Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

المصريون يستقبلون 2024 بجيوب أنهكها الغلاء وآمال أبطلها التجار

زادت أسعار سلع عدة في غفلة من النائمين ليلة رأس السنة ومن استيقظوا مبكراً هم من تلقوا الصدمة في اليوم الأول من العام

الملاحظ أن المصريين لم يتوقفوا كثيراً أمام الشروح الرسمية والتفسيرات الإعلامية الرسمية أيضاً لهذه الزيادات (أ ف ب)

ملخص

صدمة الأسعار تباغت المصريين في بداية 2024

"إيه ده؟!"، إنها العبارة التي بدأ المصريون بها العام الجديد. "إيه ده؟" أو "ما هذا؟"، تلك العبارة التي تعبر عن الدهشة المصحوبة بالصدمة، والاستفهام البلاغي الشعبي الذي لا يبحث عن إجابة، بقدر ما يعكس تعجباً وحسرة وشعوراً بالضيق.
ضيق الحلول، وضيق أفق مناورات التعايش الاقتصادي، وضيق قدرة الأصول على الوفاء بالخصوم، لا سيما بعدما استيقظت الجموع على تسلل تدريجي لكن سريع، لارتفاعات كبيرة في الأسعار، أسعار كل شيء وأي شيء.

خبر سيئ

نام المصريون ليلة رأس السنة بعدما تيسر من احتفالات في الشارع عبر سيلفي مع هيكل شجرة، أو جلسة عائلية عبارة عن "ديش بارتي" بسبب الوضع الاقتصادي المتأزم، عبارة عن حلة محشي طبختها العمة وصينية مكرونة جهزتها الخالة، وطبق فاكهة خرج إلى النور بفضل اكتتاب جماعي من كل الجيوب، ليستيقظوا صباح اليوم التالي على خبر سيئ. زادت أسعار المترو في غفلة من النائمين. من استيقظوا مبكراً هم من تلقوا الصدمة في اليوم الأول من العام الجديد 2024. منهم من دون على "فيسبوك"، ومنهم من ندب على "إكس"، واختار فريق ثالث أن يحتفظ بالخبر لنفسه حتى لا يعتبره الأهل والأصدقاء "بومة" في تلك الأيام، حيث البدايات الجديدة تحمل آمالاً ربما غير مبررة وأحلاماً غير منطقية بأن يكون العام الجديد عام انفراجة اقتصادية وبحبوحة معيشية.

المعارك الكلامية الصغيرة والمقاومة الشعبية الرقيقة في مثل تلك الوقائع المتكررة لم تخرج في الساعات الأولى من العام الجديد عن إطارها المعتاد، المواطن يزمجر ويفش غله في الموظف بائع التذاكر: "إيه ده؟ لماذا؟ حرام عليكم!"، والموظف بائع التذاكر يرد الزمجرة بأزجر منها ويبادل المواطن بفش غل مماثل: "وأنا مالي؟! هل تراني رئيس الوزراء؟!".

بعد الصدمة

رئيس الوزراء لم يخبر المصريين في ذلك اليوم بارتفاع أسعار تذاكر المترو، هذا الشريان الحيوي الذي ينقل يومياً نحو 3 ملايين مصري ذهاباً وإياباً.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وبعد صدمة الارتفاع الفعلي المطبقة على أرض محطات المترو بخطوطه الثلاثة، ومحاولة بعض المصريين طمأنة أنفسهم لأن الزيادة ربما إشاعة أو تجربة أو طارئة، جاء الخبر اليقين. الشركة المصرية لإدارة وتشغيل مترو الأنفاق طبقت زيادة على أسعار كل التذاكر، وأضافت تذكرة جديدة بـ15 جنيهاً مصرياً لما يزيد على 23 محطة. وغمرت جداول التذاكر، وكيفية حصر أسعارها، وحساب نسبة الزيادة على المواقع الخبرية وكذلك صفحات السوشيال ميديا.

وبينما المصريون من مستخدمي مترو الأنفاق يحبسون أنفاسهم تارة وهم يحسبون مجموع الزيادة، وآثارها المتوقعة على موازناتهم اليومية ومغباتها على مسؤولياتهم الأسرية، وأخرى وهم يتضرعون إلى السماء أن تكون هذه الزيادة المباغتة البداية والنهاية، وأن تخيب السماء ظنهم، وتكتفي المصائب هذه المرة بأن تأتي فرادى، إذ بها تأتي مجموعات متواترة متسارعة.

دخول الكهرباء على الخط

كذلك سارعت وزارة الكهرباء بالدخول على الخط، فأعلن "جهاز تنظيم مرفق الكهرباء" زيادة أسعار الكهرباء بداية من أول أيام العام الجديد. حسابات تذاكر مترو الأنفاق، وهي التذاكر مختلفة الأسعار بحسب عدد المحطات، ونسب الزيادة بدت سهلة أمام حسابات شرائح استهلاك الكهرباء، وهي الشرائح التي تحسب سعر الكيلووات بحسب معدل استهلاك المواطن، فكلما زاد استهلاكه ارتفع سعر الكيلووات. سنوات أمضاها المصريون وهم يناورون ويراوغون، يطفئون نور السلم ليلاً ويفصلون أزرار تكييف غرف الأولاد صيفاً ويعلنون البيت خالياً من المكواة شتاء للإبقاء على استهلاك البيت عند الحد الأدنى. ونجح ملايين في ضبط إيقاع الاستهلاك عند الشريحة المناسبة، لكن في كل مرة تخطو وزارة الكهرباء خطوة جديدة، ترفع أسعار الشرائح، ويعود المواطن لإعادة الحسابات وضبط الإيقاع.

 

 

الملاحظ أن المصريين لم يتوقفوا كثيراً أمام الشروح الرسمية والتفسيرات الإعلامية الرسمية أيضاً لهذه الزيادات، فتذاكر المترو "تقاوم" الزيادة "المستحقة" منذ سنوات وربما عقود. الجميع يعلم ذلك، أو في الأقل سمع عن المسألة. تكاليف التشغيل والصيانة ورواتب العاملين في المترو، والدولة تدفع مليارات، وأحدثها 30 مليار جنيه مصري (نحو 971 مليون دولار أميركي) سددتها الدولة لتجديد وصيانة الخط الأول. كما أن المصريين يعرفون بشكل أو بآخر حكاية الكهرباء وفاتورة الطاقة التي ترهق كاهل موازنة مصر، ومنهم من يحفظ رقم 90 مليار جنيه مصري (نحو 3 مليارات دولار أميركي) كلفة دعم الدولة للكهرباء.

عودة جداول التخفيف

ومع، وربما قبل، وفي أقوال أخرى أثناء إعلان الزيادة الجديدة في أسعار الكهرباء، تم إطلاق الجداول الجديدة الخاصة بتخفيف الأحمال، وهو التخفيف الذي ظن المصريون أنه مرتبط شرطياً بفصل الصيف وارتفاع معدلات استهلاك الكهرباء بحثاً عن نسمة هواء باردة في صيف مصر القائظ.

الجداول الجديدة خضعت لعملية شعبية معقدة من الشرح والتفسير، فهناك من أفتى بأن التخفيف الإجباري الغرض منه التقويم والتهذيب وفرض التخفيف على القلة المارقة المصرة على عدم الترشيد، حتى لو كانت تملك المال الكافي لسداد الفواتير الملتهبة وشحن بطاقات الدفع المسبق بمبالغ باهظة. وهناك من عمد إلى السخرية بأن الحكومة أعلم من المواطن بمصلحته، لذا اتخذت قرار تدريبه وتمرينه حتى لا يأتي فصل الصيف ويصاب المواطنون بصدمة التخفيف مجدداً.

تجديد العهد مع منظومة تخفيف الأحمال لم يمض من دون تذمر، "الأولاد في موسم امتحانات وما أن يعودوا من المدرسة ويبدأوا في المذاكرة حتى ينقطع التيار" شكاوى تكررت وتصاعدت حدتها في الأيام الأخيرة من عام 2023، وذلك قبل أن يعلم المصريون أن ما يشهدونه من انقطاع التيار ليس إلا تخفيف أحمال.

البرلمان ومصلحة المواطنين

الطريف أن مجلس النواب (البرلمان) المصري لا يقف بعيداً مما يجري، تحركات عدة قام بها عدد من النواب لإعلان الرفض والتعبير عن الغضب، لكن الرفض لم يكن للانقطاع، والرفض لم يصب في مصلحة الأسعار، بل جاء رفضاً لتغيير مواعيد الانقطاع التي اعتادها المواطنون.

 

 

المواطنون اعتادوا على ما يبدو المنظومة التي أطلق عليها البعض تفكهاً "الصب في المصلحة". لكن المنظومة ليست كلها فكاهة. وما بدأ عادة حكومية برفع أسعار سلعة أو سلعتين ليل الخميس، بحيث يستيقظ النائمون صباح الجمعة على خبر الزيادة، ثم شرح ما جرى في ضوء أسباب يتم سردها بإنها "تصب في صالح المواطن البسيط" أو "نصف البسيط" تحول إلى إجراء يطال الجميع أينما كانوا ولو كانوا يظنون إنهم في مأمن من الزيادات.

مفهوم الأمان

مفهوم الأمان في مصر صار متشعباً، حرب القطاع التي اندلعت في غزة في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي أعادت إحياء مخاوف تتعلق بالأمن بمفهومه الكلاسيكي، حيث خطر الحرب والعمليات القتالية بأنواعها يدق أبواباً قريبة. وقتها خفت اهتمام المصريين بعض الشيء بالأمن الاقتصادي والأمن الغذائي والأمن الاجتماعي، وجميعها أنواع من الأمن على صلة وثيقة بما في الجيب، أو بالأحرى بما لم يعد في الجيب. لكن خفوت الاهتمام بالاقتصاد المتعثر، وإعطاء الأولوية للأمن حتى لا يتعثر، وبالطبع سلامة أهل غزة ومصير القضية الفلسطينية التي تشكل جانباً كبيراً من وعي المصريين باختلاف أعمارهم وأوضاعهم ما كان له أن يستمر إلى ما لا نهاية.

وعجلت قرارات زيادة الأسعار المباغتة والمتواترة بعودة الوهج لمخاوف الجيوب الفارغة أو شبه الفارغة أو التي تحوم مخاوف حول اقتراب فراغها، ومن تذاكر المترو إلى فواتير الكهرباء ومنها إلى شركات المحمول التي أقر جميعها زيادة في أسعار بطاقات شحن الرصيد والفواتير الشهرية وباقات إنترنت الهواتف المحمولة بنسب تتراوح بين 10 و15 في المئة. وكللت الشركة المصرية للاتصالات – التي تمتلك الدولة أغلبها - الموجة برفع أسعار باقات الإنترنت المقدمة على الهواتف الثابتة، ليس هذا فقط بل تمضي الشركة نحو زيادة رسوم تعاقدات خطوط الهاتف الأرضية بنحو الضعف.

مارك والإنترنت

ضعف الإنترنت، أو تبدد الباقة بسرعة تنافس سرعة الضوء، أو الشكوى من ضيق هوامش التعبير على السوشيال ميديا بسبب "مارك" (زوكربيرغ وتضييقات "فيسبوك") أو بلاغات المختلفين في الرأي أو المعترضين على الأيديولوجيا توارت جميعها واتخذت مراتب متدنية على قائمة القلق المتعلق بعوالم الاتصال، بات القلق أكثر بدائية وبديهية حيث مخاوف من تقليص القدرة الشعبية على التمتع بالإنترنت.

شبكة الإنترنت المذهلة

الإنترنت، هذه الشبكة المذهلة التي أدت إلى التصاق شتى فئات المصريين بشاشاتهم على مدار ساعات الليل والنهار، ليست مجرد أداة اتصال. محمود (30 سنة) (عامل البناء) الذي يتقاضى أجره باليومية، يقول إن مشاهدة مقاطع الـ"تيك توك" الكوميدية هي الترفيه الوحيد في حياته. وشيماء (25 سنة) (موظفة الأمن) لا هواية لها إلا متابعة فيديوهات الطهي وربطات طرحة المحجبات. وأيمن (40 سنة) (محاسب يعمل في القاهرة) يطمئن على صغاره المقيمين في مسقط رأسه في محافظة الشرقية يومياً عبر مكالمات "فايس تايم" المرئية. وقائمة استخدامات الإنترنت لدى المصريين العاديين كمنصة ترفيه في زمن عز فيه الترفيه، وأداة تنفيس عن الهموم في وقت تواترت فيه الغيوم والشجون طويلة.

طول القائمة وأثر الزيادة في استخدامات المصريين المختلفة للإنترنت بأنواعه والاتصالات بأشكالها، دفعا نواباً في البرلمان المصري لإعلان نيتهم "سؤال الحكومة" عما يجري.

طلبات الإحاطة

عضو لجنة الاتصالات في مجلس النواب عن "الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي"، النائبة مها عبدالناصر قالت إنها ستتحرك برلمانياً، وستقدم طلب إحاطة حول هذه الزيادة. في سياق متصل حتى وإن بدا منفصلاً، تقدم عضو مجلس النواب عبد السلام خضراوي بطلب إحاطة، ولكن في شأن الحديد والارتفاع الجنوني في أسعاره ليصل طنه إلى 42 ألف جنيه فجأة. وطالب الحكومة بالتدخل لضبط السعر، واعتباره سلعة استراتيجية.

وفي نوفمبر (تشرين ثاني) الماضي تقدمت عضو مجلس النواب فاطمة سليم بطلب إحاطة للحكومة، ممثلة بوزارة التموين والتجارة الداخلية بسبب الارتفاع غير المسبوق في أسعار السلع الغذائية.

حتى "تقاوي" البطاطا وجدت من يرفع في شأنها طلب إحاطة في البرلمان المصري، إذ تقدمت النائبة سوسن حسني بطلب إحاطة عن ارتفاع أسعار "التقاوي" مع اقتراب موسم زراعته.

وتتوالى طلبات الإحاطة المقدمة من "نواب الشعب"، فيما يفترض أنه نقل صوت الشعب وأوجاعه عبر برلمان الشعب إلى وزراء الشعب وموظفيه العموميين. ويلمح خبثاء إلى أن طلبات الإحاطة والعدم سواء، إذ لا يتوقع أن يفضي أي منها إلى تغيير فعلي أو خفض حقيقي للأسعار التي أدمت جيوب المصريين.

الجيب والسقف والأمنيات

ويخشى آخرون من أن جيوب المصريين ليست وحدها التي تعاني، فقبلها ارتفع سقف التوقعات وعلا أفق الأمنيات بتأمين الولاية الثالثة للرئيس عبدالفتاح السيسي. تمنى بعضهم أن تستهل الفترة الرئاسية الثالثة بإجراءات تخفف معاناة الوضع الاقتصادي الصعب، أو بسياسات قادرة على حلحلة الأزمات المتمثلة في ارتفاع مستمر للأسعار مع غياب شبه دائم لآليات ضبط الأسواق وربط جموح تجار الجملة وجنوح تجار التجزئة، وتخيل بعضهم الآخر أن الدولة ستهرع إلى تغييرات آنية تكون بمثابة نسمة اقتصاد عليل في ليل أزمات بهيم ألم بالغالبية. وتوقع آخرون أن تجري "فرملة" (توقيف) فوضى الأسواق، وفي أقوال أخرى عشوائية التسعير، وفي قول ثالث جنون الأسعار. لكن أتت الساعات والأيام الأولى من عام 2024 بما لم يشتهه أو يتوقعه أو يتمناه كثيرون، مزيد من الغلاء لم يكن على قائمة المطالب، بل كان على رأس الهواجس.

هاجس ارتفاع الأسعار

هاجس ارتفاع الأسعار صدم المصريين هذه المرة، ربما لأنها من المرات النادرة التي توقع كثيرون أن يأتي العام الجديد ببحبوحة ولو محدودة أو موقتة أو حتى طارئة بعد خفوت تصاعد الغضب الشعبي من السياسات الرسمية وسوء الأوضاع الاقتصادية أمام طوفان غزة. هذا التوقع تضاعف بعودة وهج شعبية الرئيس السيسي بفعل حرب القطاع، وهيمنة الهاجس الأمني وتسيده أولويات الجميع.

في أغسطس (آب) الماضي، كتب الاقتصادي والقانوني والسياسي، زياد بهاء الدين تحت عنوان "الغلاء، هل هناك ما يمكن عمله؟" أن "الخطاب الحكومي المعروف هو أن الاقتصاد كان على مسار سليم، إلى أن طرأت "كورونا" ثم "أوكرانيا"، فتعقد الوضع، واضطرب الاقتصاد العالمي، وزادت الأسعار في كل أنحاء العالم، ونحن جزء منه". وقال بهاء الدين وقتها إن هذا التفسير محل خلاف، ولكن دعا إلى إرجاء النقاش في هذا الشأن، والتفكير في الغلاء حينئذ، وما يمكن عمله. حينئذ، كان سعر كيلو السكر 25 جنيهاً مصرياً. اليوم، وبعد مرور أربعة أشهر، صار سعر كيلو السكر 36.5 جنيه مصري.

 

 

ونوه بهاء الدين في مقالته إلى أحد الأسباب المزمنة لجنون الأسعار، ألا وهو "الخلل البالغ في السوق المحلية، والأرباح الهائلة التي يحققها كل من لديه القدرة على تخزين السلع، وتقييد توافرها، والتلاعب بأسعارها". وعلى رغم ذلك حذر من أن إلقاء اللوم على جشع التجار فقط ليس الحل، لا سيما وأن "فساد الأخلاق وقلة الضمائر مما يلزم توقعه والتعامل معه والتدخل لمواجهته ومنع وقوعه"، وذلك في تلميح شبه مباشر إلى مسؤولية الحكومة الواضحة والصريحة والمباشرة لكبح الجموع وكبت الجنوح.

كبح الجنون

قبل أربعة أشهر تحدث زياد بهاء الدين عن ضرورة كبح جنون الأسعار بـ"كسر الاحتكارات والقيود القائمة التي تتيح لبعض المنتجين والتجار وأصحاب المخازن التحكم والتلاعب في الأسعار"، وتطرق إلى "واقع قوامه محدودية المنافسة، وعدم قدرة على زعزعة سيطرة التجار على الأسواق، حيث دخول لاعبين جدد إلى الساحة - بما يهز العروش القائمة - مكبل بقيود كثيرة ومعقدة ومكلفة ومعطلة"، مطالباً بأن تتخذ الدولة السياسات والإجراءات اللازمة لتصحيح المسار الاقتصادي جذرياً.

وصفات علاجية

وقبل ساعات، كتب مجدداً، ولكن هذه المرة متسائلاً "مع بداية عام جديد، هل من تغيير اقتصادي؟" كعادته، سرد بهاء الدين روشتة. تصحيح الخلل في سوق الصرف، تحديد دور الدولة في النشاط الاقتصادي، والحد من مزاحمتها للمستثمرين، إطلاق طاقات القطاع الخاص، مزيد من الشفافية في برنامج التخارج من الأصول، محاربة الغلاء بتشجيع الإنتاج والتنافس لا بالقرارات الإدارية، استخدام السياسة الضريبية لتشجيع التنمية لا لمجرد زيادة الحصيلة، وغيرها من الوصفات العلاجية.

لكن الوصفات العلاجية تظل في واد، والاقتصاد في واد آخر. المصريون مع موجة الزيادة الحالية توقفوا على غير العادة عن طرح حلول شعبية وتداول فتاوى عنكبوتية لا أساس لها من الحكمة أو أصل لها في علوم الاقتصاد أو سند لها في باب الموازنات، صحيح أن أثرها في التهدئة، وقدرتها على امتصاص الغضب لم تقصر يوماً مع جموع المصريين، لكن هذه المرة الوضع مختلف.

صبر وجلد

اختلاف الوضع يتمثل في صبر القاعدة العريضة من المصريين وجلدهم في ضوء أوضاع إقليمية بالغة الصعوبة تحيط بالحدود المصرية حيناً، ومعرفة بعضهم بأوضاع اقتصادية عالمية في 2024 لا تنبئ بخير وفير أو تحسن كبير، إضافة إلى حال من الإنهاك الجماعي جراء تواتر أحداث عجاف وحوادث جسام منذ أحداث يناير (كانون الثاني) 2011.

 

 

دخول عام 2024 "برجلها الشمال"، على حد وصف الإعلامية لميس الحديدي لإعلان زيادة أسعار عشرات السلع والمنتجات تزامناً مع بدء العام، أصاب جموع المصريين بصدمة. الصدمة منعتهم من التمعن في شرح مستفيض قدمه رئيس الوزراء مصطفى مدبولي لأسباب الزيادة، وذلك بعد الزيادة الفعلية بأيام. كما أجهضت جنوح أحلامهم بتغيرات اقتصادية إيجابية، وأبطلت انحراف أمنياتهم بعيداً من أرض الواقع حيث الحكومة والمواطن والأسعار في لعبة القط والفأر والثعلب المكار.

يأمل الفأر بالهرب من قبضة الزيادات، فيهرع القط للإمساك به وإجهاض أمله لأسباب بعضها خارج إرادته وبعضهم الآخر لسوء إدارته، في حين يعمل الثعلب المكار على الحفاظ على الأسعار في حال ارتفاع مستدام.

توزيع اللوم

اللافت أن أصواتاً عبر الإعلام التقليدي وكذلك السوشيال ميديا تلقي لوم الزيادة الموجعة على التجار وحدهم، أو تعتبر الأوضاع العالمية السبب وراء اللجوء إلى دواء الزيادة المر، أو اعتبار الزيادة السكانية المسؤولة عن ابتلاع أي مؤشرات تحسن أو ملامح تقدم، بل وذهب الأمر ببعضهم إلى درجة اعتبار اللاجئين أو المقيمين في مصر بسبب ظروف الصراعات في بلدانهم، السبب في تفاقم الأزمة وتصاعد الأوجاع.

مقرر المحور الاقتصادي في الحوار الوطني، وزير المالية المصري السابق أحمد جلال أجاب عن سؤال طرحه قبل ساعات في مقالة كتبها تحت عنوان "هل حان وقت تحديد المسار؟"، بقوله "نعم، حان الوقت، لا سيما في ما يتعلق بالسياسات الاقتصادية". وكتب بشكل مباشر وصريح، "بما أن مؤسسة الرئاسة تلعب دوراً حاكماً في توجيه السياسات الاقتصادية، أليس من المفيد إنشاء مجلس استشاري اقتصادي قومي على غرار المجلس الأميركي بقانون يضمن استمراريته وفعاليته؟ وعلى رغم أن عدد الوزارات في مصر يفوق الـ30، أليس من المنطقي أن يكون لدينا وزير للاقتصاد يقوم بالتنسيق بين السياسات المختلفة؟ وبما أن إدارة السياسة النقدية أخطر من أن تترك لرواد البنوك التجارية، أليس من الأفضل إسناد إدارة البنك المركزي في المستقبل لمتخصصين في الاقتصاد الكلي والسياسة النقدية؟".

جيوب منهكة

 نصائح المتخصصين في الاقتصاد، والتوقعات الرسمية المعلنة من أن الاقتصاد أمامه عام 2024 وجزء من 2025 للعودة للمسار الطبيعي، وجنون الأسواق التي أصيبت بخبل في التسعير تقابل بجيوب شديدة الإنهاك، وكذلك حديث ذو شجون مفعم بالهموم. الحديث الدائر حول قرب استئناف الحوار بين صندوق النقد الدولي ومصر في شأن قرض بـ3 مليارات دولار كان اتفق عليه في عام 2022 لا يطمئن المصريين، بل يثير وساوس ثقل القروض لتنضم إلى هواجس مزيد من الغلاء. قوائم السلع البديلة، وأفكار الأكلات الأرخص، ومقترحات قوائم المقاطعة، ودعوات الاستغناء وسبل ترشيد النفقات اختفت كمحتوى جاذب على منصات السوشيال ميديا، وكذلك المواقع الإخبارية وبرامج التلفزيون. وحل محلها صمت مطبق لا يخرقه بين الحين والآخر إلا إعلان ارتفاع سعر سلعة، يعقبها سؤال إيه ده؟! وربما انطلاق نكتة مكتومة، ثم العودة للصمت مجدداً.

المزيد من تحقيقات ومطولات