Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

فلورنس نايتنغيل... رسولة الأمل إلى عالم الألم

رائدة فن التمريض البريطانية ـ الإيطالية التي وضعت أسساً علمية للمهنة وساعدت في إنقاذ حياة ملايين البشر

لوحة تمثل فلورنس نايتنغيل تساعد المرضى (المتحف الوطني العسكري ـ بريطانيا)

كثيراً ما تردد القول: "إن التمريض هو نصف الشفاء"، وأنه من دون تمريض ناجع يضحى الطب نفسه غير ذي فائدة، لا سيما أن أهمية التمريض تبدأ من حيث تنتهي مفاعيل المداواة الأولى.

ولعله من نافلة القول الاعتراف بأن التمريض عمل يؤدي لمساعدة الفرد – مريضاً كان أو سليماً – في القيام بالأنشطة التي تسهم في الارتقاء بصحته أو استعادة صحته في حالة المرض أو "الموت بسلام وأمان"، والتعبير لمنظمة الصحة العالمية.

يبقى التمريض إذاً علماً وفناً يهتم بالفرد ككل - جسماً وعقلاً وروحاً – ويعمل على تقديم وحفظ الفرد روحياً وعقلياً وجسمانياً ومساعدته على الشفاء عندما يكون مريضاً ويمتد الاهتمام بالفرد المريض إلى أسرته ومجتمعه ويشتمل ذلك على العناية ببيته وتقديم التثقيف الصحي عن طريق الإرشادات.

أما الجمعية الأميركية للتمريض، فترى أنه خدمة مباشرة تهدف إلى استيفاء حاجات الفرد والأسرة والمجتمع في الصحة والمرض.

وفي كل الأحوال تكمن أهمية التمريض في الحاجة إلى وجود شخص يعتني بالمريض أثناء وجوده في المستشفى، ويقدم له الرعاية الصحية بشكل كامل، ويحد من آلامه الجسدية والمعنوية، ويُعنى الممرض بإرشاد المريض وعائلته إلى الأمور التي يجب أخذها في الاعتبار ليتم العلاج على الوجه الأكمل.

على أن قصة البشرية مع التمريض تنقسم إلى ما قبل وما بعد اسم هذه الفتاة الإيطالية فلورنس نايتنغيل، والتي باتت في تاريخ الإنسانية المعاصر، علامة ناصعة لما قدمته لهذه المهنة من رقي ونهضة، ليرتبط اسمها في الأزمنة الحديثة مع مدارس التمريض والأنساق الحديثة في عالم التمريض.

من هي نايتنغيل، وما الذي جعل منها علامة مضيئة في طريق النفوس المتألمة من المرضى والجرحى، في بلادها وحول العالم الواسع؟

 

نايتنغيل... الأصل بريطاني والمولد إيطالي

ولدت فلورنس نايتنغيل في بلدة فلورنسا بإيطاليا عام 1820، لعائلة بريطانية غنية تؤمن بتعليم المرأة، وهو أمر كان نادر الحدوث في ذلك الزمان، وقد تطلعت مبكراً لأن تضحى ممرضة بهدف خدمة الآخرين، غير أن والدها رفض معتبراً أنها مهنة لا تليق بمستوى الأسرة الاجتماعي، ومن ثم جرى إعدادها علمياً وفكرياً في منزلها، كما شأن العديد من الأسر الكبيرة آنذاك.

غير أنه لاحقاً بدأت في تحقيق رغبتها من خلال تعلمها التمريض بشكل أكاديمي في مدرسة تدعى "الكايزروارت"، وقد كان ذلك عام 1851، الأمر الذي صقل رغبتها وإيمانها بأهمية وضرورة وضع برامج لتعليم التمريض، وكذلك برامج لتدريس آداب المهنة وأن تكون هذه البرامج في أيدي نساء مدربات وعلى أخلاق عالية يتحلين بالصفات الجيدة.

