Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الحروب البيلوبونيزية... قاعدة النار والدم لنهضة اليونان القديمة

لماذا طال زمن الحرب بين الأثينيين والإسبرطيين لـ3 عقود وهل صاغ سقراط وأفلاطون وأرسطو منجزهم الفلسفي من دروسها القاسية؟

الحروب البيلوبونيزية من أهم وأخطر الحروب التي عرفها العالم القديم (الموسوعة البريطانية)

ملخص

لماذا طال زمن الحرب بين الأثينيين والإسبرطيين لـ3 عقود وهل صاغ سقراط وأفلاطون وأرسطو منجزهم الفلسفي من دروسها القاسية؟

لعلها واحدة من أهم وربما أخطر الحروب التي عرفها العالم القديم، لا سيما أن فصولها قد جرت قبل الميلاد، بين أقوى تجمعين بشريين في منطقة جغرافية واحدة، أثينا وإسبرطة، التي دامت ثلاثة عقود متتالية من عام 431 إلى عام 405 قبل الميلاد.

شهدت حرب البيلوبونيز The Peloponnesian War تحولات استراتيجية عميقة في مقدرات السلطة والقوة بين الجانبين، كان صعود الواحدة إنذاراً للأخرى، يحمل في طياته مخاوف من أن تهيمن على المنطقة.

بالرجوع إلى دائرة المعارف البريطانية الشهيرة، نجد أن المؤرخين قاموا بتقسيم هذه الحرب تقليدياً إلى ثلاث مراحل.

في المرحلة الأولى التي تعرف باسم "حرب أرشيدميان"، شنت "سبارتا" غزوات متكررة على منطقة "أتيكا" وهي شبه جزيرة ثلاثية في بحر إيجه، بينما استغلت أثينا تفوقها البحري للإغارة على ساحل بيلوبونيز (شبه جزيرة تقع في جنوب اليونان)، ومحاولة قمع إرهاصات الاضطرابات في إمبراطوريتها. انتهت هذه الحرب في عام 421 قبل الميلاد بتوقيع سلام Nieias.

تجدد القتال مرة ثانية عام 415 قبل الميلاد، وذلك حين شنت أثينا هجوماً على سيراكوزا، انتهى بفشل كارثي مع تدمير القوة بأكملها عام 413 قبل الميلاد.

أدى ذلك إلى دخول المرحلة الأخيرة من الحرب، التي يشار إليها عموماً باسم حرب "ديسيلن" أو "الحرب الأيونية"، وقد كان من نتائجها علو شأن إسبرطة في مواجهة أثينا.

عن أثينا وإسبرطة أول الأمر

يختلف التكوين المجتمعي لسكان أثينا عن سكان إسبرطة، اختلافا كبيراً، فقد كان الأثينيون أقل اهتماماً بمشاهد العسكرة، من حيث حشد الجيوش أو انتظام أعمال القتال، بل إن تشريعاتهم بدورها كانت مختلفة بالكلية عن إسبرطة، ويمكن تعريف أثينا بأنها ينبوع الثقافة والمعرفة الفلسفية، وحتى اليوم فإن إنجازات الأثينيين هي محل تقدير كبير من حيث الهندسة المعمارية.

اعتدمت التشريعات عند الأثينيين على المساواة بين جميع أبناء الرعية، وقد علموا العالم الفنون والعلوم والآداب، كما كانوا أصحاب خبرة كبيرة في البحر ولهم أساطيل كبيرة.

عند النظر إلى الحياة في أثينا، فإنها تعكس مدى الإبداع الكامل، في إعطاء الرجال فرصة المتابعة في كل مجال يرغبون فيه بين الفنون أو العلوم، ليعد هذا هو السبب الرئيس في ظهور المثقفين مثل أبقراط، سقراط، سوفوكليس، بريكليس وهيرودت، ولم تلتزم أثينا بفكرة التجنيد الإجباري، كما الحال في إسبرطة. كان آخر ملوك الأثينيين، الملك قدروس الذي أحبه العامة واحترموه لدرجة أنه عندما توفي رغب الأثينيون في انتخاب حاكم من أسرته، واستمرت الأحوال جيدة حتى عام 613 قبل الميلاد، حيث تم تقليد تسعة أشخاص على الحكم، وبدأ الصراع بين كل من حزب العامة والنبلاء، حتى قام رئيس حزب الخاصة بالاستنجاد بالإسبرطيين.

