Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

رشيد الضعيف يشهد على كارثة المدينة بحد أدنى

  لقطات سردية سريعة تختصر رواية "ما رأت زينة وما لم تر"

انفجار مرفأ بيروت كما رسمه مارون الحكيم (صفحة الرسام - فيسبوك)

ملخص

لقطات سردية سريعة تختصر رواية "ما رأت زينة وما لم تر"

يسلك الروائي اللبناني رشيد الضعيف في روايته الجديدة "ما رأت زينة وما لم ترَ" (دار الساقي 2023) سبيلاً لم يسبق أن طرقه، ويفتتح به مجالاً لتحدٍ أسلوبي جديد. فالرواية تتألف من 35 مشهداً قصيراً بالإجمال، إذ يتفاوت حجم كل منها بين نصف صفحة ومقطع واحد، وبين أربع صفحات في الحد الأقصى. ومع ذلك هي رواية تحمل هماً وتنقل أثراً من أسى أصاب نصف سكان العاصمة بيروت، في الرابع من اغسطس (آب) من عام 2020، عنيت انفجار مرفأ المدينة الذي لا تزال آثاره وندوبه ماثلة في أجساد ستة آلاف من مواطنيها، وفي أرواح 230 من إخوانهم والأقارب.

 الحكاية أبسط

على ما عهدناه، يضع الروائي رشيد الضعيف نقطة البداية لحكاية رواياته تكون بسيطة للقراء، حتى يسهل عليهم مواصلة القراءة إلى النقطة الذروة، بل إلى ختامها. هي استراتيجية الطعم في الصنارة والسمكة المندفعة نحوها، على أن يكون الطعم مألوفاً وجذاباً ودسماً في آنٍ. الحكاية هي أن امرأة تدعى زينة، أرملة منذ ما يقارب 30 عاماً، مات زوجها الشاب غرقاً عندما كان في سفر طلباً للعيش. ولدى زينة فتاة شابة تدعى بشرى، لم تكمل تحصيلها العلمي بسبب العوز. ومع أن الأم زينة تعمل ربة منزل لدى عائلة ميسورة مؤلفة من فيصل، وسوسن، وماري، يعولون زينة ويغطون مصاريف ابنتها بشرى. ولا تلبث العائلة أن تواجه متاعب الأزمة الاقتصادية المنقطعة النظير، وصعود الحركات الاحتجاجية في 17 أكتوبر (تشرين الأول)، إلى أن تبلغ نقطة فاصلة في انفجار 4 أغسطس (آب) من عام 2020. وعندئذٍ تقع الجريمة، بل الجرائم في حق من كان ماراً بالصدفة من شارع المرفأ، أو من كان منزله أو مشغله مطلاً على المرفأ، فيسرد الكاتب، بلغة أقرب ما تكون شعرية، ومحاكية بمأسويتها المآسي الكثيرة التي نجمت عن ذاك الانفجار، زوج جارتها "ينغرس اللوح في عنقه" (ص:65)، ويقتل رسام الغرافيتي مطموراً تحت الركام، وتقتل الصبيتان "اللتان كانتا على الرصيف" بفعل الزجاج، ومقتل طفل المرأة الشابة بقطع رأسه، و"لم تدر زينة أن زجاج الشفافية والطهر انهار على الناس جميعاً، وقتلهم قتلاً همجياً يندر مثيله" (ص:59).

وبناءً على ذلك، ليس من عقدة في الرواية سوى خطر الموت المحدق بالشخصيات الهشة، والمحول حياتهم جحيماً، بفعل انفجار المرفأ، ومن خارج توقعاتهم، ولا صراعاتهم الخفية. حسبه أن الرواية الواقعية، على هذه الصورة المبسطة، يستعير لها الكاتب شخصيات وأصواتاً ينطقون بها، ويحيلون على الواقع بمرارته الفائقة وقساوته المنقطعة النظير، ولا سيما إبان الكوارث والحروب والأوبئة التي يبتلي بها شعب من الشعوب، وما أكثرها عندنا! من ثم خرجت الرواية ههنا عن كونها ذاتية معمقة وموسعة عن إحدى المسائل ("ليرننغ إنغلش": الثأر، و"ناحية البراءة": القمع السياسي/ الجنسي، "عزيزي السيد كواباتا": التباس الهوية، على سبيل المثال لا الحصر) إلى الاكتفاء بسرد وقائع من غير تفريعات ولا توسع.