هل يمكن القول إن تاريخ التمريض الحديث قد بدأ مع نايتنغيل؟

غالب الظن أن ذلك كذلك، فقد أظهرت الفتاة الإيطالية النشأة البريطانية الجذور، ميلاً واضحاً إلى النظافة العامة ووضع قواعد للتطهير، كما أبدت اهتماماً أكثر لتمريض الصحة العامة في المجتمعات الأوروبية، ولهذا تعتبر أول من وضع قواعد للتمريض الحديث، وكذلك أول من أرست أسساً حديثة لتعليم التمريض، بل إنها وضعت مستويات للخدمات التمريضية والخدمات الإدارية في المستشفيات.

بعد عامين من دراستها الأكاديمية بلغة عصرنا، أي عام 1853، كرست نايتنغيل مجهوداتها من أجل إنشاء أول معهد للتمريض في بلادها، وهو ما تحقق لها بعد عناء طويل، وأطلق عليه "معهد السيدات النبيلات للعناية بالتمريض"، تحت إدارة فلورنس نفسها، والذي حرصت من خلاله على تعليم الفتيات والسيدات أصول ومبادئ المهنة، التي كان أساسها الأدوات النظيفة المعقمة، والتهوية الجيدة، ما عمل على زيادة نسبة شفاء المرضى لديها، ولهذا كانوا يلقبونها بالساحرة، حتى تم تعيينها في مستشفى كلية الملك في منصب مديرة الممرضات.

ما الذي يستلفت الانتباه في اسم المعهد الذي أسسته نايتنغيل؟

بلا شك، هو تعبير السيدات النبيلات، ما يعني أنه نقلة فكرية مجتمعية، فبعد أن كانت مهنة التمريض لا تليق إلا بالمستويات الاجتماعية الرقيقة الحال، باتت رعاية التمريض تقع على عاتق السيدات النبيلات، الأمر الذي رفع من المستوى الأخلاقي لهذه المهنة في عيون بقية أفراد وطبقات المجتمعات الأوروبية، وليس البريطانية أو الإيطالية فحسب.

على أن القدر كان يخبئ لنايتنغيل فرصة ذهبية، تظهر فيها قدراتها، وتتجلى من خلالها إمكانياتها، حتى ولو بعيداً من القارة الأوروبية بصورة أو بأخرى... ماذا عن تلك الفرصة؟

 

سيدة المصباح تضيء حرب القرم

بدت حرب القرم، الميدان الذهبي الذي ستتجلى فيه مواهب فلورنس نايتنغيل، حيث ستعرف باسم "سيدة المصباح".

حرب القرم هي الحرب التي قامت بين الإمبراطورية الروسية والدولة العثمانية في 4 أكتوبر (تشرين الأول) 1853، واستمرت حتى 1856، وفيها دخلت مصر وتونس وبريطانيا وفرنسا الحرب إلى جانب الدولة العثمانية في 1854، التي كان قد أصابها الضعف، ثم لحقتها مملكة سردينيا التي أصبحت في ما بعد مملكة إيطاليا عام 1861. وكان في مقدم أسبابها الأطماع الإقليمية لروسيا على حساب الدولة العثمانية بخاصة في شبه جزيرة القرم التي كانت مسرح المعارك والمواجهات، وانتهت حرب القرم في 30 مارس (آذار) 1856 بتوقيع اتفاقية باريس وهزيمة الروس.

مع احتدام المعارك، أعلنت الصحف عن حاجة الجرحى لمزيد من الإسعافات والتمريض من أجل تضميد الجروح، فأسرعت نايتنغيل إلى أرض المعركة تلبي نداء الواجب وتحقق الهدف الذي طالما سعت من أجله، وقد عملت على إدارة معسكر التمريض بمنتهى الجدية والحزم على رغم أنها لم تكمل عامها الرابع والثلاثين، أي أنها كانت تقوم بعمل يقوم عليه عدد من جنرالات الأطباء بلغة حاضرات أيامنا.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

استطاعت نايتنغيل من خلال كفاءتها الطبية هزيمة الموت داخل هذا المعسكر، فبعدما كانت نسبة الوفيات في تلك المعركة تتعدى الـ44 في المئة أصبحت بفضل مجهودات هذه الشابة 2 في المئة حتى أنه عند عودتها إلى إنجلترا أرسلت الملكة فيكتوريا ملكة بريطانيا تحية خاصة لها.

أظهرت نايتنغيل خلال وجودها في أرض المعركة شجاعة فائقة، ذلك أنها لم تكن تعمل في النهار فقط، بل في جنح الظلام لم تكن لتتوقف عن متابعة المرضى والجرحى، من خلال السعي الدؤوب حاملة مصباحها، ولهذا أطلقوا عليها لقب "سيدة المصباح".

حين انتهت الحرب وعادت فلورنس إلى بلادها، شعر والدها تجاهها بالقلق والخوف الشديدين، لا سيما أنها ستكون مطلوبة بل ومرغوبة في ميادين القتال، أي قتال تدخله الإمبراطورية البريطانية، ولهذا فقد عمل جاهداً على إبعادها عن هذه المهنة عن طريق إرسالها في رحلات إلى دول أوروبا والهند، غير أن ذلك لم يقطع حبال الود بينها وبين واجبها الإنساني، وبفضل العلاقات التي كونتها مع شخصيات سياسية وأصحاب مناصب مرموقة في المجتمع البريطاني، استطاعات أن تستكمل جهودها في مجال التمريض، كما قدر لها أن تؤهل سيدات لهذه المهنة بالمواصفات الطبية المطلوبة.

 

نايتنغيل من "سكوتاري" إلى بقية العالم

كانت خبرة نايتنغيل في مستشفى "سكوتاري" حيث ترأست مجموعة الممرضات اللواتي اعتنين بالجنود البريطانيين المصابين، دفعاً لها لبذل الجهود المطلوبة لرفع مستوى التمريض الذي كان في حالة بائسة.

حين وصلت نايتنغيل للمرة الأولى إلى المستشفى، صدمتها الحالة اليائسة للمرافق، ونتيجة لذلك فرضت معايير صارمة للرعاية والتأكد من أن الأجنحة نظيفة ومجهزة جيداً بالأغذية والإمدادات الطبية.

كانت تجارب نايتنغيل الناجحة في سكوتاري، مدخلاً للقيام بإصلاحات جوهرية في مجال الرعاية الصحية والتمريض، وفي عام 1860 افتتحت مدرسة نايتنغيل للتمريض في مستشفى "سانت توماس" في لندن، ودفع نجاح المدرسة إلى إنشاء مدارس تدريب مماثلة للممرضات في أماكن أخرى خاضعة للإمبراطورية البريطانية.

على سبيل المثال، من بين هذه المؤسسات كانت مدرسة التمريض في مستشفى سيدني، في أستراليا، التي افتتحت عام 1868.

ولأن النجاح معد كما يقال، فقد بلغت نجاحات نايتنغيل الجانب الآخر من الأطلسي، فتم افتتاح مدرسة في منطقة "بلفيو" في نيويورك على ساحل المحيط الأطلنطي، لتدريب الممرضات، وتم افتتاحها رسمياً عام 1873، وقد كانت أول مدرسة للتمريض في الولايات المتحدة الأميركية وقامت على مبادئ نايتنغيل.

ولعله من المثير أن دولاً في الشرق الآسيوي مثل الصين، التي كانت منغلقة على ذاتها بشكل كبير، وتعاني من الأنظمة الشمولية، فتحت أبوابها لنايتنغيل لافتتاح مدارس للتمريض، وهذا ما حدث بالفعل في مدينة فوتشو، حيت تأسست هناك مدرسة للتمريض شاركت في بداياتها الممرضة الأميركية إيلا جونسون التي يمكن اعتبارها تلميذة لنايتنغيل.