من هم الإسبرطيون؟

سكن أهل إسبرطة في المنطقة الجنوبية من اليونان، وقد عرفوا باستعباد الأشخاص الذين هم أقل منهم مرتبة، هذا فضلاً عن أن هذا الشعب عرف بقلة الاهتمامات الفنية والعلمية، وقد قامت حياتهم على الحروب والغزوات وتعلم فنون القتال، وبالفعل كان لهم جيش مدرب قوي.

كانت إسبرطة هي المدينة التي يسيطر عليها الفكر العسكري الاستراتيجي، إذ اعتبرت أن القوة والتسلح هما الهدفان الرئيسان المسيطران على تفكير أبنائها.

اشتهر محاربو إسبرطة منذ فترة طويلة بصلابتهم وبراعتهم العسكرية، ويرجع الفضل في ذلك جزئياً إلى معركة "ثرموبيلاي" الشهيرة التي وقعت عام 480 قبل الميلاد، التي صمدت فيها وحدة صغيرة من الجنود الإسبرطيين في القتال حتى الموت، ضد جيش فارسي أضخم بكثير، وهو ما تم تناوله في فليم "300"، الذي أنتج عام 2007 من بطولة الممثل الأميركي "جيرارد بتلر" وطائفة من كبار الممثلين.

كان من أبرز المشرعين المعروفين في إسبرطة " ليكورغوس"، الذي عرف قبل الميلاد بنحو 800 عام، ذلك الرجل الذي سن عديد من القوانين التي نصت على منع السفر والتجارة، وكذلك إلحاق جميع الرجال بالجيش، وأمر بتعيين ملكين كل منهما يراقب الآخر، وذلك منعاً للاستبداد.

ما الذي جعل الحرب بين الأثينيين والإسبرطيين تحدث بالضرورة التاريخية؟

الجواب عبر "فخ ثيوسيديديس"

شاع مصطلح "فخ ثيوسيديديس" في العقد الأخير، بعد أن "اصطكه" عالم السياسة الأميركي "غراهام تي أليسون"، الذي استعار الفكرة من المؤرخ والجنرال العسكري الأثيني القديم "ثيوسيديدس"، لوصف نزعة واضحة نحو الحرب عندما تهدد قوة صاعدة قوة عظمى مهيمنة إقليمياً أو دولياً.

كانت رؤية "ثيوسيديديس" لأسباب الحرب البيلوبونيزية، تدور حول مخاوف إسبرطة القوية المدججة بالأسلحة، والمرتكزة إلى الشباب القوي الفتي، من صعود أثينا عسكرياً لا سيما بعد حادثة بعينها.

تعرف تلك الحادثة باسم "حرب سهل الماراثون"... ماذا عنها؟

جرت هذه المعركة عام 490 قبل الميلاد، وفيها ساند الأثينيون، حلفاءهم الأيونيين (مجموعة من اليونانيين القدماء عاشوا في أجزاء مختلفة من المنطقة البيلوبونيزية، أي شبه الجزيرة الجنوبي من اليونان قبل عام 110 قبل الميلاد)، في المعارك التي دارت بينهم وبين الفرس، ما أثار غضب ملك الفرس داريوس (550-486) قبل الميلاد.

بمجرد أن انتهى داريوس من حروبه مع الأيونيين، أعد جيشاً كبيراً وتوجه به إلى مقدونيا، حتى تمكن من الوصول إلى منطقة سهل الماراثون التي تقع في شمال أثينا، غير أن الجيش الأثيني تمكن من التصدي لهم، وقد كان ذلك من دون أي مساعدة من الإسبرطيين، مما عزز من قوة العسكرة الأثينية، التي واكبها بناء مزيد من قطع الأسطوال البحري.

بدت هذه القوة الصاعدة من جانب أثينا، مخيفة للإسبرطيين على مستقبلهم وهو ما اعتبره المؤرخون اليونان القدامى، بمثابة ماكينات للحرب، فكيف إذن لأبناء الأثينيين المنشغلين بالفلسفة والفنون أن يتفوقوا عليهم في ميادين المعارك.

يحدثنا المؤرخ اليوناني القديم بلوتارخ، الذي أرَّخ أزهى عصور إسبرطة في القرن الرابع قبل الميلاد، عن كيفية تدريب الأطفال في إسبرطة بعد وقت قصير من ولادتهم.

كان مجلس الشيوخ في إسبرطة يفحص الأطفال الذكور ويسمح فقط للأطفال الأصحاء الأقوياء البنية بالبقاء على قيد الحياة، في حين يترك أولئك الذين اعتبروا غير أصحاء أو مشوهين عند سفح الجبل ليموتوا.

كان الآباء الإسبرطيون يسلمون أبناءهم في عمر سبع سنوات إلى الدولة، التي تولت تنظيمهم في مجموعات تعيش وتدرس وتتدرب معاً.

ومن جديد يخبرنا بلوتارخ قائلاً، "الفتى الذي يتفوق في تقييم الأمور وإصدار الأحكام ويظهر شجاعة أكبر في القتال يعين قائداً للمجموعة، ويمتثل بقية أفراد المجموعة لأوامره ويخضعون لعقوباته". كان هذا التنظيم بمثابة تدريب على ممارسة مبدأ السمع والطاعة.

كانت المواجهات العسكرية إذن لا بد أن تقع بين إسبرطة ذات الشهية المفتوحة للحروب وأثينا الخارجة منتصرة على واحد من أهم ملوك الفرس، "داريوس"، ذاك الذي أذاق "نبوخذنصر"، الملك البابلي شبه الأسطوري هزائم قاسية.

"التيلوروكراتيا" في مواجهة "التالوسوكراتيا"

هل كانت المواجهة بين أثينا وإسبرطة مواجهة ذات أبعاد أيديولوجية ومنطلقات عسكرية في الوقت ذاته؟

مؤكد أن هذا ما حدث بالفعل، لا سيما أن الإسبرطيين كانوا أصحاب "التيلوروكراتيا"، أي الحضارة البرية، حيث كانوا يراهنون على قوتهم البرية المسلحة، المدربة تدريباً عالياً، بل إن جنودهم كانوا يوصفون بأنهم متوحشون.

على الجانب الآخر، بنت أثينا حضارة "التالوسوكراتيا"، أي حضارة البحر، ولهذا كانوا متفوقين عبر أسطاليهم العسكرية.

يمكن اعتبار الحرب البيلوبونيزية الأولى، التي سميت الحرب "الأرشيدامية"، على اسم الملك المتقشف "أرشيداموس الثاني"، الذي قاد الغزو الأول لإتيكا المنطقة المحيطة بأثينا، هي مفتتح هذه الحروب.

بدأت هذه الحرب بالهجوم من الجانب الإسبرطي على تلك المنطقة، التي كانت على حلف مع الأثينيين، وقتها كانت إسبرطة تعتمد على القوة البرية لأنهم كانوا على دراية بأن الأثينيين متفوقين بحرياً.

كانت الاستراتيجية الموضوعة هي غزو الأراضي المحيطة بأثينا، بغرض منع المدد، ومن ثم تدمير الريف وإجبار الأثينيين على خوض معركة برية حاسمة. ومع ذلك نصح الزعيم الأثيني "بريكليس" شعبه بتجنب المواجهة المباشرة والاعتماد على قواتهم البحرية وجدرانهم المتفوقة، كما أمر السكان بالتراجع خلف الأسوار الطويلة، التي كانت تربط أثينا بمينائها في "بيرايوس" وشن غارات بحرية على ساحل الجزر البيلوبونيزية.

يمكن الإشارة إلى عدة مشاهد مميزة لهذه الحرب، التي جرت خلالها عدة معارك وليس معركة واحدة.

على سبيل المثال في معركة "سفاكتيريا"، 425 قبل الميلاد، استطاع الأثينيون أسر 292 جندياً إسبارطياً من جنود المشاة.

شجع هجوم الإسبرطيين على أثينا، حدوث ما عرف باسم "ثورة ميتيليني"، التي كانت محاولة فاشلة من قبل جزيرة "ليسيوس" للانفصال عن الإمبراطورية الأثينية.

حفلت هذه الفترة الزمنية كذلك بعقد صلح بين الأثينيين والفرس، عرف باسم "صلح كالياس" سنة 449 قبل الميلاد، الذي أنهى الأعمال العدائية بين الطرفين، وضمن للأثينين السيطرة على بحر إيجه.

انتهت هذه الحرب الأراشيدمية عام 421 قبل الميلاد بعاهدة "نيسياس"، التي أعادت الوضع إلى ما قبل الحرب واعترفت بمناطق النفوذ لكلا الجانبين.

هل كانت أعمال الحرب المتعادلة بين الجانبين هي التي قادت إلى التوصل لاتفاقية السلام الهش هذه، التي سرعان ما ستتهاوى وبخاصة في ظل عدم رضى أي من الطرفين عنها، عطفاً على سخط عديد من الحلفاء من على الجانبين، أم كان هناك سبب آخر أدى إلى فرار الإسبرطيين على رغم شجاعتهم في الحروب من منطقة "أتيكا"؟

عن طاعون أثينا والأثر المدمر

مؤكد أن الطاعون الذي ضرب أثينا في ذلك الوقت، كان أحد أهم الأسباب التي أدت إلى سرعة هرب الإسبرطيين من الحرب البيلوبونيزية الأولى.

دمر هذا الوباء قطاعات واسعة في أثينا من البشر والحجر على حد سواء، وهناك من المؤرخين من يقول إنه قتل ما بين 75 و100 ألف شخص، أي ربع السكان، ويعتقد أنه دخل أثينا عبر "بيرايوس"، ميناء المدينة والمصدر الوحيد للغذاء والإمدادات، كما شهد جزء كبير من شرق البحر الأبيض المتوسط تفشي المرض وإن كان تأثيره أقل. ووفقاً لما ذكره "ثيوسيديديس"، في مؤلفه الشهير عن "الحروب البيلوبونيزية"، فإن أثينا وفي خضم صراعها الطويل مع إسبرطة، سحبت شعبها وقتها داخل الأسوار التي تحمي المدينة، ومع التفوق البحري والاقتصادي، فقد اعتقد زعيمها "بريكليس"، أنه مع مثل هذه الاستراتيجية سيكون من المستحيل غزو المدينة.

كانت النتيجة غير المقصودة لهذه الاستراتيجية وفقاً لما ذكره أستاذ التاريخ "جويل كويستينس" لموقع Conservation أن الحدود المزدحمة للمدنية جعلت منها أرضاً خصبة لمرض جديد، حيث أدى ظهور الطاعون إلى تعليق موقت للحياة الأثينية، لكنه لم يغير سياسة الحرب أو استراتيجيتها على الرغم من حصيلة القتلى.

لاحظ "ثيوسيديدس"، تداعيات مخيفة لوباء الطاعون، أبرزها اليأس. ووصف اليأس بأنه "أفظع سمة للمرض"، وسجل أن الاكتئاب والخوف المنتشران، بددا أي نوع من السلام الاجتماعي في داخل أثينا.

يعتبر "ثيوسيديدس" أحد الآباء العظماء في التاريخ الغربي، مما يجعل منهجيته موضوعاً لكثير من أعمال التحليل في مجال التاريخ، ويعد أحد أوائل المؤرخين الغربيين الذين وظفوا معياراً صارماً للتسلسل الزمني، بحسب السنة، إذ تتكون كل سنة من موسم الحملات الصيفية، وموسم الشتاء الأقل نشاطاً، وهو أسلوب يتناقض مع ما ذهب إليه أبو التاريخ "هيرودوت".

يعتبر "ثيوسيديدس" أن انسحاب الإسبرطيين لم يتأتَ تحت وقع ضربات الأثينيين، بل خوفاً من أن يلحق بهم "طاعون أثينا"، ولهذا فالأمر في تقديره نوع من أنواع الانتصار غير المباشر لجيش إسبرطة، وانكسار بصورة أو بأخرى لجيش أثينا.

وعنده كذلك أن الأثينيين كان لا بد لهم من أن يخسروا الحرب مع إسبرطة، ليس بسبب الطاعون فحسب، بل كذلك بسبب انكشاف خطوط الصدع تحت سطح الثقافة الأثينية.

لاحقاً ستقوم "كاترين كيليديس" الباحثة في المتحف اليوناني الوطني بتأطير ما قاله مؤرخ الحروب البيلوبونيزية، عن الطاعون بقولها: "كان المرض اختباراً أخلاقياً للهياكل المادية والسياسية في أثينا".

خلافات الأثينيين ومرحلة الحرب الثانية

لم يطل أمد سلام "نيسياس"، فقد كانت النار مضطرمة تحت رماد العداوة بين الإسبرطيين المتحينين فرصة للهجوم وأثينا التي تفكر في كيفية تقوية حضورها في إطارها الجغرافي والديموغرافي في حوض البحر الأبيض المتوسط.

أخذ الأثينيون يفكرن جدياً في مسألة غزو صقلية، عام 415 قبل الميلاد، بدا وكأن هناك دوراً قدرياً منوطاً بأحد جنرالات أثينا، الذي سيعد يوماً ما في تاريخها، نكبة كبرى على حضورها التاريخي.

إنه الجنرال "السيبيادس"، الذي عمل حارساً للقائد اليوناني "بيركليس"، وقد كان تلميذاً مفضلاً لسقراط الفيلسوف الإغريقي الشهير، ودخل عالم السياسة عام 420 قبل الميلاد، وسرعان ما اكتسب شعبية، بسبب سياسته الخارجية المتشددة.

أقنع "ألسيبيادس"، الجمعية الأثينية الحاكمة (برلمان الشعب وقتها)، بإطلاق حملة ضخمة إلى صقلية، على أمل توسيع الإمبراطورية الأثينية، والوصول إلى الموارد الغنية وطرق التجارة في غرب البحر الأبيض المتوسط.

لم يكن الطريق إلى صقلية مفروشاً بالورود، فقد قابلت الحملة عقبات كثيرة منذ البداية، ولهذا جرى استدعاء "السيبياديس" بهدف مساءلته عن الأمور العسكرية الإجرائية.

غير أن أزمة كبرى بعينها كانت تقف في طريقه، تمثلت في اتهامه بتدنيس المقدسات وتشويه تماثيل "هيرميس" (أحد آلهة جبال الأوليمب واليد اليمنى لكبير الآلهة "زيوس")، وقد كان "هيرميس" إله المسافرين والتجارة.

لم ينصع "السيبيادس" إلى الاستدعاء الذي كان يمكن أن يكلفه حياته، ولهذا هرب إلى جهة الأعداء إسبرطة، وقد كان من الطبيعي أن يكشف عن الخطط والأسرار التي يعدها الأثينيون لمقابلة جيوش الإسبرطيين، وقد كان من جراء المعلومات التي توفرت لهم، أن أرسلوا تعزيزات ومستشارين عسكريين إلى حلفائهم في صقلية، وبخاصة منطقة جزيرة سيراكوزا، أقوى منطقة في تلك الجزيرة.

هل كان "ألسيبيادس" نقمة على أثينا في معركتها الكبرى الثانية مع الإسبرطيين ضمن سياق الحروب البيلوبونيزية؟

ذلك كذلك قولاً وفعلاً، فقد تحولت الحملة الأثينية على صقلية إلى كارثة حقيقية، حيث واجه المهاجمون مقاومة شرسة وتكبدوا خسائر فادحة على يد الإسبرطيين.

كيف سقطت أثينا العظيمة؟

على رغم أن أثينا كانت قد فقدت معظم حلفائها، فإنها استمرت في الحرب بعد ذلك تسع سنوات أخرى، وقد انتصرت في بعض المعارك البحرية، ولكن في نهاية الأمر، سارت كل من إسبرطة والفرس بأسطول عظيم لمحاربتها في موقعة "أغوسبوتامي" عام 405 فهزماها شر هزيمة، وقد أجبر القائد الإسبرطي الأسطوري "ليساندر"، آخر حلفاء أثينا على أن يخضع له، وحاصر أثينا نفسها ومنع عنها مواردها من الغلال حتى سلمت، ولكنه لم يخرب المدينة، لأنها قامت بخدمات عظيمة لبلاد الإغريق في زمن محنتها في الماضي، غير أنه أجبرها على أن تتنازل عن إمبراطوريتها وكل سفنها إلا 12 سفينة، كما جعلها تهدم جدرانها الطويلة وحصونها في ميناء "بيرايوس" الشهير، كما كان على أثينا أن تكون حليفة لإسبرطة وما عدا ذلك فإنها كانت فيه حرة.

خلال الـ18 شهراً التالية لم يكن هناك سلم أو أمان في أثينا، فقد قام حزب يرمي إلى جعل أثينا تحكم بالأقلية، عوضاً عن نسق الديمقراطية الذي عرفت به قبل وقت طويل، وهو الأمر الذي كان يميزها بين دول العالم، وليس في قلب البحر الأبيض المتوسط فحسب.

استولى 30 من هذا الحزب على السلطات بقيادة "كريتياس"، وفي مدة قصيرة أطلق عليهم اسم الحكام الـ30 المستبدين، وفي خلال مدة حكمهم القاسي، قتل مئات من الديمقراطيين ونفي كثير ولم يقض على هذه الفوضى وسفك الدماء إلا بعد قتل "كريتياس"، في حرب مع أنصار الديمقراطية، ليأتي بعد ذلك ملك أثينا ليصلح بين الحزبين، وبمساعدته نفي الحكام المطلقون وأعيدت الديمقراطية إلى ربوعها عام 403 قبل الميلاد.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الآثار التي خلفتها الحرب على أثينا

يمكن القطع بأن أي مغامرة عسكرية ولو لأيام معدودات، حكماً سوف تترك أثراً بالغاً على المتحاربين فيها، فما بالنا بحرب استمرت نحو 30 سنة، بين كر وفر ونصر وهزيمة، وبين تجمعات حضارية وعسكرية فائقة القوة في ذلك الوقت.

تركت الحروب البيلوبونيزية، بصمات واضحة على العالم اليوناني القديم، صاحب السمعة العسكرية، والسياسية العالية، عطفاً على الحضور الفكري العالمي من فلسفة وفنون وآداب وعلوم.

كانت النتيجة الحتمية والأولى، هي نهاية العصر الذهبي لأثينا وأفول العصر الكلاسيكي في اليونان.

غيرت الحرب ميزان القوى والمشهد السياسي، فقد ظهرت إسبرطة كقوة مهيمينة، لكن تفوقها لم يدم طويلاً وواجهت تحدياً من قبل دول المدن الأخرى لاحقاً، لا سيما "طيبة"، و"كورنث". وكما أضعفت الحرب قوة اليونانيين، إلا أنها وحدتهم بشكل عام، غير أنها عرضتهم لتهديد المملكة المقدونية التي ستغزوهم في النهاية وتجمعهم تحت حكم فيليب المقدوني وابنه الإسكندر الأكبر.

تركت هذه الحرب أثراً واضحاً على الحياة الفكرية والفلسفية، فقد أفرزت علامات في الطريق، ذلك أنه بجانب رائعة الجنرال والمؤرخ "ثيوسيديديس" الذي تابع غالبية إن لم يكن كل هذه الحروب، فقد أثرت في تطور الدراما اليونانية وبخاصة أدب المآسي، الذي رأيناه في مسرحيات "سوفوكليس"، و"بوريبيدس"، و"اريستوفانيس"، الذين عكسوا مشاهد الحرب على الحالة الإنسانية والقضايا الاجتماعية والأخلاقية في عصرهم.

ولعله من المثير أيضاً القول إن الحرب البيلوبونيزية، حفزت على نمو أدب البلاغة، ومنهج السفسطة الفلسفي، حيث أصبح فن الإقناع والجدل أمراً حيوياً للحياة السياسية والقانونية لليونانيين.

غير أن النتيجة الأهم في عالم الفكر، هي أن تلك الحرب أثرت على فلسفة سقراط وأفلاطون وأرسطو، الذين شككوا في القيم والمعتقدات التقليدية لليونانيين وسعوا للعثور على الحقيقة والحياة الطيبة الهانئة، بعيداً من النار والدمار، البكاء والدم والدموع.

المزيد من تحقيقات ومطولات