Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

كآبة عوليس تومض في صور اليوناني نيكوس ألياغاس

معرضه الفرنسي في دير قديم نشيد احتفاء ببطل هوميروس وراهنية ملحمته

الزمن يرمز إلى رحلة هوميروس بكاميرا نيكوس ألياغاس (خدمة المعرض)

ملخص

معرضه الفرنسي في دير قديم نشيد احتفاء ببطل هوميروس وراهنية ملحمته

من حسن حظ الفنان أن تتاح له فرصة عرض أعماله، خارج  صالة  تقليدية (غاليري، متحف)، أي في مكان يعبق فضاؤه بالروحانية، ويحمل بعمره المديد آثار مرور الزمن. محظوظ هذا الفنان لأن هذا المكان، بتحاوره مع الأعمال المعروضة فيه، لا يعرّي فقط كل أبعادها ودلالاتها، أفضل من أي مكان آخر، بل يشحنها أيضاً بأبعاد ودلالات جديدة.

وهذا ما يحدث أمام أعيننا في المعرض الاستعادي الذي يحتضنه دير "جومييج" في منطقة النورماندي الفرنسية للمصوّر الفوتوغرافي اليوناني نيكوس ألياغاس. خيمياء مهيبة تعزز من وقع صوره المعروضة تحت عنوان "كآبة عوليس"، وفقاً لسينوغرافيا تشكّل تأويلاً حراً لملحمة أشهر شخصية إغريقية أسطورية.

وفعلاً، يحضر هذا الموضوع كخيط أحمر يربط أعمالاً فوتوغرافية يشكّل فيها البحث عن الذات ولحظة الحنين الملازمة للترحال والغربة، خير صدى للكآبة المتأصلة في شخص عوليس من جراء عودته المستحيلة إلى موطنه، إيثاكا. معرض يقترح سردية هوميرية جديدة باستكشافه أسطورة هذا البطل من وجهة نظر معاصرة، والعلاقة الحميمة والاستبطانية التي لطالما ربطت ألياغاس به ووجّهت بحثه.

هكذا يكشف بطل هوميروس لنا، من داخل صور هذا الفنان، كيف يمكن أن نخطّ "أوديسة" جديدة في زمننا الراهن. صور تمثّل كل مفردات صاحبها الفنية، وتنتقل بنا من اليونان إلى كوستاريكا، مروراً بمناطق مختلفة على حوض المتوسط، واضعةً تحت أنظارنا مشاهد، بورتريهات وأشياء أخرى كثيرة تتحدث عمّا وراء البحار: "هذه الصور هي ثمرة سنوات عديدة من السفر والبحث، دفتر مراسلات خيالي وواقعي في آن واحد. حنين المسافر إلى وطنه الأم لا ينحسر فيها. وإذ توحي أحياناً بوقفات، فإنها تمقت الجمود. كآبة عوليس التي يعبرها نشيد صامت، لا حاجة إلى إتقان لغته لفهمه"، يوضح ألياغاس في شأنها.

العودة إلى إيثاكا

الحرية موضوع ثابت في رحلة عودة بطل هوميروس إلى إيثاكا. حرية تعاندها إرادة الآلهة، لكن من خلال ألف حيلة وحيلة، يتمكن عوليس من الإفلات من مشيئتها وإحباط قوى القدر. وداخل صور ألياغاس، يحضر هذا الموضوع أيضاً، لكن ببعده الراهن، ضمن ترحال مساره جغرافي بقدر ما هو روحي، ويمتزج فيه الواقع بالخرافة للتعبير عمّا يشكّل إنسانيتنا، أي الحب والإحسان والتقوى والموت والآخرة، وأيضاً تلك الأخلاق البطولية التي ما زالت قيماً أرستقراطية بالنسبة إلى إنسان اليوم.

بالتالي، تقود صور ألياغاس المعروضة المتأمّل فيها إلى واقع الـ "هنا" و"الآن"، بإحيائها قوة الملحمة. صور بالأبيض والأسود حصراً، يخطّ صاحبها فيها قصة تحاكي، ضمن رؤية معاصرة، تمثيل هوميروس للامرئي، حيث لا شيء يمنع الإنسان من التواصل مع الآلهة والقوى التي تحيط به. تقترح أيضاً، في فرادة البورتريهات وتعابير الوجوه الماثلة فيها، قراءة جديدة لنص هوميروس، تبيّن عدم فقدان هذه القصيدة ــ الملحمة شيئاً من راهنيتها، على الرغم من الألفيات الثلاث التي مضت على كتابتها.

وفي هذا السياق، تحضر كآبة عوليس في هذه الصور على شكل نظرة خاطفة، تفصيل مفقود داخل فيض الصور اليومي، تنهيدة بقيت عالقة بين شفتين، أو كلمة لم تُلفَظ لكنها تُسمع في صمت معلّق. تحضر أيضاً في تعبير هذه الصور عن غياب، عن عودة مستحيلة، عن رحيل مؤجَّل، عن شعور كامن وكلي الحضور، أكثر مكراً من الكآبة، وأكثر أذى من القلق. شعور بالكاد محسوس أو يمكن التعرف إليه، ويحمل صدى عزلتنا ومحدوديتنا.

لتحديده، يستخدم هوميروس كلمة νόστος الإغريقية التي تخفف من سطوته، بإشارتها إلى إمكان التئام، إلى وعد بعودة إلى الديار، إلى أرض الأصول. لكن بقيامها بذلك، تقول بوقع أقوى، المنفى، الاقتلاع الذي يتجاوز الحدود والهويات، وأيضاً خط الهروب، والوصول الزائف إلى عالم مصطنع. دلالات عديدة تظهر جميعاً في صور ألياغاس، ومعها تلك الطبقات المتتالية للزمن، الموروثة من الماضي، تلك الآثار ــ الأثلام التي تحفرها الحياة على وجوهنا، وتفتن الفنان إلى أبعد حد.

ملحمة عوليس

في معرض تفسير شغفه بملحمة عوليس، يقول ألياغاس: "لطالما رافقتني وأرشدتني كاستعارة لا زمنية تبيّن تفوق الكلمة على آلام وجودنا العابر. مغامرات عوليس رحلة مسارّية تلهم إنسان الـ "هنا" والـ "هناك"، أبعد من خطاب الفلاسفة وعلماء اللغة الذين تناولوها". ولأنها "نأتي من هوة مظلمة، وننتهي في هوة مظلمة، وفضاء النور بين هاتين الهوتين، نسمّيه الحياة" (كازنتزاكيس)، يمارس ألياغاس التصوير، لا لمحاولة "فهم" العالم، بل لاستشعاره فقط، ومحاولة تجسيد ذلك الشعور الغريب بالحضور الفاني.

في النشيد الأول من "الأوديسة"، يقول هوميروس عن عوليس بأنه "ذلك الذي زار مدناً كثيرة وأدرك روح أبنائها".  قول شكّل مفتاحاً لمسار الفنان وبحثه: "إنه الصوت الكتوم الذي يحوّل السفر إلى معرفة، والحياة إلى أمثولة. كم من النظرات علّمتني عن الإنسان أكثر من الخطب الطويلة. أحذر دائماً مما هو سائد، وبالتالي مطمئن، في زمن ما، لأنه غالباً ما يخفي جمودنا داخل بيئة تعجّ ببشر لا يرون سوى بعين واحدة، ونسوا مَن هم ومن أين أتوا. عين المصوّر ليست عين السيكلوب أو الصقلوب"، بل عدسة تلتقط بحساسيتها وحدسها ما يرى وما لا يرى.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ولأن "الإنسان الحديث يفضّل على الصورة الكاشفة المِرْشَح الذي يمحو، ولا يتردد في طمر أونكران ما يتجاوزه"، يشكّل عوليس مصدر فتنة لألياغاس. فهو الذي يقف على نقيض النكران، ويجسّد مفارقة الإنسان المتمرّد الذي يبحث عن المعنى وهو يسير على الخيط السديمي لوجوده، ولا يريد العثور على ماضيه لسجن نفسه فيه، بل يسعى بكل الوسائل (لا سيما الحيلة) إلى البقاء على قيد الحياة في عصر لم يعد يفهم قواعده.

أما لماذا اختار الفنان دير "جومييج"، أو بالأحرى ما تبقّى من صرحه الذي شيّد في منتصف القرن السابع، مكاناً لمعرضه، فيقول: "حلّ عوليس عليّ كبداهة حين عبرتُ عتبة هذا الدير للمرة الأولى. فبحثه يشكّل جواباً قاطعاً لحقبتنا التي فقدت ذاكرتها. يرى بعضنا في هذا المكان مجرّد أطلال، بينما يرى بعض آخر أجوبة".

ومثلما يفعل الزمن فعله، على الحجر والبشر على حد السواء، تحفر صور ألياغاس عميقاً في نفس المتأمل فيها. وباستلهامها أسفار عوليس بكل دلالاتها، تسيّر نشيداً صامتاً، لا حاجة إلى إتقان لغته لالتقاط رسالته وفهم أن لا نهاية للسفر، والطريق هي المقصد الوحيد.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة