Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

إيناس حليم تستلهم "ما بعد الحداثة" في زمن الحكي التقليدي

في روايتها "السيدة التي سقطت في الحفرة" تشيد بناء مختلفاً يمزج الخيال بالواقع ويلعب بالزمن

شارع النبي دانيال في الإسكندرية حيث تدور أحداث الرواية  (صفحة الإسكندرية على الفيسبوك)

ملخص

أقامت إيناس حليم بناء سردياً محكماً بحيث تأتي هذه الحكاية بين وقائع الرواية التي تقوم على فكرة كاتبة شابة تريد أن تكتب رواية لتحقيق حلم أمها المجهض.

كثيراً ما تبنت روايات سردية فكرة تتبع وقائع جريمة أو حادثة حدثت في الواقع واللعب عليها، ولعل أشهر نماذجها رواية "اللص والكلاب" لنجيب محفوظ على سبيل المثال، وعشرات غيرها من الأعمال الروائية بطبيعة الحال.

وتبدو رواية "السيدة التي سقطت في الحفرة" لإيناس حليم والصادرة عن دار الشروق، أخيراً، إضافة جديدة في هذا المسار، إذ تستعيد واقعة غامضة تعود لعام 1973 في الإسكندرية، وبالتحديد في شارع النبي دانيال، حيث وقعت امرأة، أو بالأحرى عروس تزوجت حديثاً، في حفرة بطريق عودتها مع زوجها إلى المنزل بعد خروجهما من إحدى دور السينما، فتبتلعها الحفرة وتختفي وتفشل كل محاولات إنقاذها أو معرفة مصيرها.

أقامت إيناس حليم بناءً سردياً محكماً بحيث تأتي هذه الحكاية بين وقائع الرواية التي تقوم على فكرة كاتبة شابة تريد أن تكتب رواية عن الموضوع كنوع من إكمال حلم مجهض لأمها التي تصفها بالكاتبة العظيمة، والتي حاولت مرات عدة كتابة هذه الرواية لكنها لم تفلح.

تقيم إيناس حليم بناء سردياً مركباً، ينبني على تفاصيل شديدة الدقة والحساسية، تشتبك به سيرة هذه الراوية "شادن" بسيرة عائلتها من جيل الجدود من ناحيتي الأم والأب، مروراً بجيل الآباء، مع رحلة البحث عن حقيقة ما حدث لميرفت: أي السيدة التي وقعت في الحفرة، وخصوصاً أنها ستكتشف أن ثمة خيوطاً مريبة تتصل بين أطراف من عائلتها مع تلك الواقعة الغامضة.

وعلى عكس الشائع في كثير من كتابات الجيل الجديد الراهن الذي يعود لشكل الحكاية التقليدية الأفقية الممتدة في زمن تصاعدي، يبدو منحازاً لأشكال الكتابة التقليدية الكلاسيكية، تختار حليم وتشيد بناءً مختلفاً، يمكن القول إنه يستلهم تيار ما بعد الحداثة في مزج الخيال بالواقع، واللعب بالزمن، بمعنى التقدم والعودة في الزمن ما بين الستينيات وحتى الألفينيات، في شكل يذكر بمحاولة تجميع قطع لعبة البازل الصغيرة للحصول على مشهد واضح مكتمل في النهاية.

في استعادة الأزمنة المختلفة لا تبدو شادن، الكاتبة بطلة العمل، كمن يحاول استعادة "حكايات" من زمن مضى، فقط، بل وتوثقها بصرياً بشكل شديد الدقة. فحين تعود لتستعيد حكاية عن زمن الجد عبدالحافظ الذي كان يمتلك محلاً لقص شعر السيدات في أسيوط ثم أحب امرأة مسيحية وقرر أن يهرب معها ليتزوجا في الإسكندرية، لا تكتفي بتفاصيل الحكاية، بل تضع يدها بدقة على جميع التفاصيل: وصف المحل وموقعه وهيئة وملامح الجد عبدالحافظ والجدة ماري، وأنواع القصات التي كان يتقنها للسيدات اللائي يترددن على المحل، وتعود بين الزمن حين تزور غرفة مهجورة في بيت العائلة من بين محتوياتها مجموعة باروكات أو شعور مستعارة كان الجد يستخدمها قبل عقود بعيدة حين كان يعمل كوافير، بل وحتى أنماط علب المشروبات الغازية الفارغة التي احتلت مساحة كانت تفصل بين باب المحل المغلق والساتر الحديدي الموضوع لمنع الاعتداء على المحل لسنوات طويلة بعد مغادرة العاشقين المغرمين، وشاهداً على ما عد في مدينتهما "فضيحة" حتى تم التخلص من المحل في وقت لاحق.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

شادن تبدو كأنها استوعبت كثيراً من دروس الأم التي كانت توصي ابنتها أن تراقب كل شيء وتمتص كل ما تقع عليه عيناها لتستفيد منه لاحقاً ككاتبة، لكن شادن في الحقيقة امتلكت ما هو أبعد من ذلك. فهي لم تتفق مع الأم في رؤيتها الأمور من بعيد كما يراها طائر من أعلى، بل قررت الهبوط والاقتراب ورؤية كل شيء من موقعه.

تقدم ما يشبه تاريخاً اجتماعياً موازياً يقوم على حاسة البصر. لا يترك شاردة ولا واردة، من وصف غرفتها بالتفصيل وما تطل عليه من علامات شارع الإسكندر الأكبر حيث يقع بيت العائلة في الإسكندرية إلى الروائح وارتباطها بالمشاهد البصرية، إلى المحال والباعة وتصف أغلفة المجلات والصحف لدى الأكشاك، ولا تشرد عن أرضيات بيت من البيوت المبلطة بالأبيض والأسود أو ألوان طلاء الجدران أو درجة تقشرها أو الصدأ الذي يعلو جهاز بوتاجاز (موقد) في مطبخ أو هيئة عمتها "ياقوتة" في لقاءاتها بها، وخلال حياة هذه المرأة معها ومع أمها لسنوات قبل اختفائها فجأة من حياتهما ومن العالم بشكل غامض أو درجات ألوان شعر إحدى قريباتها عندما تستقبلها وهي تضع الحنة فوق رأسها أو شوارع الإسكندرية والمقاهي والكازينوهات القديمة التي اندثر بعضها في الوقت الراهن، إضافة إلى نماذج عديدة مدهشة من الشخصيات والحالات التي يفيض بها النص، ولا تسمح المساحة بتناولها جميعاً.

وهذه وسيلة غير مباشرة لرصد التاريخ الطبقي والاجتماعي الذي تكشف عنه تفاصيل البيوت، وأثاثها، والوسائل السائدة في التنظيف والعناية بالبيوت، والأجهزة الكهربائية وغير الكهربائية المستخدمة في الستينيات والسبعينيات.

بعد انتهائي من القراءة الأولى قلت لنفسي هذه رواية تفوق دقة التفاصيل فيها معنى الدقة بكثير، وهذه الاستعادة القائمة على الذاكرة البصرية الاستثنائية التي تتحلى بها الراوية تمنح النص نوعاً من العذوبة ليس فقط لحساسية تناول المشاعر وردود الفعل، بل وأيضاً بسبب الطابع النوستالجي لاستعادة شكل المكان والناس والمدينة في زمن ماض، زمن يشعر من عاصروه بالشجن كلما استعادوه، ويثير فيهم حنيناً لأيام يجمع المجتمع على أنها كانت أياماً جميلة، مهما كانت معاناتهم فيها.

على سبيل المثال ليدرك القارئ مستوى الدقة تقول شادن في أحد المقاطع، "كانت يدا جدي ترتعشان وهو يسكب مرق الفاصولياء من الطنجرة إلى داخل الصحن العميق. يومها جلسنا متجاورين فوق الأريكة الخشبية في صالة شقة الطابق العلوي. وضع الصحن مع رغيف خبز وثلاث حبات من الزيتون المخلل فوق صينية سوداء مزخرفة من الأطراف، مرسوم عليها باللون الذهبي والأبيض سيدة ترتدي زياً يابانياً، تجلس فوق صخرة وسط بحيرة وتعزف على آلة موسيقية تشبه العود. وضع الصينية فوق طاولة جانبية كان مفرشها (التريكوه) مبقعاً بالصلصة، وكانت قصيرة بحيث يحتاج إلى الانحناء بجذعه كلما مد يده ليتناول لقمة جديدة".

 

مع تقدم القراءة في النص خاتلني طيف ألف ليلة وليلة، على رغم أن شيئاً في لغة النص لا يذكرنا بها، لكن قدرة الكاتبة على الإمساك بهذه الخيوط البعيدة والتحكم فيها باقتدار، مع مزج السرد بالحكاية الخرافية باستعادة حكايات الجدات عن الجن والعوالم السفلية مع تراث المعتقدات الغريبة عن السحر، في إطار رواية تقترب كثيراً من كونها نصاً ينتمي لأدب الجريمة لأن البطلة وهي تكتب سيرة البحث عن حقيقة ما حدث للمرأة التي سقطت في الحفرة، تقدم بحثاً سردياً في تتبع نساء أخريات وقعن في حفر معنوية، بداية من أمها هي شخصياً، الكاتبة العظيمة، زوجة الفنان غير الموهوب الذي خانها ثم اختفى من حياتها وحياة الابنة، مروراً بقصص العمات، والخالات، وغيرهن، مع إضافة تفاصيل العلاقة المرتبكة بين الأم وابنتها وتبادل كل منهما إحساس الشفقة تجاه الأخرى، شعرت أن في هذا كله ما يحيلنا إلى إمكانات شهرزاد في ألف ليلة، ويذكر بها ولو بشكل غير مباشر، إضافة للجانب التوثيقي الاستقصائي الذي تعود فيه إلى ما نشرته الصحف، وخصوصاً تحقيقات الكاتب الراحل مفيد فوزي في مجلة صباح الخير لأسابيع عدة، بين يوليو (تموز) وأكتوبر (تشرين الأول) 1973.

 

تمتلك شادن، إضافة إلى قدرتها على اختزان التفاصيل، قدرة على تحليل مشاعرها ومشاعر من تقترب منهم، وتسبر أغوار هذه العلاقة، خصوصاً في رصدها لعلاقتها مثلاً مع يحيى الذي يعد أولى قصص الحب في حياتها، وبخاصة في علاقتها المرتبكة مع أمها، وهذا كله يشتبك مع وصفها وتحليلها للشخصيات التي تلتقي بها في طريق البحث عن ميرفت وما حدث لها، بداية من مشاوير البيروقراطية في مكتبة البلدية للحصول على أعداد صحف قديمة تناولت الواقعة، مروراً ببعض المتعلقات التي تعود للجدة بعد وفاتها وترتبط بالواقعة، والمقابلات مع سكان الشارع الذي نشأت فيه عائلة ميرفت وليس انتهاء بالتوصل إلى بيت الزوجية الذي عاشت به العروس لفترة محدودة جداً، واللقاء مع شقيق زوج ميرفت.

فإذا كان هذ الكتاب هو الرابع للكاتبة إيناس حليم، فالمدهش والمفاجئ أنه يمثل روايتها الأولى، لكن ما أنجزته بها طموح ومهم وواعد وممتع ولافت شكلاً ومضموناً، إضافة سردية لا يستهان بها.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة