Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

نهاية صداقة وحسن جوار... ليس لدى روسيا من تناجيه في فنلندا

لم تحاول هلسنكي حل مشكلة اللجوء مع موسكو عبر القنوات الدبلوماسية بل أغلقت المعابر الحدودية

الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي مصافحاً رئيس الوزراء الفنلندي بيتيري أوربو خلال زيارة الأخيرة إلى كييف في 23 أغسطس الماضي (أ ف ب)

ملخص

تشير الاستطلاعات إلى أن الفوز بالانتخابات الرئاسية في فنلندا سيكون من نصيب ألكسندر ستوب المؤيد للتقارب مع حلف شمال الأطلسي

الآن ستتصرف فنلندا، بعد أن خرجت عن حيادها الرمادي الطويل، وصارت عضواً في الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، كمشارك مسؤول في التحالف الغربي المناهض لموسكو. وبناء على ذلك، شرعت روسيا بالنظر إليها على أنها دولة جارة "غير صديقة" مع كل ما يترتب على ذلك من آثار، وما يتبع من محاولات لاختبار حدود المسموح به، وما يلي ذلك من إجراءات صارمة رداً على خروج هلسنكي عن مسار قوانين التاريخ والجغرافيا، وفق ما يراها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ويحفظها عن ظهر قلب.

وفي 30 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أغلقت فنلندا حدودها مع روسيا بالكامل، لتصبح أول دولة توصد أبوابها في وجه "الدب" الروسي. فحتى دول البلطيق، التي عادة ما تكون أكثر حذراً تجاه روسيا، لم تقدم على هكذا خطوة ولا تخطط بعد لتكرار التجربة الفنلندية في صد الجار الروسي بقسوة.
تفسر هلسنكي قرارها المفاجئ بالزيادة الحادة في تدفق اللاجئين عبر الحدود الروسية، لكنها تخفي أن الأمر أبعد من ذلك بكثير، وأن مسألة اللاجئين وحدها لا يمكنها أن تفسد للود قضية مع جار "رهيب" كانت حتى الأمس القريب تحافظ بعناية على علاقات حسن الجوار معه، وتعتمد على مصادر الطاقة منه، وعلى تدفق سياحه ورعاياه إليها.
حين كانت فنلندا تحت مظلة الحياد السياسي الذي حافظت عليه بشق النفس طوال فترة الحرب الباردة، كانت تبتدع حلولاً لكل مشكلة تطرأ على علاقتها مع الجار السوفياتي، ثم مع خليفته الاتحاد الروسي، وهي اعتمدت على مبدأ حسن الجوار لتحل مشكلة مماثلة خلال أزمة لاجئين طرأت في عام 2015 من خلال الحوار مع موسكو.
لكن هلسنكي التي استظلت، أخيراً، براية حلف شمال الأطلسي تحركت هذه المرة على الفور لاتخاذ إجراءات انتقامية ضد موسكو بحجة أزمة تدفق اللاجئين عبرها؟ فكيف يمكن إغلاق الحدود التي عبرها 12 مليون شخص في عام 2013، و8.5 مليون في سنوات ما قبل وباء كوفيد؟ ففي نهاية المطاف، حتى في الأشهر السبعة الأولى من هذا العام، بعد كل القيود، كان هناك ما يقرب من مليون عبور. لماذا تريد الدولة التي أصدرت قبل عقد من الزمن فقط أكثر من مليون تأشيرة شنغن سنوياً للروس وفعلت كثيراً لجذب السياح الروس، أن تعزل نفسها نهائياً عن روسيا؟

لاجئون أم مهاجرون؟

الإحصائيات التي استشهدت بها السلطات الفنلندية في مسألة اللاجئين تتحدث عن نفسها. في سبتمبر (أيلول) 2023، قدم 13 شخصاً وصلوا إلى فنلندا عبر الحدود مع روسيا طلباً للجوء. في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي 32 شخصاً. وفي الأسبوعين الأولين من نوفمبر (تشرين الثاني) ما يقرب من 500 شخص. لا يحتاج المرء إلى تحليل عميق لهذه المعلومات ليفهم أن شيئاً ما قد تغير على الجانب الروسي من الحدود. ولا يمكن أن تصبح مثل هذه الزيادة الحادة ممكنة إلا إذا توقف حرس الحدود الروس، الذين اعتادوا فحص وثائق المسافرين وحقهم في دخول فنلندا، عن القيام بذلك. ولا يمكن اتخاذ قرار في هذا الشأن إلا على مستوى سياسي رفيع.
لم تحاول الحكومة الفنلندية حل المشكلة عبر القنوات الدبلوماسية، بل قامت لأسباب تتعلق بالأمن القومي، بإغلاق المعابر الحدودية أولاً في الجنوب ثم في وسط البلاد. وفي 30 نوفمبر الذي يصادف ذكرى بدء حرب الشتاء التي شنها الاتحاد السوفياتي عليها خلال عامي 1939 و1940 أغلقت هلسنكي آخر معبر في الشمال، وليس من المؤمل أن يتم إعادة فتح الحدود في المستقبل القريب.
بالمناسبة، حتى 27 نوفمبر الماضي، لم تتم الموافقة على أي طلب لجوء من المهاجرين الوافدين حديثاً. ولا بد من دحض الأسطورة حول إمكانية دخول فنلندا بسهولة عبر الحدود مع روسيا، التي يروج لها القائمون على الاتجار بالبشر على الشبكات الاجتماعية لخداع المهاجرين المحتملين في الدول العربية وأفريقيا.
هذه هي قمة جبل جليد العلاقات الروسية- الفنلندية الظاهرة للعيان، لكن قاعدة هذا الجبل الجليدي تستتر خلف المخاوف الأمنية لدى الجانب الفنلندي، نتيجة لحرب روسيا ضد أوكرانيا. وهذا هو نفس رد الفعل الذي غير المزاج العام في فنلندا تماماً في مطلع عام 2022، عندما قررت البلاد الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي. وينظر الفنلنديون الآن إلى روسيا باعتبارها تهديداً لهم ولجيرانهم، وهذا ما يوفر الدعم الشعبي لأي تدابير يتم تفسيرها على أنها تعزيز للأمن القومي في مواجهة التهديد الروسي.

تدمير ممنهج لعلاقات حسن الجوار

دخل ملف انضمام فنلندا إلى حلف شمال الأطلسي دائرة التجاذب الشديد بين موسكو وهلسنكي، وزاد الطين بلة، دعوة فنلندا لنشر قوات أميركية على أراضيها، وهذا ما حدا بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى اعتبار أن هذه الخطوة ستؤدي إلى مشكلات بين البلدين، متوعداً بالرد على ذلك بإنشاء منطقة لينينغراد العسكرية.
ولفتت وزارة الخارجية الروسية، الجمعة الماضي، إلى أن مجمع العلاقات بين روسيا وفنلندا برمته قد تم تدميره بالكامل بسبب "خطأ هلسنكي"، وأن فنلندا تنتهج "سياسة عدوانية وتصادمية معادية لروسيا، بما في ذلك الدعم النشط لأوكرانيا، من خلال إمدادها بالأسلحة والمعدات العسكرية، ودعوتها باستمرار إلى زيادة ضغط العقوبات على روسيا".
وأشارت الخارجية الروسية، إلى أن "فنلندا انضمت في أبريل (نيسان) 2023، رسمياً إلى كتلة الناتو العسكرية، التي تعادي روسيا بشكل علني، وتخلت عن سياسة عدم الانحياز العسكري طويلة المدى، والتي كانت أساساً فعالاً لضمان الأمن القومي".
في السنوات الأخيرة، تم تدمير هيكل التعاون الثنائي بالكامل تقريباً بين روسيا وفنلندا، والذي أُنشئ على مدى عقود، فقد أغلقت روسيا القنصلية الفنلندية في سان بطرسبورغ، وهي نفس القنصلية التي كانت تعرف باسم "مصنع التأشيرات". وردت فنلندا بإغلاق القنصلية الروسية في توركو.
والآن يمكننا أن نضيف إلى هذه القائمة أزمة المهاجرين على الحدود، مع فوائدها غير الواضحة بالنسبة إلى روسيا. ربما كان هذا استطلاعاً بالقوة. ولو استسلمت فنلندا ولم تغلق حدودها، لكانت الأزمة قد أصبحت مجال مقايضة: أوقفوا الدعم لأوكرانيا، نوقف تدفق المهاجرين إلى بلدانكم، في المقابل.
وفي العلاقات بين روسيا وفنلندا، انتهت أخيراً عهود حسن الجوار وأيام التعاون العملي والحوار الفعال، التي كانت فيها هلسنكي تسعى إلى تجنب الصراعات، وتحاول أن تظل بمثابة واجهة بين روسيا والغرب. وكانت موسكو سعيدة بمثل هذه العلاقات، الأمر الذي شكل مظهر وجود بعض النفوذ الخاص لها على جارتها. لقد بدأ الآن العصر الذي تتصرف فيه فنلندا، كعضو أصيل في الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي.

الآتي أعظم

تشير استطلاعات الرأي إلى أن الفوز في الانتخابات الرئاسية في فنلندا سيكون من نصيب رئيس الوزراء السابق للبلاد، ألكسندر ستوب، بعد أن انحصرت المنافسة على منصب الرئاسة بينه وبين وزير الخارجية السابق بيكا هافيستو، نتيجة الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية التي جرت، أمس الأحد.
"كلا المرشحين يؤيدان التقارب والعمل النشط مع حلف شمال الأطلسي، لذا لا ينبغي توقع تليين موقف هلسنكي تجاه موسكو"، كما يقول رومان بلوسنين، الباحث في معهد بحوث السياسة الخارجية في فنلندا.
فمنذ اللحظة التي أصبح فيها ستوب مرشحاً في الانتخابات الرئاسية، احتل دائماً مكانة رائدة في الاستطلاعات. إنه مرشح من نفس حزب الرئيس الحالي، وكان دائماً مؤيداً للتقارب والعمل النشط مع الناتو، وهو الأمر الذي أصبح الآن مناسباً لفنلندا. إنه مرشح محافظ إلى حد ما، على الأقل مقارنة بمعظم المرشحين الآخرين، لذلك لا ينبغي للمرء أن يأمل أن يتخذ ستوب، بصفته رئيساً، موقفاً أكثر ليونة تجاه روسيا. ويمكن وصفه بأنه "أطلسي الحسب والنسب"، فهو مرشح مؤيد لحلف شمال الأطلسي منذ أن شغل منصب وزير الخارجية ومنصب رئيس الحكومة بعد ذلك. فحتى قبل أن يصبح الانضمام إلى الناتو "تياراً سائداً"، كان ستوب يؤيد الانضمام إلى الحلف. وبناء على ذلك، فهو الآن المرشح الأكثر ملاءمة لحلف شمال الأطلسي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)


