Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

بعد سقوط البشير... ما مستقبل سد النهضة؟

الرهان المصري على الموقف السوداني فقط لم يعد كافياً... ومخاوف إثيوبية من توافق القاهرة والخرطوم

الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي والرئيس السوداني المعزول عمر البشير ورئيس الوزراء الإثيوبي هيليم مريم ديسالين السابق يتصافحون بعد توقيع اتفاق مبادئ سد النهضة الإثيوبي (أ.ف.ب)

يشكل السودان موقعا رئيسا في ملف سد النهضة، وهو مؤثر بلا شك على تفاعلات هذه الأزمة القائمة بين مصر وإثيوبيا حاليا، وأسهم موقف الرئيس المخلوع عمر البشير في تعقيد هذا الملف خصوصا في الفترة الأخيرة من حكمه، إذ تعامل مع الملف على المستوى الداخلي في السياقات السياسية وليس الفنية، كما لم يحظ السودانيون من جانب كوادرهم في مدرسة الري السوداني، بتمحيص مسألة تأثير السد على بلادهم، وعما إذا كان هذا التأثير إيجاباً أو سلباً خصوصا فيما يخص أمن الشعب.

ضغوط البشير ومصالح خاصة
وكما ملفات أخرى، وظف البشير ملف سد النهضة في عمليات الابتزاز المشهور بها في السياق الإقليمي، ومارس ضد مصر ضغوطا غير محمودة على مدى سنوات، ولكنه تراجع عنها في يناير (كانون الثاني) 2019 حينما عجز عن تطويق الثورة السودانية ضد نظام حكمه، وكان بحاجة إلى الدعم المصري المباشر لإسناده.

على المستوى الجيوسياسي، تجاهل البشير مصالح السودان في الإقليم، وضرورة التوازن في العلاقة ما بين مصر وإثيوبيا على أسس موضوعية حتي يلبي أمرين؛ الأول مصالح السودان الاستراتيجية كلاعب إقليمي له دور تاريخي بين العرب والأفارقة، وبوابة كل فريق للآخر. الأمر الثاني الاستجابة الواقعية للهوية السودانية ذات المكونين العربي والأفريقي معا، إذ إن طغيان أحدهما على الآخر يخلق مشكلات داخلية وصلت إلى حد المواجهات المسلحة، وخارجية تفقد السودان القدرة على التفاعل مع الإقليم العربي صاحب إمكانات الدعم اللوجيستي للسودان في كل المجالات.

غياب البشير وحضور مغاير لملف السد
ومع غياب البشير عن المشهد السياسي السوداني، فمن غير المتوقع أن يشهد ملف سد النهضة غيابا عن الساحة الإقليمية أو السودانية، ففضلا عن إعلان فريهوت ولد هانا، وزير الدولة للري الإثيوبي في نهاية أبريل (نيسان) الماضي، "أن التطورات في السودان لن تؤثر بشكل أساسي على مصير المفاوضات بين إثيوبيا ومصر والسودان بشأن سد النهضة"، فإن هناك عددا من الأسباب  التي تؤكد هذا الاتجاه منها، أنه على الرغم من الإعلان الإثيوبي من جانب رئيس الوزراء آبي أحمد عن تعثر العمل في سد النهضة قبل عدة شهور لأسباب لوجيستية، وأخرى مرتبطة بملفات فساد، فإنه من الصعب تماما التخلي عن المشروع لأسباب داخلية إثيوبية منها أنه مشروع منتمٍ لمؤسسات الدولة العميقة الإثيوبية، التي لم ينجح آبي أحمد في تجريفها بالكامل رغم شروعه في تطويقها نسبيا، ذلك أنها تملك من العلاقات الإقليمية والدولية التي ترى مصلحة من الضغط على مصر من الجنوب، وهو ما يصعب المسألة على آبي أحمد، أما المسألة الثانية فهي حجم التمويل الداخلي في هذا المشروع الضخم إذ نجحت الدولة الإثيوبية أن تحول مشروع سد النهضة إلى مشروع قومي يهم كل مواطن إثيوبي.

 مخاوف إثيوبية وسط أمواج ثورة السودان
وعلى الرغم من كل هذا، فقد برزت مخاوف إثيوبية من إمكانية تحول نظام الحكم الجديد في السودان عن دعم سد النهضة، واستدعت الذاكرة السياسية الإِثيوبية هنا، موقف السودان من ملف تقسيم المياه في نهاية خمسينيات القرن الماضي بعد أن وافق الرئيس عبود على هذا التقسيم، وتوقيعه اتفاقية المياه بين مصر والسودان عام 1959، وذلك على الرغم من الجهود الحثيثة التي مارستها بريطانيا لمنع هذه الخطوة من العام 1953 حتى توقيع الاتفاقية، التي أفضت إلى بناء السد العالي في مصر، وهو ما أثار تحفظات إثيوبية وقتذاك نجح في احتواءها جمال عبد الناصر عبر سياسته الأفريقية بشكل عام، والتفاعلات المصرية الإيجابية مع إثيوبيا على نحو خاص.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ولعل التحرك الإثيوبي السريع إزاء تفاعلات الثورة السودانية خصوصا في  مطلع يونيو (حزيران) الماضي بعد توقف المفاوضات بين المجلس العسكري، وقوى الحرية والتغيير لا يتعلق فقط بمسألة سد النهضة، ولكنه أيضا بسبب اعتماد إثيوبيا على الموانئ السودانية كأحد المنافذ البحرية البديلة لتلبية الاحتياجات الداخلية.

 أيضا تقوم إثيوبيا عادة باستيراد ما يقرب من 50% من الوقود من السودان، ولكن هذه النسبة ارتفعت أخيرا إلى 80%، وهو ما يصيب الاقتصاد الإثيوبي في مقتل في حال توقفت هذه الإمدادات من الوقود السوداني.

في هذه السياقات المتداخلة والمعقدة على المستويين المحلي والإقليمي في كل من إثيوبيا والسودان، وبينهما معا وبين مصر، كيف يمكن أن يبلور سودان الثورة موقفه الجديد من مسألة سد النهضة؟

سد النهضة وإعادة تقدير المخاطر
في ظني، لا بد من الانتباه لعدد من المؤشرات التي برزت على ثلاث منصات الأولى فترة الحراك السوداني من على منابر الثورة في ميدان الاعتصام، والثانية هي ما بلوره محمد ناجي الأصم ممثل قوى الحرية والتغيير في حفل توقيع الوثيقة الدستورية، أما المنصة الثالثة فهي قاعة محاكمة الرئيس المخلوع البشير.

على المنصة الأولى برز إحساس أنه تمت إهانة السودان والسودانيين بعمليات الابتزاز على المستوى الإقليمي، التي مارسها النظام السياسي السوداني تحت ولاية البشير، وتحويل السودانيين إلى مقاتلين مرتزقة في حرب اليمن، وهو ما عبّر عنه الشارع الغاضب بضرورة عدم مساهمة السودان في حرب اليمن وسحب القوات من هناك، أما في حفل التوقيع على الوثيقة الدستورية فقد كان الأصم واضحا في رسائله الـ16 بأن السودان سيمارس سياسية خارجية تليق به، تلبي مصالحه الداخلية، وتحقق التوازن الإقليمي في زمن الانقسامات.

في قاعة محاكمة البشير برزت ممارسات غير لائقة برئيس دولة تلقى أموالا على سبيل الرشوة كثمن لمواقف سياسية، وهي مسألة أصابت كرامة السودانيين في مقتل وهم الأعزاء على طول تاريخهم.

هذه المؤشرات كان لابد من النظر إليها ونحن نحاول أن نستكشف الموقف السوداني من سد النهضة، ذلك أنها ستقودنا إلى أن السودان رغم المساندة الإثيوبية التي يلقاها سوف يفتح ملف سد النهضة من زاوية تأثيرها على مصالحه الاستراتيجية والوطنية، لعدد من الأسباب منها التركيبة الشخصية لرئيس الوزراء د.عبد لله حمدوك، فهو أكاديمي حاصل على أعلى الدرجات العلمية، ومؤهل سياسيا، ولا تنقصه الخبرات الفنية ومثل هذا التركيب الشخصي، تأخذ منه السلطة بأكثر مما تعطيه، فيكون الشخص صاحب هذه المؤهلات معتدا بذاته يأخذ قرارته طبقا للضرورات الوطنية.

موقف حمدوك من السد
وطبقا لهذا التقدير من المؤكد أن موقف حمدوك وحكومته من مسألة سد النهضة سوف تفتح النقاش الداخلي، وربما الدراسات الفنية، أما تأثيرات سد النهضة على السودان وذلك في مقابل مقولات نظام البشير بأن بناء سد النهضة سوف ينظم النيل الأزرق ويمنع فيضاناته التي تغرق السودان سنويا حتى الخرطوم.

في هذا السياق ربما يتم الانتباه إلى طبيعة المخاطر على الأمن الإنساني للسودان نتيجة بناء سد طبقا للمطلوبات الإثيوبية فقط دون الأخذ بالاعتبار تحفظات اللجنة الدولية التي حذرت من هذه المطلوبات وقالت إنها لا تستند إلى معطيات فنية كافية وذلك في تقريرها الذي أصدرته في مايو 2013، فقد طالبت

اللجنة بعمل دراسات حول التأثير الاجتماعي والاقتصادي وتوليد الطاقة وكيفية تشغيل بحيرة السد وتصميمها الهندسي، وقالت إنه لا تزال هناك حاجة ملحة للتحقق من معدل الأمان وثبات الجسم الرئيسي للسد والإنشاءات الأساسية له، كما  أكدت أن دراسات التربة في موقع السد المساعد لم تتم دراستها أو اختبارها نهائيًّا.

سيناريوهات فنية
وفضلا عن تقرير اللجنة، فإن هناك بعض السيناريوهات الفنية تشير إلى أن  تخزين بحيرة ضخمة من الماء خلف سد إنشائي من الأسمنت، والمقام في نهاية هضبة مرتفعة، هي الهضبة الإثيوبية التي تتميز بوقوفها على فوالق أرضية متحركة، من شأنه أن يعرض السودان لمخاطر الإغراق حتى العاصمة الخرطوم، ذلك أن حجم المياه المخزنة يصل إلى 74 مليار متر مكعب من المياه.

وعلى الرغم من المخاطر المشار إليها، فإن عدم اكتمال جسم سد النهضة يعطي للسودان فسحة من وقت، فلن يتم فتح ملف سد النهضة على الصعيد السوداني قبل معالجة الملف الاقتصادي الداخلي باعتباره الرافع الأساسي للحكومة  لضمان الإسناد السياسي من جانب الجماهير.

العلاقات الثنائية بين مصر والسودان
أما القضايا الإقليمية المطروحة في ملف العلاقات الثنائية بين مصر والسودان فسوف يتسيدها أمران؛ الدعم الاقتصادي المصري للسودان خصوصا في مجال الربط الكهربي، وملف سد النهضة، خصوصا أن الموقف المصري في هذا الملف استقر على المطالبة بتوقيع اتفاقية فنية بين الدول الثلاث تضمن أن لا تكون سنوات تخزين المياه قصيرة جدا، بحيث تؤثر سلبا على الاقتصاد المصري، خصوصا في الملف الزراعي لشعب قوامه أكثر من 100 مليون نسمة، أما المسألة الثانية فهي حجم هذا التخزين الذي تعتقد مصر بجدية أنه مؤثر على الأمن الإنساني للإقليم، وليس مصر وحدها.

ويبدو أن إثيوبيا سوف تكون مضطرة للتعاطي مع متغيرات جديدة في الملف رغم أنها نجحت في تجميده خلال التسعة أشهر الماضية بذريعة التطورات السودانية بعد اندلاع الثورة في 19 ديسمبر 2018، حيث نجحت أديس أبابا في تجميد اجتماعات اللجان على المستوى التساعي، وهو المكونة من جانب فني وجانب سياسي، كما أن الاجتماعات المبلورة في إطار وزاتي الري المصرية والإثيوبية لم تحقق  تقدما يذكر رغم اجتماعها 3 مرات خلال العام الأخير.

ويبدو أن الرهان المصري على الموقف السوداني فقط لم يعد كافيا، ذلك أن أزمة سد النهضة هي من الأزمات الأفريقية الكبرى، التي يجب أن يكون رهان مصر فيها على أفريقيا كلها وليس على السودان فقط.

اقرأ المزيد

المزيد من اقتصاد