في روايته السابقة، عنيت "الأميرة والخاتم"، شاء الروائي رشيد الضعيف أن يقفز إلى النوع الفانتازي الخيالي، وكان الديكور المعتمد فيها مختزلاً وبالحد الكافي للإيحاء بعالمه الرمزي والقيمي الذي شكلته الرواية. حصل الاختزال نفسه في تعيين الزمان والمكان اللذين تجري فيهما أحداث الرواية "ما رأت زينة وما لم ترَ"، إذ تكفيه إشارة واحدة لتحديد المكان، وأخرى للزمان، كأنما هما ضربتان سريعتان من ريشة فنان يخطو من الواقعية إلى الانطباعية وينجح في اختزاله والتعيين.

"الساعة الآن نحو الرابعة بعد الظهر في بيروت، يشير إلى ذلك ميلان الشمس قليلاً نحو المغيب فوق البحر، وكذلك ميلان الظلال" (ص:5).

الشخصية المحورية وآخرون

وفي نهجه الاختزالي يعين الروائي شخصياته، على ما وصفنا أعلاه، بل ينتخب من بشر المدينة من كان يمثل السواد الأعظم منها، أولاهم "زينة" المرأة الخمسينية الأرملة منذ 30 عاماً، بموت زوجها الشاب غرقاً في سعيه إلى الرزق، تعمل ربة منزل لدى أسرة ميسورة، مؤلفة من شخصين (فيصل وسوسن)، وابنتها العشرينية بشرى، غير المتابعة تحصيلها العلمي بسبب العوز، والعاطلة عن العمل شأن غالبية شبان جيلها وشاباته، وماري، المهتمة ببشرى. وعليه، تلتفت كاميرا الروائي، عبر مشاهد قصيرة، صوب كل من هؤلاء لتوثق ملمحاً أو نشاطاً دالاً على هوية كل منهم في يومياتهم العادية، والتي تزداد تعقيداً وعسراً كلما اقترب الجميع من الساعة صفر، موعد الانفجار الكبير.

ولو أمكن النظر إلى الداعي لاختيار الخلية الروائية المؤلفة من خمس شخصيات (زينة، بشرى، ماري، فيصل، سوسن)، تدور الكاميرا الروائية على كل منهم، لخلص القارئ إلى أن الكاتب قصد إلى اختيار عينة من أناس المدينة، ينتمون إلى الطبقة الوسطى وما دون، على أن يمثل كل منهم شريحة واسعة، أملاً في إخراج صورة صادقة ولو نسبياً عن حال المدينة، بيروت، قبيل الانفجار.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

سيناريو

وبالعودة للمقارنة بين أعمال الضعيف الروائية السابقة، وبين هذه الأخيرة يتبين لنا الآتي: أولاً اعتماد الروائي تقطيع الرواية إلى 35 فصلاً (35) هي أقرب ما تكون إلى مشاهد أو لقطات طويلة من سيناريو فيلم قصير المدى، في حين لم يكن الروائي ليعنى بتقسيم متن الرواية على الإطلاق، عملا بمبادئ الرواية الجديدة وأهمها: الالتزام بتيار الوعي وإعطاء الأولوية لحياة الأفراد النفسية (ليرننغ إنغلش، وناحية البراءة، وغفلة التراب، وغيرها، على سبيل المثال).

ثانياً، تخلي الكاتب عن مبدأ الغوص إلى أعماق الشخصية المفردة واستجلاء دوافعها الحقيقية إلى الفعل والتحول، لصالح تدخل الراوي العليم في الوصف والتعليق، إلى جانب السرد، كمثل قوله "ولم ترَ زينة كيف شقت دفوف الزجاج الساقطة من أعالي البنايات، رؤوس الناس وأجسادهم. هذا شاب يغرق الدم لحيته الشابة. وعلى الصبيتين اللتين كانتا على الرصيف تنهار واجهة من زجاج وتطمرهما وتقتلهما. ومبنى بكامله يتهاوى على العمال الذين يرممون واجهته، ويطمرهم جميعاً فلا يعود يبين منهم شيء، فاختفوا من هذا الوجود كأنهم لم يكونوا. كأنهم لم يزوروه" (ص:59)

ربما تكون هذه الرواية (ما رأت زينة وما لم ترَ) نوعاً من شهادة كلية على ما تركه انفجار الرابع من أغسطس من عام 2020، من آثار على مواطني بيروت، ولا سيما منطقة الأشرفية وشارع الجميزة المواجه للمرفأ، وعلى سائر البشر من ذوي الصلة بالمرفأ والداخلين اليه، والعاملين فيه. شاءها الروائي رشيد الضعيف بمثابة مواساة عميمة لكل ضحايا الانفجار، وإعلاناً عن دعوة الرواية إلى مزيد من الإضاءة على جوانب معتمة وأليمة من زمن المدينة (بيروت) المعاصر، ومن أسى أبنائها العميم، وإن بلغ كثير منهم يومهم الثالث، وقاموا من رمادهم مثل الفينيق.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة