ملخص
من بين مجموعة متنوعة من التكنولوجيات الناشئة، بدأت القيادة الصينية في الاهتمام بالذكاء الاصطناعي وجعلته أولوية وطنية عام 2015
لا تكتفي الصين بمساعيها لمنافسة الولايات المتحدة على صدارة العالم اقتصادياً، بل إنها تعمل جاهدة كي تصبح الدولة الرائدة عالمياً بتسخير قدرات الذكاء الاصطناعي في الشؤون العسكرية، عملاً بهدف الرئيس شي جينبينغ الذي تطرق إليه في المؤتمر الوطني الـ20 للحزب الشيوعي الصيني عام 2022، لبناء أقوى جيش في العالم بحلول منتصف هذا القرن، وهذا ما ستكون له بطبيعة الحال انعكاسات على الأمن الدولي والإقليمي.
في مناسبات عدة بعد صعوده إلى السلطة، شدد الرئيس شي جينبينغ على الحاجة الملحة إلى إتقان الصين للتكنولوجيا الجديدة. ومن بين مجموعة متنوعة من التكنولوجيات الناشئة، بدأت القيادة الصينية الاهتمام بالذكاء الاصطناعي وجعلته أولوية وطنية في 2015. وخلال الأعوام الماضية، أصدرت عدداً من الاستراتيجيات والخطط الوطنية للعلوم والتكنولوجيا، شارك في تطبيقها القطاعين العام والخاص.
وضمن جهودها لتشييد أرضية صلبة تهيؤها لانتزاع الصدارة عسكرياً من الولايات المتحدة، قدمت الحكومات الإقليمية والبلديات دعماً مالياً وسياسياً متزايداً للمختبرات المملوكة للدولة، مثل مختبر "التكنولوجيا والأنظمة الذكية" التابع لجامعة "تسينغهوا"، إضافة إلى مختبر "الأكاديمية الصينية للعلوم لمعالجة المعلومات الذكية".
واعتباراً من عام 2018، كانت هناك 4040 شركة للذكاء الاصطناعي في الصين، من بينها ثلاث شركات إنترنت عملاقة هي "بايدو" و"علي بابا" و"تينسنت" التي استثمرت مجتمعة ما مجموعه 12.8 مليار دولار في صناعة الذكاء الاصطناعي، متجاوزة مجموعة الشركات الأميركية الأربع الرائدة.
ومن أجل تنمية وتوظيف المواهب والخبرات في مجال الذكاء الاصطناعي بذلت الصين جهوداً مختلفة في المجال التعليمي، فخصصت بذلك 43 جامعة صينية أقساماً جديدة للذكاء الاصطناعي.
واستفادت هذه المؤسسات التعليمية من المواد والموارد البشرية الأجنبية، إذ عمدت إلى توظيف آلاف الأساتذة الجامعيين المتخصصين في الجوانب التطبيقية المختلفة للذكاء الاصطناعي. ومن خلال برنامج "توظيف الخبراء العالميين" من قبل المؤسسات الصينية، ولدت شراكات مع الجامعات الأجنبية، لعل أبرز مثال عليها تعاون جامعة "فودان" (Fudan) ومقرها شنغهاي مع شركة "غوغل" الأميركية لتأسيس مختبر الابتكار.
الاندماج العسكري- المدني
بعد اكتساب الخبرات اللازمة في الذكاء الاصطناعي وتشييد بنية تحتية متينة، انتقلت الصين إلى مرحلة جديدة يستفيد فيها جيش التحرير الشعبي من هذه التطورات التكنولوجية للأغراض العسكرية سعياً إلى تحوله لقوة لا تقهر.
ومع رسم الخطوط العريضة للاستراتيجية الوطنية للدمج العسكري -المدني، استفاد الجيش بسرعة من أحدث التطورات في المجالات التكنولوجية بتوجيه مباشر من اللجنة المركزية للتنمية العسكرية والمدنية المتكاملة التي يترأسها شي جينبينغ نفسه.
وفي هذا الإطار، يجري حالياً إنشاء آليات التواصل والتنسيق بين معاهد البحوث العلمية والجامعات والمؤسسات ووحدات الصناعة العسكرية لتقاسم موارد الابتكار في مجال الذكاء الاصطناعي، فيما أسست جامعة "شمال الصين للتكنولوجيا" وأقسام المعدات في البحرية والقوة الصاروخية لجيش التحرير الشعبي الصيني معهد "بحوث المعدات الذكية للاندماج العسكري والمدني".
وبدورها، أنشأت جامعة "تسينغهوا" مختبرها لتقنيات الدفاع الوطني للاندماج العسكري والمدني، وحصل كل ذلك تزامناً مع شراء مجموعة مختارة من أحدث المنتجات المدعومة بالذكاء الاصطناعي من مؤسسات خاصة، باشر الجيش الصيني في استخدامها، نذكر منها أنظمة المراقبة ومعالجة الصور بواسطة شاشات أمنية ذكية تنتجها شركة "هيكفيجن" (Hikvision).
مركبات ذكية وأسطول جوي ذاتي القيادة
وإذا ما أردنا أن نغوص في تفاصيل ما يسميه الاستراتيجيون والأكاديميون الصينيون "ثورة عسكرية جديدة" يعمل فيها الذكاء الاصطناعي والتقنيات ذات الصلة على تغيير مقاييس القوة العسكرية، فنشير إلى تركيز بكين بصورة كبيرة خلال الأعوام الأخيرة على الأنظمة غير المأهولة، إذ أدخل جيش التحرير الشعبي الصيني عدداً من المركبات والأنظمة غير المأهولة المصممة في الصين واستخدم أنواعاً متعددة من عائلة "Caihong Rainbow، CH" من المركبات الجوية غير المأهولة على ارتفاعات عالية في مهمات الاستطلاع والضرب.
وفي أكتوبر (تشرين الأول) 2019، كشفت الصين النقاب عن المسيّرة الشبحية فائقة السرعة "WZ-8" التي تحلق على ارتفاعات عالية، إلى جانب المركبة ذاتية القيادة التي تعمل تحت الماء "HSU-001".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وإضافة إلى تصميم أنظمة غير مأهولة عالية الأداء، بدأ جيش التحرير الشعبي بدمج الذكاء الاصطناعي في المنصات القتالية الحالية، خصوصاً الأسلحة القديمة، وهكذا باشر العمل على تعديل الآلاف من المقاتلات النفاثة الصينية المتقاعدة من الجيلين الثاني والثالث مثل "J-7" و"J-8" لبناء أسطول جوي ذاتي القيادة عن طريق تركيب تكنولوجيا الملاحة الذاتية المدعومة بالذكاء الاصطناعي وأنظمة قتالية مستقلة تلاحق وتميز تلقائياً وتدمر أهداف العدو.
ومما لا شك فيه أن هذا النهج سيمنح الجيش الصيني ميزة هائلة غير متماثلة يستطيع من خلالها القضاء على الأهداف الاستراتيجية مع تجنب الخسائر الكبيرة في الأرواح.
تزامناً مع ذلك، يطور الصينيون تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي لتحديد نقاط الضعف في خطوط دفاع العدو وتحسين التخطيط الروتيني، مما سيمكن قوات جيش التحرير الشعبي من خلال التحليل الذكي للتضاريس الجغرافية ووضعية الأعداء، من تحديد الطريق الأكثر أماناً للمناورة وصولاً إلى خط المواجهة واختراق دفاعات العدو.
القدرات النووية
وبما أن الصين تعتبر القدرات النووية إحدى الركائز التي تبقيها بمصاف القوى العظمى، بدأت بتطوير الشبكات العصبية التطبيقية والتعلم الآلي لتعزيز القدرات الهجومية والدفاعية لجيش التحرير الشعبي في المجال النووي.
ولفت المسح الذي أجراه معهد "ستوكهولم الدولي لبحوث السلام" العام الماضي إلى زيادة التعاون المحلي والدولي بين المعاهد الصينية في السعي إلى تحقيق فوائد دمج الشبكات العصبية مع المركبات الانزلاقية التي تفوق سرعتها سرعة الصوت.
ومثل هذه التطبيقات، بما في ذلك التعرف التلقائي إلى الهدف والتحليق الآلي ودمج الصواريخ والتوجيه الدقيق للمركبات التي تفوق سرعتها سرعة الصوت، ستعزز القدرة على المناورة والاختراق للصواريخ النووية، وبذلك ستعيد تشكيل ديناميكيات الردع التقليدية والنووية.
وعلى الجانب الدفاعي النووي، تطور بكين الوعي الظرفي بحيث يمكن لقدراتها النووية المعززة بتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي رفع القدرات الانتقامية النووية من خلال تحسين أنظمة الإنذار المبكر والدفاع الصاروخي.
إن العمل على تطوير هذه القدرات من خلال نشر أنظمة اعتراض مستقلة يمكن أن يحمي الترسانة النووية وقواعد الصواريخ عند مواجهة الضربات، كما من الممكن أن يؤدي تطبيق نظام الإطلاق التلقائي عند التحذير إلى تعزيز صدقية الانتقام الصيني ومبدأ الضعف المتبادل الذي تسعى إليه البلاد.
التدريب والمحاكاة
وفوق هذا وذاك، يستفيد جيش التحرير الشعبي حالياً من الذكاء الاصطناعي للتركيز على المحاكاة والمناورات القائمة على البرمجيات، ونظراً إلى قلة الفرص المتاحة للقادة والجنود الصينيين لاكتساب خبرة قتالية فعلية، فإن التدريب الجديد الموجه بواسطة الذكاء الاصطناعي يعد الخيار الأمثل للقادة والجنود الصينيين لاكتساب خبرة قتالية فعلية.
وانطلاقاً من ذلك، أعدّ قسم الهندسة في جامعة "الدفاع الوطني" الصينية عدداً من المسابقات والمناورات خلال الأعوام الأخيرة تضمنت مواجهات بين الإنسان والآلة بهدف تعزيز مستوى الواقعية وإنشاء "قوة زرقاء" ذات ذكاء اصطناعي.
قلق الولايات المتحدة
والحال أن ما ذكرناه آنفاً، خلق حالاً من القلق في الولايات المتحدة، إذ حذر تقرير لوزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) أواخر العام الماضي من جهود الصينيين للهيمنة على الذكاء الاصطناعي من أجل استكشاف نقاط ضعف العدو وتعزيز مفهوم "الحرب الذكية".
وقال "البنتاغون" في تقريره إن الصين رائدة عالمياً في تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي وتهدف إلى تجاوز الغرب في مجال البحث والتطوير بحلول عام 2025 لتصبح بعد ذلك الرائدة عالمياً بحلول عام 2030.
ويذهب التقرير أبعد من ذلك، فيصف الصين بأنها قائدة العالم في بعض تطبيقات الذكاء الاصطناعي مثل التعرف إلى الوجه ومعالجة اللغات الطبيعية، وأن النظام الشيوعي أنشأ بالفعل مراكز بحثية وحصل على تقنيات روبوتية تم تطويرها تجارياً لمنح جيش التحرير الشعبي إمكان الوصول إلى تقنيات الذكاء الاصطناعي المتطورة.
ويضيف التقرير أنه بينما لا تزال الصين تعتمد على بعض القدرات الأجنبية لإنتاج أجهزة الذكاء الاصطناعي مثل تصنيع أشباه الموصلات المتقدمة وبرامج أتمتة التصميم الإلكتروني، يواصل الباحثون الصينيون استكشاف مواد جديدة ومفاهيم التصميم للجيل التالي من أشباه الموصلات، محذراً في الوقت نفسه من أن جيش التحرير الشعبي ناقش عام 2021 مفهوماً يسمى "الحرب الدقيقة متعددة المجالات" الذي يهدف إلى استخدام شبكة البيانات والذكاء الاصطناعي لتحديد نقاط الضعف الرئيسة في نظام العمليات الأميركي، تمهيداً لإطلاق ضربات دقيقة ضد نقاط الضعف تلك.
من جانبه، تحدث مدير الذكاء الاصطناعي في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية لاكشمي رامان غير مرة عن التهديد المحتمل الذي قد تشكله برامج الذكاء الاصطناعي الصينية على الأمن القومي الأميركي، موضحاً أن الوكالة تراقب برنامج الذكاء الاصطناعي الصيني بقلق بالغ ولا تخفي خشيتها لناحية كيفية الاستفادة من هذه التكنولوجيا.