عودة مظفرة

حدث الصعود السريع في مسيرة ألكسندر ستوب السياسية في عام 2008، عندما تم تعيينه وزيراً للخارجية، لكن منذ عام 2015، وبعد خسارة "حزب الائتلاف الوطني" الذي كان يترأسه آنذاك، بدأ نجم السياسي في التلاشي بشكل مطرد. في عام 2016، استقال ستوب من منصب زعيم الحزب، وخسره أمام رئيس الوزراء الحالي بيتري أوربو، وبعد عام أعلن اعتزاله السياسة، وقضى السنوات السبع التالية، أولاً في لوكسمبورغ كنائب للمدير العام لبنك الاستثمار الأوروبي، ثم في إيطاليا كمدير لمدرسة فلورنسا الوطنية للحكم العابر للحدود.
وأعلن ستوب نفسه قراره بالعودة إلى السياسة في مقابلة أجريت معه أخيراً. وقال "كنت أخطط لفعل شيء آخر في حياتي، لكن الهجوم الروسي على أوكرانيا جعلني أغير رأيي".
ويلاحظ أن ألكسندر ستوب دافع بنشاط عن انضمام فنلندا إلى حلف الأطلسي حتى عندما اعتقدت غالبية الفنلنديين خلاف ذلك، لكن كان من المستحيل الاشتباه في وجود أي رهاب خاص لروسيا عنده في ذلك الوقت. وهكذا، في عام 2008، بعد أن دان اعتراف روسيا باستقلال أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا، عارض بشدة فرض عقوبات على موسكو.
لكن، وبعد 24 فبراير (شباط) 2022، أصبح موقفه أكثر صرامة بشكل ملحوظ. وفي مقابلة أجريت معه أخيراً، وعد الرئيس المستقبلي المحتمل لفنلندا بتقديم الدعم غير المشروط لأوكرانيا واستبعد أي علاقة مع الرئيس بوتين حتى توقف موسكو الأعمال العدائية. وعلى الصفحة الرسمية للمرشح، في القسم الخاص ببرنامجه الانتخابي، هناك المقطع التالي: "لقد وضعت الحرب العالمية الأولى نهاية للإمبريالية. وضعت الحرب العالمية الثانية نهاية للفاشية. لقد وضعت الحرب الباردة نهاية للشيوعية. ويتعين علينا أن نضمن أن حرب بوتين لن تضع حداً لليبرالية، أي للديمقراطية الغربية".
ومع ذلك، لا يميز الموقف المتشدد تجاه روسيا السيد ستوب على الإطلاق، عن المرشحين الرئاسيين الآخرين، الذين يجمعون على ضرورة وضع النقاط بقوة على الحروف في العلاقة مع موسكو.

الاتجاه يميناً

يبدو جلياً نمو شعبية خطاب اليمين في فنلندا أخيراً، وتقول الباحثة في جامعة هلسنكي، جيني كاريماكي، إن عدداً كبيراً من ممثلي الناخبين اليمينيين المتطرفين يدعمون ألكسندر ستوب، معتقدين أنه سيكون من الأسهل عليه هزيمة السياسي الليبرالي بيكا هافيستو. علاوة على ذلك، منذ العام الماضي، كان "حزب الائتلاف الوطني" الذي يتزعمه ستوب و"حزب الفنلنديين" في نفس الائتلاف الحكومي.
كما أن ستوب، الذي ينتظر أن تشمل مهامه الرئاسية توحيد الأمة خلف مبدأ إقامة علاقات ندية مع موسكو، خلفيته نخبوية. ويقول علماء الاجتماع إن التعليم الذي تلقاه في الولايات المتحدة، والميل إلى ارتداء بذلات من تصميم كبار المصممين، وحتى أصله السويدي- الفنلندي، مثل هذه المجموعة المتشابكة تؤهله للسير قدماً في مشروع مناهضة روسيا.

تعقيب

تمتعت فنلندا بعلاقة خاصة مع روسيا منذ عقود، لكن بعد الحرب الروسية على أوكرانيا، توقف الغاز الروسي تقريباً عن التدفق إلى البلاد، كما قطعت شركة "غازبروم" الإمدادات. ولم تعد هلسنكي تصدر تأشيرات "شنغن" السياحية للروس، وتبني فنلندا سياجاً بطول 200 كيلومتر على الحدود مع روسيا وتدعو القوات الأميركية للانتشار على أراضيها.
التغييرات دراماتيكية هذا هو التعبير الصحيح تماماً عن واقع الحال بين روسيا وفنلندا. وهذا واضح على مستوى الخطاب السياسي. كان من الصعب دائماً فهم النهج الذي تتبعه فنلندا في التعامل مع روسيا. واستثمر كثيراً في تحقيق أفضل علاقات حسن جوار ممكنة. كانت فنلندا مهتمة بتجنب التوتر على الحدود، وأدى ذلك إلى التزامها الحياد وعدم انضمامها سابقاً إلى حلف شمال الأطلسي من أجل إقامة علاقات جيدة مع روسيا، غير أن الأمور انقلبت الآن رأساً على عقب، انتهت الصداقة، وتحول حسن الجوار والحوار إلى احترار، فبعد الحرب على أوكرانيا لم يعد لدى روسيا من تناجيه وتأمل فيه خيراً في ذلك البلد الجار.

المزيد من تقارير