والشاهد أنه على رغم تميز نايتنغيل الواضح جداً بخدمة المرضى، ومداواة الجرحى، والاهتمام بالجانب المسمى "سايكوسوماتيك" أي النفس جسماني لدى المرضى في كافة الأماكن التي عملت بها، إلا أنها كانت من اهتم في شكل مبكر بأمر آخر له علاقة وثيقة بالمرضى وبالأمراض، وربما كانت هي صاحبة اختراع إدخال علم الإحصاء في عالم التمريض... ماذا عن هذا؟

 

سيدة علم الإحصاء في عالم التمريض

عرفت نايتنغيل بأنها سيدة الإصلاح في عالم التمريض، وهو إنجاز لم يكن أحد يتوقعه من النساء في ذلك الوقت، أي العصر الفيكتوري، غير أنها أبدعت كثيراً جداً في مجال آخر موصول بالمرضى والجرحى، لم يكن قائماً من قبل أن تشرع هي في وضع لبناته.

كانت أبرز أداة استخدمتها في عملية إصلاح المستشفيات هي تكريس المجال لعلم الإحصاء داخل المؤسسات الطبية الكبيرة.

والمعروف أن الإحصاءات تعتبر جزءاً من علوم الرياضيات حيث يتم جمع الأرقام المستنبطة من العالم الحقيقي ليتم تحليلها من أجل رؤية ما قد نتعلمه من ذلك.

كانت نايتنغيل مصدومة من الحالة التي وجدت عليها المستشفيات العسكرية في دول بعينها قامت بزيارتها مثل تركيا، حيث لم تكن هناك أغطية أو فراش أو أثاث أو متعهدي غذاء ولا أواني مطبخ.

كانت الفئران والبراغيث منتشرة في كل مكان، ولم تكن نايتنغيل سعيدة بالغياب الواضح للنظافة.

على رغم كل هذا، فإن استياءها الأكبر والأخطر تبدى من خلال غياب أية تسجيلات طبية منظمة، حتى أعداد الوفيات لم تكن دقيقة، فقد دفن المئات من الرجال ولم تسجل لهم أي معلومات.

هنا بدا واضحاً أن هذه الحال لم تتسق وتوجهات نايتنغيل، فعمدت من توها إلى تسجيل الأرقام والبيانات بشكل واضح وإحصائي، كما الحال مع أعداد الوفيات وأسبابها.

خلال رحلتها الإحصائية هذه، اكتشفت نايتنغيل الظروف الصحية التي قد تتسبب في أمراض مثل الكوليرا أو التيفوئيد، وكانت هذه بالفعل قد قتلت المئات من الجنود بأكثر مما قتلت الجروح الفعلية أثناء الحرب.

كانت النتائج الصادمة للإحصاءات التي تحصلت عليها من ميادين القتال، دافعاً لها لأن تطلق تعبيراً مثيراً وربما خطيراً في الوقت: "يتطوع جنودنا للموت في الثكنات".

بعد الحرب دأبت نايتنغيل على إقناع الناس بضرورة إحداث إصلاح على مستوى المستشفيات، باستخدام إحصاءاتها ومساعدة الرياضي الشهير وليام فار.

في ذلك الوقت كان النظر إلى الأرقام بهيئتها المجردة مسألة غير معهودة للعوام، ولهذا ابتكرت نايتنغيل طريقة عبقرية لشرح المعلومات الإحصائية أطلقت عليها "الرسم البياني للمنطقة القطبية"... ماذا عن هذا النموذج؟

باختصار غير مخل، يقسم الرسم البياني إلى 12 زاوية متساوية، حيث يمثل كل جزء شهراً من أشهر السنة، وكل لون يمثل سبباً للموت، والمنطقة الملونة قرب المركز، هي نسبة الجنود الذين توفوا لذلك السبب، فكلما كانت تلك المنطقة أوسع، كلما كان ذلك يعني جنوداً متوفين أكثر.

أما المنطقة الزرقاء الخارجية فتمثل الوفيات من الأمراض المعدية مثل الكوليرا والتيفوئيد، بينما الأجزاء الحمراء فتمثل الوفيات من الجروح، والأجزاء السوداء تمثل أسباباً عامة أخرى.

والثابت تاريخياً أن براعة نايتنغيل في عالم الإحصاءات، لم تجلب إصلاحاً للمستشفيات فحسب، بل نالت احترام علماء رياضيات آخرين. وقد كان لمساهمتها في هذا الموضوع عام 1858، أن رشحها ويليام فار، عالم الإحصاءات البريطاني الأشهر، لتكون أول امرأة منتخبة كزميلة في المجتمع الإحصائي لمدينة لندن.

وفي ذات السنة انتخبت للمجلس الإحصائي، وحصلت على عضوية شرفية أجنبية في الجمعية الأميركية الإحصائية عام 1874.

والثابت أنه بجانب هذا التفوق الخلاق في عالم الإحصاءات، قدمت نايتنغيل للتمريض نظرية رائدة أخرى، لا يزال معمولاً بها حتى الساعة.

 

المرضى... ونظرية البيئة المحيطة

لم تقدم نايتنغيل فقط نهجاً إصلاحياً في العملية التمريضية، ولا نموذجاً متقدماً في عالم الإحصاءات فحسب، بل أبدعت في نظرية جوهرية تربط بين ظروف المرضى والجرحى، وبين البيئة المحيطة بهم، والتي أدمجت عملية استعادة المرضى الذين يخضعون لرعاية الممرضات لحالتهم الصحية المعتادة أثناء تلقيهم الرعاية الصحية، ولا تزال تلك النظرية معمولاً بها حتى الوقت الحاضر.

ما الذي ذكرته نايتنغيل عن نظرية البيئة المحيطة، ضمن الكثير من كتبها ومنشوراتها؟

تقول إن التمريض يعد "عملية استثمار البيئة المحيطة للمريض، في مساعدته على التعافي، وتقتضي بأن يبادر الممرض بتهيئة بيئة محيطة مناسبة لكي يستعيد المريض صحته تدريجاً"، وكذلك تشير إلى أن العوامل الخارجية المرتبطة بالبيئة المحيطة بالمريض تؤثر في حياته أو حالته الحيوية أو الفسيولوجية وعلى تطور حالته الصحية أيضاً.

ما هي أركان البيئة التي تؤثر في الصحة بأثر إيجابي كما بلورتها نايتنغيل؟ تقدم لنا أربعة عوامل هي:

1 ـ الهواء النقي الخالص: وترى أن الحفاظ على الهواء الذي يتنفسه المريض أمر مهم للغاية، وينبغي أن تكون درجة نقاء الهواء مثل نظيرتها في الخارج، ومن دون أن يشعر المريض بالبرد.

2 ـ المياه النقية: هنا شرحت نايتنغيل العلاقة بين الأوبئة التي تظهر على البشر، وبين درجة نقاء المياه التي يشربونها، فإذا كانت من آبار ملوثة، فهذا معناه الإصابة المباشرة بالوباء.

3 ـ النظافة العامة: وتقطع بأن أهم جانب من جوانب التمريض هو الحفاظ على النظافة في كل المناحي التي تحيط بالمريض.

4 ـ الإضاءة: هنا تركز نايتنغيل على ضوء الشمس بنوع خاص، وترى أن فائدة الإضاءة في معالجة الأمراض أمر مهم للغاية، وأن أي نقص في واحد أو أكثر من هذه العوامل قد يؤدي إلى ضعف وظائف العمليات الحيوية أو تدهور الحالة الصحية للمريض.

والمقطوع به أن هذه العوامل أظهرت أهمية كبيرة في الزمن الذي عاشت فيه نايتنغيل، عندما كانت المؤسسات الصحية تفتقر إلى الصرف الصحي الجيد، كما عانى العاملون بمجال الصحة آنذاك من نقص التعليم والتدريب، حيث كان الكثير منهم غير كفء وغير معول عليهم في تلبية حاجات المرضى. ومن النقاظ البارزة في نظرية البيئة المحيطة هي توفير بيئة دافئة وهادئة أو خالية من الضوضاء، والعناية بحاجات المريض الغذائية عن طريق تقدير كمية الغذاء التي يتناولها المريض، وتسجيل أوقات تناول الطعام، وتقييم آثاره.

 

أيقونة شعبية في القارة الأوروبية

اعتبرت نايتنغيل أيقونة حقيقية لاقت الكثير جداً من التكريم طوال حياتها وبعد رحيلها.

تمثل التقدير الأولي لها بعد عودتها من حرب القرم، وكما أسلفنا من قبل الملكة فيكتوريا، المسماة جدة أوروبا، وصاحبة العصر الإمبراطوري.

في الوقت عينه ومن جراء إيمان البريطانيين بما فعلته وتفعله بعد حرب القرم مباشرة، وانطلاقاً من تقديرهم لجهودها، كان أن تبرعوا لها بمبلغ خمسين ألف جنيه استرليني، وهو مبلغ عظيم الشأن حينها، لإنشاء مدرسة "بيت نايتنغيل" لتعليم التمريض التابع لمستشفى "سان توماس"، وكانت هذه المرحلة هي بداية اعتبار التمريض مهنة، وهي أول مدرسة من نوعها عرفها التاريخ الإنساني المعاصر.

وتقديراً لمجهوداتها، أطلق اسمها على رموز ثقافية وشعبية عديدة في دول كثيرة، مثل المستشفيات، ونحتت لها التماثيل، وأنتجت أعمال درامية عنها، وصنعت دمى للأطفال تحمل اسمها.

اعتبرت نايتنغيل رمزاً إنسانياً ووجدانياً خلاقاً في ضمير الكثير من شعوب العالم، ففي عام 1915 أنتج أول فيلم صامت عن حياتها بعنوان "فلورنس نايتنغيل"، الذي أخرجه موريس إلفي، وشملت الأفلام الأخرى "السيدة مع المصباح"، من بطولة "آنا نيجل" عام 1951.

وفي عام 1985 صنع فيلم بعنوان "فلورنس نايتنغيل" بطولة النجمة تشارليز أنجلز، وجاكلين سميث، والممثل تيموثي دالتون.

كما أنتجت هوليوود في وقت مبكر، عام 1936، فيلماً عنوانه "ذا وايت أنجل" أو "الملاك الأبيض".

كانت فلورنس أول امرأة تظهر صورتها على إحدى الأوراق المالية النقدية في بريطانيا عام 1975، كما أصدرت هيئة البريد البريطانية طوابع تحمل صورتها وذلك للاحتفال بمرور 150 عاماً على مولدها.

ومن اهتمام البريطانيين بها، تم إنشاء متحف خاص بها يوجد حتى الآن داخل مستشفى "سانت توماس" بلندن، وهو عبارة عن مؤسسة خيرية مستقلة، يجمع التبرعات من أجل استمرار الرعاية الصحية الجيدة وإلهام الجيل القادم من العاملين في مجال الرعاية الصحية.

هذا المتحف هو المكان عينه الذي كانت فلورنس تقوم فيه بتدريب الممرضات بعد عودتها من حرب القرم، حيث يقدم القائمون عليه أكثر من 200 قصة تحكي عن نايتنغيل والبصمة التي تركتها في عالم التمريض على المستوي العالمي وليس المحلي البريطاني، أو الأوروبي فحسب.

توفيت نايتنغيل عن عمر 90 سنة يوم 13 أغسطس (آب) من عام 1910، بعد رحلة طويلة من العمل الإنساني في رعاية المرضى والجرحى وتخليداً لذكراها شيد لها تمثال في قصر واترلو في العاصمة البريطانية لندن.

ولعله من غير المعروف على نطاق واسع، أن تأسيس منظمة "الصليب الأحمر الدولي"، جاء بتأثير ما قدمته نايتنغيل كرائدة لعالم التمريض، بعد أن أعطت نموذجاً ملهماً للإنسانية بأفعالها الخالدة، حتى أن المنظمة أطلقت جائزة باسمها، تعد من أكثر الجوائز قيمة ويتم منحها في مجال التمريض، كل عامين.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات