاولة، وعدم اليأس، رافعاً من قدر أولئك الذين يسوؤهم أن تظل الحياة على الأرض قائمة على الظلم وعدم المساواة، أو بمعنى آخر على عدم احترام إنسانية الإنسان أياً كانت وضعيته.

سعى العرض إلى إبراز ثنائية الوهم والحقيقة، فالبطل هنا يمارس مغامراته في محاربة الشياطين التي هي في واقع الأمر طواحين هواء، ويحتفي بأميرات ويقدم لهن فروض الطاعة، وهن في الأصل بائعات هوى. ويحاول إنقاذ من يظنهم فرسانا، وهم في حقيقتهم مجرمون. وعلى رغم هزائمه الساحقة والضربات التي أصابت جسده بالجروح، فهو لا يموت. لديه روح كبيرة تؤمن بالحق والعدل، تنسيه ضعفه، وتجعله يبحث دائماً عن أرض فيها الكفاية والعدل والسلام.

فكرة المساواة

يبدأ العرض باستعراض (تصميم شريف مبارك) يخبرنا بأننا أمام فرقة مسرحية تقدم لعبة، الكل فيها أبطال، لا فرق بين كومبارس أو بطل رئيس. فكل مفيد في ما يقدمه، أي إنه يضعنا، منذ البداية، أمام فكرة المساواة التي يسعى البطل إلى تحقيقها، هو يحتفي أكثر بالسعي، ولا تشغله النتائج.

صاغ المخرج عرضه بنعومة، معتمداً الصورة في تأكيد فكرته وتعميقها، فالديكور (صممه عمرو الأشرف) لعب مع الإضاءة (أبوبكر الشريف) وكذلك الملابس والأكسسوارات (رامي شهاب) دوراً مهما في إغناء الصورة، فضلا عن خطوط الحركة التي رسمها لممثليه. فشكل ذلك كله مشهدية مسرحية لا تحتل الكلمة وحدها مساحتها الكبرى، بل تشاركها العناصر الأخرى، كل بحسب وظيفته.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

جاء الديكور تعبيرياً معتمداً على فكرة الاختزال والتقشف من دون أن يفقد جمالياته، فالمسرح مقسم إلى مستويين، الأول في المستوى صفر، والآخر أعلى بقليل وعبارة عن مدرجات. وفي الخلفية بانوراما تشكلت فوقها رسوم تعبر عن طواحين الهواء وبعض المناظر الأخرى. هو مشهد واحد ثابت، يخلو من الكتل الضخمة، ويتيح مساحة واسعة للتمثيل والاستعراض. والإضاءة بتعدد مساقطها وألوانها، التي غلب عليها الأزرق والأحمر الفاتح، كفيلة بالإيحاء بالانتقال من مكان إلى آخر. من القصر، إلى المزارع، إلى الحانة، إلى غيرها من الأماكن، وهي كلها نقلات بدت مقنعة، ومنظمة لإيقاع العرض، بعيداً من الإعتام الذي لم يتم اللجوء إليه طوال العرض.

ربما قصد المخرج إلى أن تسلم الأحداث والنقلات المكانية بعضها بعضاً، بعيداً من الارتباكات التي يمكن أن تحدث، حال اللجوء إلى تغيير المنظر، بخاصة أنه يتعامل مع شباب، وهو مما يعكس خبرة المخرج في التعامل مع هذه النوعية من الممثلين، رافعاً شعار" لكل مقام مقال" وإن لم يأت ذلك على حساب جودة العرض.

عدالة التوزيع

أمر آخر نجح المخرج فيه، وهو عدالة توزيع الأدوار على الممثلين، كل وفق إمكاناته. فمعروف أن مساحة الدور تشغل كل ممثل يعمل في المسرح الجامعي، فأبقى على ممثلين فقط في دوري دون كيشوت وتابعه ثانشو، وأسند لكل ممثل آخر أكثر من دور، تحقيقاً لفكرة الإشباع لدى هؤلاء الطلاب.

وعلى رغم أن المدقق في مجريات الأحداث يستشعر تعاطفاً مع دون كيشوت، فقد جاء العرض مراوغاً، فترك المخرج الباب مفتوحا للتأويل، أو لطريقة التعاطي مع العرض ككل، ليظل السؤال مطروحاً من دون إجابة حاسمة: هل مثل هذه الشخصية تستحق التعاطف والتقدير، أم إن السخرية جديرة بها؟

الأغاني كانت من عناصر العرض التي شاركت في بناء الدراما ولم تكن عبئاً عليها، فقد تم توظيفها بشكل محسوب، لتأتي بمثابة مفاتيح لرسالة العرض، لا مجرد حلية للاستهلال والختام، فضلاً عن غلبة الجماعية عليها، بعيداً من "الصولوهات" لتسهم هي الأخرى في تأكيد فكرة العدالة التي يبحث عنها دون كيشوت.

يشير هذا العرض إجمالاً، إلى أهمية المسرح الجامعي ودوره في مصر، فثمة ممثلون كثر تخرجوا فيه، وصاروا نجوماً في ما بعد. فهو بمثابة رافد مهم للمسرح متى تم الاعتناء به. ولعل منافسة بعض العروض الجامعية لعروض المحترفين في المهرجانات المحلية، بل وتفوقها عليها وانتزاع الجوائز منها، خير دليل على أهمية هذا المسرح والدور الذي يلعبه، بخاصة أنه يأتي متحرراً مما يلزم به المحترفون أنفسهم، ولا تعنيه حسابات المكسب أو الخسارة المادية.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة