Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

رقصة مباحة في مستطيل صغير... قصة "جاليري 68"

رغم فرضها جيلاً كاملاً من الأدباء آثرت المجلة الطليعية الموت على الحياة ولم تصل يوماً إلى يقين في زمن التمزق والشكوك والاتهامات

كانت "جاليري 68" تصر على معايير وأهداف تبدو بريئة إلى درجة صعبة التصديق (مواقع التواصل)

ملخص

ذهبت أول مجلة طليعية مصرية بعد نكسة يونيو (حزيران) ضحية التدافع والعراك بين الأيديولوجيات هي التي نأت بنفسها عن أية أيديولوجيا... وتلك قصتها الكاملة.

مطبوعة صغيرة الحجم، ذات قطع غريب (16.30× 24 سم)، لكنها معبرة تماماً عن ذلك الجيل المهدور. ثورات مكتومة علي الورق. معارك بين أعضاء الفصيل الواحد. بينهم جميعاً والزمن المحاصر. رسوم صامتة ومحايدة لكنها تجأر بالألم والصياح. هذا القطع الصغير هو كل المساحة المتروكة أو المنتزعة لهؤلاء الفتيان لا ليقولوا كلمتهم فحسب، بل ليمارسوا لعبة الهذيان في وجه الصرامة المهزومة.

لقد كانت جميع الخيارات أمامهم صعبة الاحتمال. فالهزيمة أصابت كيانهم في الصميم. ولم تعد سوى "الرقصة المباحة" - عنوان إحدى قصص يحيي الطاهر عبد الله - وكانت هذه الرقصة الأولى المباحة "على شرف 5 حزيران" هي مجلة "جاليري 68".

على مقهى "ريش"

بدأت المغامرة على مقهى "ريش" في وسط القاهرة، وهو ساحة الإقامة المفضلة لهذا الجيل الفذ، والمنطقة المحررة من تراث البرجوازية الكبير.

لم يكن ذلك المقهي القديم هو الذي يلون وجوههم التي يطل الشقاء من سماتها، بل هم الذين فرضوا أنفسهم عليه إلى أن بات أثراً من صناعتهم، لا ينتمي لأحد سواهم، إنهم أصحابه المفلسون، الضائعون بالكامل. وفي الجوار، يمارس نجيب محفوظ، صاحب الندوة الأسبوعية بالمقهى، سلطته الروحية على المكان.

في هذا المقهى العتيق، كان كل شيء ضدهم، وكانوا ضد كل شيء فيه، ما أعجب هذه المفارقات. فالمساحة الصغيرة، التي تبدو الآن مملة خالية من الروح، لا تشبه نفسها قبل نصف قرن من الآن، وقت أن كان أمل دنقل شاعر القومية العارم يأتي في الظهيرة ليحل الكلمات المتقاطعة، بينما القاص الأقصري الثرثار يحيى الطاهر عبد الله مشتبك في مشاجراته المعتادة. أما إبراهيم فتحي الناقد اليساري ذو الابتسامة الدائمة فهو نموذج حافل بالعجائب. وهو صغير الحجم، ودود للغاية مع جيل الكتابة الجديدة، لكن بإمكانه أن يفعل الأفاعيل في السياسة.

في المقهى كذلك وجه حزين مثير للتأمل، إنه الفنان مصطفى الحلاج، وهو فلسطيني من جيل الشتات الأول. رأى "الحلاج" الصغير حقول يافا والبيارات البعيدة، وعاين المذابح، وسار مع اللاجئين عبر العواصم، إلى أن ساقه الترحال إلى هنا ليصير رساماً.

هناك أيضاً إبراهيم منصور، "محولجي" الثقافة الذي يحمل عبء هذا الجيل فوق أكتافه العالية، دون أن يراه أحد، ودون أن يعلن عن نفسه.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

في إحدى الزوايا يقبع ذلك الرجل الساخط محمد حافظ رجب، وهو بائع متجول أتى من رصيف محطة الرمل بالإسكندرية ليحرق الأجيال الأدبية السابقة ويلعن الجميع.

أما غالب هلسا الروائي الأردني الشاب فهو يبدو متوهجاً بوسامته وانتمائه لصورة المناضل الأممي العابر للأوطان، لكنه أقرب إلى أن يكون مصرياً بالمحبة، وقد أحبته البلاد التي أحبها وأكثر.

توصل "جيل 68" بكثير من الذكاء والشعور بالفجيعة إلى أن كل ما يراه كذب: الاشتراكية، الميثاق، التأميمات، قوى الشعب العامل، الصحف والإذاعات، الكتاب الكبار، المناضلون الكبار، الشوارع والوجوه، كل هذا العالم الموضوعي خارج الذات الصغيرة المهزومة موهوم وزائف ولا وجود له في وطن الكتابة الكبير والحقيقي.  

وهو وطن لا تحده الحدود التي تآكلت حتى ضفاف القناة، بل يتسع لكل حركات التمرد وثورات الشباب الغاضب في بقاع العالم البعيدة. هذه الأفكار التي تتفاعل وتتلاقح وتضطرم في محيط بالغ الاتساع لم يكن الكتاب الطائشون في مقهى "ريش" ليصرفوا النظر عنها وهم في قلب المحنة الكبيرة، محنة الاحتلال.

في مايو (أيار) 1968، الشهر الذي صدرت فيه "جاليري"، اندلعت ثورة الطلاب في فرنسا التي سرعان ما انتهت بعد أسابيع قليلة، لكن تأثير هذه الانتفاضة من الأفكار التي حملتها موجة الثورة العالية كان له دوي هائل سيصل بالتأكيد إلى الشباب المصري، مثلما إلى كل حركات التمرد الشابة في أرجاء العالم.

يقول الشاعر محمد سيف "كانت حرب فيتنام أججت الغضب حول العالم ضد مجتمع الاستغلال والرأسمالية البغيضة التي تقود العالم إلى الدمار، كما برزت فكرة الكفاح المسلح، وظهر اليسار المتطرف في عديد من بلدان أوروبا".

 

 

لكن هذه الأفكار الثورية التي انطبعت في وجدان الشباب المصري الحائر لم تتخذ المسارات نفسها بالطبع. فالقضايا التي شغلت ثوار أوروبا كانت بعيدة عن أزمة الشباب في مصر الذي يعاني مأزقاً أسوأ تحت القمع الأمني واحتلال جزء من أراضي الوطن وانهيار أمة بكامها في عصر انتصار الأمم، بل اتخذت أشكالاً أدبية وحساسيات جديدة في الكتابة، وعلى رغم ابتعادها عن السياسة بمعناها المباشر، لكنها دفعت السلطة إلى التوجس منها ومحاولة احتوائها.

سيف أحد الشعراء الذين نشروا في "جاليري"، وهو أيضاً أحد الجنود الذين شهدوا حرب يونيو (حزيران) بمذابحها ومآسيها وأثرها الذي لا يمحى، "أكثر ما بقي في ذاكرتي من هذه الحرب أنني شعرت بالإهانة، كأنها كانت هزيمتي الشخصية، وعندما عدت بعد 20 يوماً من الضياع في الصحراء وجدت أن أسرتي اعتبرتني ميتاً وتلقت العزاء في روحي".

كانت كارثة يونيو هي المحرك الأساس في مغامرة "جاليري"، فقد كان الشباب بدأوا الكتابة قبلها بقليل متسللين عبر النوافذ الطليعية القليلة في مجلات الدولة: "المجلة"، "الكاتب"، "الفكر المعاصر"، "الطليعة"، لكن هذه الكتابات المتسللة يحق لها الآن أن تشكل تياراً ومدرسة جديدة تعلن عن نفسها بوضوح. لقد منحتهم النكسة جرأة التحدي، فهم أبناء الهزيمة لا صانعوها، وعلى الكبار أن ينأوا جانباً لتتدفق الدماء الشابة.

وعلى رغم أن النكسة شكلت المرجعية السياسية لمغامرة "جاليري 68"، فإنه لم يكن الدافع وراءها سياسياً على الإطلاق. لقد كانت تبحث عن "التجريبية" في الكتابة. ولعلنا ندرك أن لهذا الهدف أيضاً مرجعياته الخاصة إذا توقفنا قليلاً عند هذا الرجل الودود ذي الابتسامة الماكرة، يحيى حقي، "الأب الشرعي للقصة المصرية الحديثة" كما يصفه إبراهيم أصلان. وهو الذي لم يكن أباً ثقافياً وحسب، بل كان أباً حقيقياً لهؤلاء الصبية الطائشين رواد الكتابة الشاردة في الزمن العصيب.

كان العجوز مؤمناً بحق هذه المواهب الجديدة في الوجود والحياة والازدهار. كان مشفقاً عليهم كذلك من هذه الكتابة الجديدة نفسها. إن المناخ العام لا يمكنه استيعابها أبداً على الفور، فضلاً عن التكريس لكتابها الذين لم يكن الطريق أمامهم سهلاً بلا أشواك أو فخاخ.

قال لإبراهيم أصلان بينما يضع يده على كتفه في شرفة "المجلة"، "شوف يا أصلان: من أَلِف استُهدف".

وقال لمحمد إبراهيم مبروك، "لماذا يا مبروك لا تكتب في سنك هذه قصصاً يمكن للناس أن يقرأوها بسهولة، حتى ينتشر اسمك وتأخذ مكانك، وساعتها يمكنك أن تكتب ما تشاء؟".

وفي تعليقه على "مخلوقات براد الشاي المغلي"، قصة محمد حافظ رجب المنشورة في عدد "المجلة" - أكتوبر (تشرين الأول) 1966 - قال حقي، "مهما يكن الرأي فيه فمن الخير أن نفسح له صدرنا".

إلى هذا المدى كان الرجل العجوز تقدمياً حقيقياً. وهذه الكتابات لم يكن لها أن تظهر للوجود في ذلك الوقت لولا عقله الرحب. لقد أتاح أمامها حرية الحركة والصدام والتفاعل. كان يرى، وهو أحد القمم المقدسة في هذا العصر، أن ثورة الكتابة حتمية لا سبيل إلى ردها مهما كانت الظروف، انطلاقاً من حرية المبدع في أن يحطم الأشكال الراسخة، وأن يختار شكلاً جديداً لمأساته ومأساة جيله، حتى لو اتهم بالشعوذة والمروق عن المضمار الثوري، وليكن الزمن كفيلاً بالحساب.

 

 

كانت "المجلة" إذن ساحة الكتاب الجدد الذين رأوا في رجلها العجوز بالغ الدماثة أحد أنبيائهم الكبار. أما النبي الآخر فهو الأديب عبد الفتاح الجمل، محرر الصفحة الأدبية بجريدة "المساء" التي ازدهرت في عهده بشتى الكتابات الشابة المفارقة. أما ثالث الثلاثة فهو أنور المعداوي، نجم الحركة النقدية في ذلك الوقت، والذي كان يُرى يومياً على رصيف قهوة عبد الله بالجيزة مع الناقد فؤاد دوارة، يقود أبناء الجيل الجديد إلى عتبات الكتابة الرحبة.

هؤلاء الثلاثة هم عرابو الجيل الجديد المهزوم الذين سيتخذ هذا الجيل خطوته التالية "النزقة" بعيداً من زعامتهم، وهو يعتزم الآن إصدار مجلة.. مجلة؟ في هذا المناخ الخطر؟

كان على شباب "جاليري" تأمين جبهتهم في ظل هذه الظروف الصعبة. إن أمامهم تحديين: الأول هو الدعم المالي لدفع كلف الطباعة والتوزيع. والثاني الحصول على مباركة الدولة أو على الأقل تحييدها كي لا تتغول كعادتها لإجهاض المشروع واعتقال أصحابه.

نجح الشباب في عبور التحدي الأول عبر جمع التبرعات والاشتراكات من كبار الكتاب والأدباء، كذلك أقاموا معرضاً للفنون التشكيلية تبرع فيه الفنانون المشاركون بحصيلة بيع لوحاتهم لصالح المجلة. إضافة إلى التبرعات وحصيلة المعرض سيحصل الشباب أيضاً على دعم من مؤسسة الدولة - "العامة للتأليف والترجمة والنشر" - في صورة إعلان عن إصداراتها الثقافية، وإعلان آخر لدار النشر الحكومية والوحيدة "الكاتب العربي".

أما التحدي الثاني، المخيف، تحدي الأمن، فقد تكفل به إدوار الخراط. وهو ليس كاتباً ستينياً كما نعرف ولكنه مستعد دائماً للالتحاق بأية موجة طليعية في أي زمن. يقول إبراهيم منصور، "كان الخراط أكبر سناً بكثير، لقد اخترناه لاعتقادنا أنه سيكون مفيداً لنا للنفاذ إلى يوسف السباعي، لقد كنا بالفعل في حاجة إلى حماية، لقد كان الناس خائفين في عهد جمال عبد الناصر".

كان إدوار يعمل مترجماً في المنظمة الأفروآسيوية، وهي منظمة شعبية غير حكومية ذات لجان وطنية تنتمى إليها في أكثر من 90 بلداً في آسيا وأفريقيا كما أن لها أعضاء منتسبين في أوروبا وأميركا اللاتينية. ومقرها الدائم في القاهرة، وسكرتيرها العام هو يوسف السباعي، أو "جنرال الثقافة"، الاسم المتعارف عليه داخل الوسط الأدبي آنذاك.

لكن السباعي، الذي سينهض في ما بعد بعملية إجهاض المجلات الحكومية الشاردة خارج القطيع، كيف يمثل نوعاً من الحماية لمجلة ترفع راية التمرد والاستقلال قبل أن تبدأ؟ تلك مفارقة عجيبة أخرى سيكون لها أثر في تفجير المجلة بعد ثلاث سنوات من ولادتها.

حافة التوازنات الحرجة

كانت "جاليري" تصر على معايير وأهداف تبدو بريئة إلى درجة صعبة التصديق. إنها لا تنطلق من برنامج، ولا تعلن موقفاً، ولا تكرس لاتجاه بعينه، ولا تعادي أحداً على الإطلاق. كتبت دائماً على غلافها الخلفي إنها "لا تصدر عن جماعة مغلقة على ذاتها، وهي لا تقتصر على كتاب بعينهم، بل تفتح صدرها في ترحيب كامل بكل تجربة طليعية، أو جديدة".

غير أن مطالعة العدد الأول توضح كم كانت المجلة تجنح إلى اليسار بشدة، وإن حاولت خلق توازنات تبدو مستحيلة، في ذلك الزمن، بين الاستقلال والأمن، الفن والالتزام، ولنبدأ بالأخيرة.

كان هدف المجلة الواضح ضرب مدرسة الواقعية الاشتراكية الأولى، برؤيتها الواحدة الموجهة، وجمودها الصارم إلى حد القضاء على الفن نفسه. إن طموح السياسة، مهما كان ثورياً، فإنه مرحلي يسعى إلى السيطرة العاجلة والتمكين والاستقرار، وما إن يأتي استقرار الحكم فإن العمل الثوري لا يعد متاحاً، بل على العكس، يجب وأده في الحال. أما الفن فإن الثورة هي أولى طبائعه وأقواها، الثورة الدائمة التي لا تنشد الثبات أبداً، بل إن عليها أن تصارع على الدوام.

 

 

وكانت الواقعية الاشتراكية الأولى أعلنت إفلاسها قبل أن تعصف الحرب بما قد تبقى من محاولاتها للبقاء على قيد الحياة، فقد كان مستحيلاً على رواد هذه المدرسة ألا يحاولوا تجاوزها حينما باتت نذر الهزيمة واضحة للعيان وأصبحت القضية كلها في مهب الريح، ولعلهم حين صدقوها وجندوا ذواتهم الحرة وإبداعهم الثمين في خدمتها لم يدركوا حجم التضحية الكبيرة بأنفسهم في المقابل.

كان القلق ينتهب أرواحهم إزاء المصير الآتي، وحين قرروا فجأة الانحراف عن النسق كان الوقت قد فات بالفعل، فماذا سيفعل "سلطان" الحكيم "الحائر"، أو "فرافير" يوسف إدريس، أو "لص" نجيب محفوظ، وقد انتصر "الكلاب" وحلت الهزيمة وأصبح الخرس والانهيار والجنون سادة المرحلة؟

رأي فتيان هذا الجيل هزيمة أحلامهم مبثوثة عبر الأثير، وتخيلوا بلا شك سيناء الرابضة تحت الاحتلال بينما الجنود ضائعون في الصحارى، ثم رأوا الرصاص وهو يخترق صدور العمال، لأنهم تجرأوا لأول مرة على الهتاف، لأول مرة على المساءلة. السلطة ملهمة الثورات في أرجاء العالم المحتل تقتل شعبها، تقتل أجمل ما في هذا الشعب، طليعته وأزهاره المتفتحة.

لكن الغضب الشاب يصبح مستحيلاً على الاحتواء، والسلطة التي لم تكن أبداً قاسية على العدو، لم يعد بإمكانها أن ترفع عصا التأديب الغليظة دون أن تكلل نفسها بالعار.

في هذا المناخ العصي على التصور كان على جمهرة الكتاب الطائشين أن تفعل شيئاً. فالدماء وصلت إلى الشوارع، تحت أقدامهم مباشرة، والعذابات لم تعد بعيدة في السجون المحاصرة، بل في قلب البيوت الأليفة والمقاهي. إن زمناً كاملاً ينهار أمام أعينهم الشاخصة على الدوام.

فما الذي بإمكانهم أن يفعلوه والكتابة أشبه بالعمل الفدائي؟

لكن العمل الفدائي يحتاج إلى قدر كبير من التنظيم. إن شاغلهم الأساس هو الحرية الإبداعية المطلقة بلا مشابهة أو وصاية، هذا المطلب الملح هو الذي يجمع هذه الذوات المتنافرة في اجتماع واحد، في مقهى واحد، في شقة واحدة. إننا نتوقع دائماً أن يشرد كل واحد منهم في تيهه الخاص، يلملم عناصر ولبنات عالمه القصصي والروائي والشعري والمسرحي، ثم يأتي إلى المقهى للتشاجر مع أقرانه حول الكتابة التي ينبغي أن تكون.

ثمة ملمح يكاد يكون مطرداً لدي الفرسان الألمع لهذا الجيل: العنف.

جيل جسور مشحون بأحلام الفقراء التي تشبه النار العارمة إذا قيض لها أن تعلن عن نفسها بوضوح. كتاب حقيقيون واثقون دائماً بأنهم أتوا من أجل البقاء في الزمن. ليسوا كتبة يدافعون بالباطل عن سياسات بعينها وأفراد بأعينهم. هؤلاء الكتبة مكانهم خارج التاريخ ولو احتلوا جميع المنابر في هذه الأيام المشؤومة. أما هم فقد باتوا فرسان اللحظة والمعبرين بحق عن هذا الشرخ الفادح الذي حدث.

فهل آن لهم أن يتقدموا وقد وضعت كفاءتهم في الاختبار؟

تلك الرؤى الجديدة المفارقة، اللغة المشحونة بطاقات مدهشة وبالغة التنوع، ذلك الولع العارم باختراق السياق. في هذا الزمن المحتشد بالأحلام والتطلعات كان طبيعياً ألا تتقدمهم مؤهلاتهم الجامعية أو الاجتماعية، لقد منحتهم الكتابة شرعية الوجود، وشرعية الكلام والاقتحام.

وهنا يحق للسلطة أن تقلق من هذه النخبة من الشبان الذين يشبهون هذا الشعب نفسه، بالتالي فإن من حقهم تمثيل الادعاء.

وهذه السلطة لا يمكن أن يحاكمها أحد. لأنها هي التي ابتدعت المحاكم، غريبة الأسماء، والسجون الواسعة لقتل معارضيها بعيداً من الأعين.

 

 

لا مفر من المقاومة على أية حال ولو بإشاعة الصخب وافتعال المعارك وتشكيل الخلايا السرية والتفنن في مراوغة الأمن. والأهم من كل تلك الأشياء "المقاومة بالخيال"، ذلك الهدف الذي يجمعهم بوشائج أقوى من روابط الدم.

يرى حسن سليمان، المدير الفني لـ"جاليري"، أن "الفن نتيجة لتمرد الفردية المميزة"، ما يعني أن الفنان ليس محرضاً أو درويشاً يسير في ركاب القضية السياسية، مهما رفعت الأخيرة أهدافاً نبيلة، بل إن هذه الأهداف النبيلة نفسها تؤكد ذاتية الفنان.

لكن ما الذي يجمع هؤلاء الفنانين "الذاتيين" في كيان واحد، في مدرسة فنية واحدة، تيار قادر على التأثير في المجتمع ومن ثم تغييره؟ إنها مبادرة تقودها الطليعة المثقفة لهذا الشعب، وهي تصعد من أسفل إلى أعلى، مع الطبقات الصاعدة، أو التي يجب أن تسود، ليست مفروضة فرضاً من قبل البرجوازية التافهة والمسيطرة في آن.

إن صناعة التوازن بين الأضداد كان أمراً حتمياً وقضية جد مقلقة بالنسبة إلى "جاليري 68"، وهي ربما قد نجحت في ذلك، ولو موقتاً، لأنها هي نفسها كانت مجلة موقتة، محكومة بظرف اجتماعي وسياسي محدد، وإن انطلقت التجربة في الأساس لتحدي هذا الظرف ومجاوزته.

تقول افتتاحية العدد الأخير، بتوقيع إدوار الخراط، "لم يكن ولا يمكن أن يكون لنا نبراس من عقيدة أياً كانت، ليست (68) سوريالية ولا وجودية ولا ماركسية- هذه كلها عقائد وسبل مطروقة ولعلها تكون قد أصبحت مسدودة وأخطر مزلق يمكن أن تتردى فيه (68) أن تضع لنفسها موقفاً، وأن تصدر عن عقيدة".

ولا شك في أن هذا الموقف الرافض لأي "بيان" أو "عقيدة" أو "التزام" أن يواجه بالرفض الصارم والهجوم من ناقد مثل فاروق عبد القادر الذي ينبري، بعد مرور أكثر من 20 عاماً على توقف "جاليري 68"، لما يشبه تصفية الحساب القديم مع صناعها، إدوار على وجه التحديد، فـ"لم يكن لأحد في ذلك الواقع الذي أعقب 67: الأرض محتلة، والقوت المسلحة مدمرة مهزومة، والنظام مثخن بالجراح، ورئيسه لا ينشغل بشيء سوى إحكام القبضة في الداخل، واحتواء أي شكل من أشكال المعارضة الجذرية أو المراجعة الجادة للواقع الذي أفرز الكارثة، ثم محاولة العمل على إنشاء قوات مسلحة قادرة على درء الهزيمة. أقول لم يكن لأحد في هذا الواقع أن يدعو الكتاب والمبدعين للتحلل من أي موقف أو التزام ما لم يكن هادفاً إلى شكل من أشكال هذا الاحتواء ذاته، موجه نحو فئة من أكثر الفئات تمرداً وقدرة على الرفض والمراجعة".

لعنة الجنرال الحنون

يري فاروق عبد القادر أن انعدام الموقف الواضح كان أهم أسباب تعثر "68" ثم توقفها. وهو يمد الخيط على استقامته فيشير إلى أنه كان لا بد أن تسقط المجلة في النهاية بين يدي يوسف السباعي، الذي "من المؤكد أنه قدم لها دعماً مالياً عن طريق الخراط".

لكن محاولة حقيقية جرت على أية حال من جانب "الجنرال" لاحتواء هؤلاء المبدعين المتمردين حتى قبل إصدار المجلة. يقول إبراهيم منصور، "اقترح علينا صديقي الأستاذ إدوار الخراط أن يقوم بترتيب لقاء بيننا وبين الأستاذ يوسف السباعي للحصول على إعلان آخر (كان الإعلان الأول من الموسسة العامة للتأليف والنشر)، وفي هذا الاجتماع عرض علينا الأستاذ المرحوم يوسف السباعي أن تقوم جمعية الأدباء، التي كان يرأسها، بتمويل المجلة، كأن يقال مثلاً إنها تصدر بتمويل من الجمعية وما إلى ذلك، ووعدنا أيضاً بأن ذلك لن يكون وسيلة للتدخل في تحرير المجلة".

كان الكاتب أحمد الخميسي أحد الذين حضروا هذا الاجتماع المهم مع "الجنرال" باعتباره واحداً ممن خاضوا تجربة إصدار مجلة مستقلة أخرى في منتصف الستينيات، قادها الروائي الراحل خيري شلبي وصدر منها عدد واحد. لا يتذكر الخميسي الآن اسم هذه المجلة القديمة، لقد كان مثل هذه المشروعات قفزة محكومة بالفشل في فراغ تؤممه الدولة بالكامل.

يذكر الخميسي أن يوسف السباعي عرض على شباب "جاليري" في الاجتماع تخصيص غرفة في مقر المنظمة لتصدر منها المجلة، كما طرح عليهم اسم الناقد عبد القادر القط ليكون رئيساً لتحريرها.

لكن رفض الشباب للعرض كان قاطعاً، وإن لم يؤثر إطلاقاً على علاقتهم بالمنظمة بعد ذلك، ولا بالسباعي، سكرتيرها العام، ولا الخراط، ذراعه القوية في الوسط الثقافي.

الخميسي أحد شهود هذه العلاقة الغريبة من نوعها بين الجنرال وحفنة الشبان المتمردين. يقول، "كان السباعي، بعيداً من مواقفه الرسمية، إنساناً طيباً للغاية على المستوى الشخصي، كان يتمتع بحدب بالغ على الأدباء ويتصدى لإغاثتهم إذا طُلب منه ذلك، بالتالي لم يكن غريباً أن رثاه أحمد فؤاد نجم وأمل دنقل بعد اغتياله في قبرص عام 1978".

 

 

كان السباعي يستجيب على الفور لهؤلاء الكتاب الذين يبحثون عن عمل، بتوظيفهم في المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب - محمد حافظ رجب على سبيل المثال - أو في المنظمة الأفروآسيوية - أمل دنقل وفؤاد نجم وآخرين - يقول الخميسي الذي عمل بالترجمة مع إدوار في مجلة "لوتس"، لسان المنظمة، قبل أن يستقيل منها، "بعد اعتقالي في أواخر الستينيات أمر يوسف السباعي باعتبار الاستقالة كأن لم تكن، واستمرار صرف مرتبي، الذي كان يصل إلى أسرتي بانتظام طوال فترة الاعتقال".

ارتضى الأدباء الشبان التعامل مع السباعي بشخصه لا بصفته الرسمية، ويبدو أن ذلك كان حلاً موقتاً للمأزق، لكنهم سيغادرون المنظمة - التي لم تكن حكومية على أية حال، وهو حل آخر للمأزق - واحداً تلو الآخر، وبعدها سيردون الجميل للجنرال يوسف السباعي في صورة "قصائد" لن يقرأها هو، كما لن نراها نحن إلا كـ"سقطات في سياق النضال" لا ينبغي أن تشغل حيزاً في مشروعهم الأدبي الفريد والباقي.

لكن لعنة "الجنرال الحاني" ستظل تلاحق "جاليري 68"، ولو لم تنجح محاولته الأولي في احتوائها، ذلك أن الإعلان الذي منحه للمجلة على سبيل الدعم لن نراه إلا في العدد الأخير، بينما توشك التجربة كلها على الأفول. فهل كان "السباعي" في الحقيقة يمنح "جاليري 68" قبلة الموت؟

في هذا العدد، كتب الخراط افتتاحية تحت عنوان طويل: "لماذا 68، ولماذا يجب أن تستمر؟"، وهو لا يقدم "كشف حساب" نهائياً عما قدمته خلال أعدادها الثمانية، لثقته في أنها لم تزل على الطريق، فـ"ليست الطليعة والتجديد عندي، مودة، هي ضرورة قاسية. لأن هذا الجيل- فعلاً- يواجه تحدياً يكاد يكون لا قبل له به، هذا الجيل - جيل 68 - يرفض أن يضع الخطو على الدروب المطروقة، أشكال ومحتويات الفن والأدب (إن صح أنها فن وأدب على الإطلاق) قد فرغت فجأة، أو بالأصح أسفرت عن وجهها فجأة، فإذا هي فارغة، فقد كانت تغيض وتذوي من زمان.. وهو جيل بالتالي مضطر، مقسور، مرغم على أن يختط مسارات في الوعر المجهول. يريد أن يقول عن ذات نفسه المهدورة، عن ذات وطنه الجريح، عن ذات إخوته المعذبين والحائرين والضاربين في التيه، عن ذات الحقيقة الصارمة الوجه".

لكن كل هذه الأشياء لم تكن محل خلاف بين محرري المجلة وكتابها منذ البداية، فلماذا وضع الخراط اسمه علي الافتتاحية؟ ولمن يتوجه في الحقيقة بهذه الرسائل؟

بمطالعة السطور التالية يتضح أن المستهدفين بها هم هؤلاء الكتاب أنفسهم، رفاق التجربة الواحدة، فـ"لم يكن ولا يمكن أن يكون لنا نبراس من عقيدة، أياً كانت، ينبغي لـ(68) أن تكون ميدان المغامرة حقاً وصدقاً".

الآن يبدو واضحاً أن التوازنات التي حاولت "جاليري" أن تصنعها وتفرضها فرضاً بين الحرية الإبداعية في أقصى اتساعها، وبين الالتزام والانضواء تحت راية الكفاح، باتت مستحيلة بالفعل، وأن السبب الأساس لتوقفها ليس عثراتها المادية المتكررة، فقد كان بإمكانها دائماً تخطي هذه العثرات، بل هو تفجرها من الداخل.

كانت "جاليري 68" ضحية التدافع والتنازع والعراك بين الأيديولوجيات، هي التي نأت بنفسها عن أية أيديولوجيا، أو هكذا أعلنت من البداية للنهاية، وعلى رغم تأثيرها الواسع إلى حد فرضها جيلاً كاملاً من الأدباء، فإنها لم تقو ذاتياً على الحياة، وقد كان بإمكانها أن تفعل لو أرادت، لكنها فضلت الموت على الحياة، لأنها لم تصل أبداً إلى يقين في زمن التمزق والشكوك والاتهامات.

ولعلها لم تكن في الحقيقة تبحث عن يقين، بقدر الإعلان عن نفسها كعنوان لتيار جديد. لم تكن تسعى إلى الوصول إلى الجماهير التي لا تقرأ، بل إلى فرض نفسها على النخب التي تكلست وسادت، وعندما تحقق لصناعها ما أرادوا، تفرقوا عنها كل إلى مصيره الذي لا يشبه أحداً سواه. ولكن تلك حكاية أخرى.

المزيد من ثقافة