Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

فيكتوريا... "جدة أوروبا" وصانعة إمبراطورية الإنجليز

اكتسب العصر الذي عاشت فيه اسمها وتعرضت لعدة محاولات اغتيال وربطتها صداقة مع خادمها الهندي المسلم عبدالكريم

فيكتوريا الجميلة التي أصبحت ملكة لبريطانيا في مطلع شبابها (الموسوعة البريطانية)

تبدو قصتها أسطورية بأكثر من أن تكون واقعية، على رغم حقيقة كل ما جاء فيها، إنها ابنة الثامنة عشرة، التي تعتلي العرش، بعد أن توفي أعمامها الثلاثة تاركين البلاد من غير ولي للعهد، وكان والدها ووالدتها قد توفيا من قبل.

الكثير من الأسئلة التاريخية طرحت بشأن الملكة فيكتوريا، وكيف أنها جمعت في شخصية واحدة، ما يمكن أن يكون من قبيل المتناقضات، فعلى سبيل المثال كانت شخصة قوية وصارمة مع من حولها، لكنها في الوقت عينه كانت أيضاً ناعمة ومحبة، بل عاطفية إلى أبعد حد.

ضربت فيكتوريا مثالاً رائعاً للأوروبيين، أوضحت من خلالها مدى قناعاتها بالأسرة كنقطة مركزية، فقد أخلصت لزوجها ألبرت أيما إخلاص، ورأت أنه واجب عليها أن تسعد زوجها قبل أي مهمة أخرى، وأن تمنحه أطفالاً، وباتت تعرف بأنها أم مثالية لتسعة أبناء اعتنت بتربيتهم شخصياً، على رغم وفاة زوجها في مرحلة مبكرة من حياتهما، وهو موقف غير اعتيادي في المجتمع الأرستقراطي آنذاك.

من هي تلك الملكة التي سمي العصر باسمها، "العصر الفيكتوري"، كيف وصلت إلى العرش، وكيف جعلت من بلادها إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس في ذلك الزمان؟

ماذا عن حياتها الخاصة، لا سيما رغبة أحد أهم رجالات القيصر الروسي الزواج منها، ثم ماذا عن خادمها المسلم عبدالكريم، وكيف ترك انطباعات في شخصيتها، على رغم رفض المجتمع الإنجليزي له؟

تبدو قصة الملكة فيكتوريا نوعاً من الأساطير الحقيقية إن جاز التعبير، لا سيما أنها عاشت ملكة طوال 64 عاماً.

فيكتوريا حفيدة الأسرة الهانوفرية

ولدت ألكسندرا فيكتوريا في الرابع والعشرين من مايو (أيار) عام 1819، وتوفيت في الثاني والعشرين من يناير (كانون الثاني) عام 1901، كانت ابنة للأمير إدوارد دوق كينت وستراثرن، الابن الرابع للملك جورج الثالث.

بدأت الحياة تظهر لها صعوبات غير متوقعة، وذلك عندما توفي والدها وجدها فيما كان لها من العمر عام واحد فتولت والدتها الألمانية الأصل فيكتوريا أميرة ساكس تربيتها.

تنتمي فيكتوريا إلى الأسرة الهانوفرية ذات الأصول الألمانية، وقد لعبت الأقدار دوراً في وصولها للعرش، ذلك بعد وفاة أعمامها الثلاثة الذين يكبرون والدها سناً تاركين العرش من دون وريث، ولهذا تسلمت مقاليد الحكم في عمر الثامنة عشرة وكان ذلك في عام 1837.

في مذكراتها نقرأ ما يشبه سناريوهات المسرحيات الشيكسبيرية بشأن وصولها للعرش، إذ تكتب قائلة: "أيقظتني أمي في السادسة صباحاً لتخبرني أن رئيس الأساقفة لكانتربري ولورد كونينغهام هنا ويرغبان في رؤيتي، فنهضت من سريري وذهبت لغرفة الجلوس وحدي ورأيتهما. عندها أخبرني لورد كونينغهام أن عمي المسكين أي الملك قد توفي في الثانية واثني عشرة دقيقة صباحاً، وتبعاً لذلك صرت أنا الملكة".

تم تحضير الأوراق الرسمية في اليوم الأول من حكمها تحت اسم ألكساندرا فيكتوريا، ولكن تم إسقاط الاسم الأول بحسب رغبتها ولم يستخدم ثانية.

في الثامن والعشرين من يونيو (حزيران) 1838 تم تتويج فيكتوريا، وأصبحت أول حاكمة تقيم في قصر باكنغهام، وقد حظيت بشعبية كبيرة في بداية حكمها، وإن كانت دسائس القصر والمكايدات السياسية قد تركت بعض التأثير عليها، الأمر الذي عجل من زواجها، حتى لا تضحى وحيدة في مواجهة أعمال السياسة وألاعيب السياسيين، لا سيما في دولة كبرى مثل بلادها.

تطلب الزواج من ألبرت ابن عمها

على غير المعهود في أن يقوم الرجل بطلب يد الفتاة لتضحى زوجته، تقص علينا الوقائع التاريخية أن فيكتوريا هي من طلبت يد ابن عمها الأمير ألبرت للزواج، وقد كان ذلك في 15 أكتوبر (تشرين الأول) من عام 1839، أي بعد عام واحد من جلوسها على العرش وقد كانت في ذلك الوقت في عمر السابعة عشرة.

مرة أخرى نعود إلى مذكراتها، حيث نجد كلمات عميقة تعبر عن صدق عاطفتها نحو ابن عمها ألبرت، وطهرانية هذه العلاقة التي سيقدر لها أن تكون مضرباً للمثل.

كتبت تقول: "تعانقنا عدة مرات، وقد كان طيباً وعطوفاً جداً، وقد شعرت حقاً أن تلك اللحظة هي أسعد لحظة في حياتي".

في فبراير (شباط) 1840 تزوجا في كنيسة "قصر سانت جيمس" في لندن، وقد كانت فيكتوريا وقتها غارقة في الحب، وقضت ليلتها بعد الزفاف تعاني من صداع شديد، ومع ذلك كتبت من جديد في مذكراتها ببهجة عارمة تعبر عن مشاعرها تقول: "لم أقض أبداً في حياتي أمسية أفضل من هذه. إن ألبرت هو أغلى وأعز شيء في حياتي، إن حبه الشديد وعاطفته أعطياني إحساساً صافياً بالحب والسعادة. لم أتخيل أنني سأشعر بذلك من قبل، حقاً كيف سأكون شاكرة بحق لحصولي على زوج كهذا. إنه يناديني بكلمات تقطر محبة، لم ينادني أحد من قبل هكذا. إنه حقاً أفضل يوم في حياتي".

على مدار السبعة عشر عاماً التالية، كانت فيكتوريا قد أنجبت تسعة أطفال في 14 ديسمبر (كانون الأول) 1861، توفي زوجها ألبرت عن عمر 42 سنة، بسبب حمى التيفوئيد.

وبحسب الوثائق الملكية التي نشرت على صفحات الإنترنت عام 2019، فقد كان الحدث جللاً وموجعاً لقلب فيكتوريا التي أحبت ألبرت ابن عمها من كل قلبها.

الوثائق المكتوبة بخط يدها قالت فيها: "عندما مات ألبرت، قبّلت جبهته العزيزة، وأطلقت صرخة مريرة مؤلمة وقلت: آه يا حبيبي الغالي، ثم سقطت على ركبتي في صمت شريدة الذهن يائسة، وغير قادرة على نطق كلمة أو ذرف دمعة".

ارتدت الملكة اللون الأسود لبقية حياتها حداداً على زوجها الراحل، كما أمضت السنوات العشر التالية لموت محبوبها في عزلة تامة، أكسبتها لقب "أرملة وندسور".

فضلت الملكة فيكتوريا إدارة شؤون بلادها من القصر الملكي، وامتنعت عن الظهور في الأماكن العامة، بخاصة بعد زيادة وزنها بشكل ملحوظ، وهي التي لم يزد طولها عن 150 سم.

تسببت تلك العزلة في تراجع شعبية الملكة، بل وتراجع شعبية النظام الملكي، في الوقت الذي نمت فيه الحركات الداعية إلى بناء نظام جمهوري، وانتشرت الاحتجاجات في أنحاء البلاد كافة.

وعلى خلفية تلك الأحداث، قررت الملكة العودة مجدداً إلى الفضاء العام، وعادت للتجول في أنحاء لندن بعربة مفتوحة، وصبت تركيزها على السياسة الخارجية فدخلت البلاد مرحلة من التوسع.

جدة أوروبا ومحاولات اغتيال متعددة

حكمت فيكتوريا طوال 64 عاماً، وبالتحديد 63 عاماً و7 أشهر ويومين، لتكون أطول الملوك حكماً في ذلك الوقت، قبل أن تحطم الملكة اليزابيث الثانية ذلك الرقم القياسي بفترة حكم امتدت 70 عاماً.

لقبت فيكتوريا بـ"جدة أوروبا"، إذ اتسعت رقعة الإمبراطورية في عهدها لتصل ذروتها، كما أطلق على فترة حكمها اسم "العصر الفيكتوري".

والثابت أنه على رغم صغر سنها، فإن فيكتوريا حين وصلت إلى العرش، كانت تمتلك إحساساً واعياً بالمسؤولية، ويظهر ذلك جلياً في مذكراتها التي كتبتها بعد فترة وجيزة من تسلمها التاج، إذ جاء فيها: "سأبذل قصارى جهدي للقيام بواجبي تجاه بلدي".

وورد في مذكراتها أيضاً: "لا أزال صغيرة في السن، وربما أكون عديمة الخبرة مقارنة بغيري، لكنني متأكدة من أنني أملك نوايا طيبة ورغبة حقيقية في تحقيق الأفضل لهذه البلاد".

بعد توليها العرش، أصبح رئيس الوزراء البريطاني اللورد ميلبورن مستشارها الموثوق وصديقها المقرب، وفي ظل حكمها بدأت فيكتوريا في كسب ود العامة وتعزيز تأييدهم للنظام الملكي، فدعمت الفنون والجمعيات الخيرية وناصرت التقدم الصناعي.

خلال فترة حكم فيكتوريا، احتل البريطانيون أراضي شاسعة حول العالم، لتشمل الإمبراطورية البريطانية في ذلك الوقت الهند وأستراليا وكندا ونيوزيلندا وجنوب أفريقيا، ومن ثم شملت مساحة الإمبراطورية خُمس مساحة اليابسة.

على أنه وعلى رغم تلك النجاحات الكبيرة، فإن حياة فيكتوريا تعرضت للخطر من خلال عدة محاولات اغتيال، قدر لها أن تنجو من جميعها.

ففي عام 1840 أطلق شاب يبلغ من العمر 18 سنة يدعى إدوارد أكسفورد رصاصتين على عربة الملكة الشابة في لندن، كما قام جون فرانسيس، بمحاولتين لإطلاق النار على الملكة في عربتها عام 1842، وفي العام نفسه حاول الشاب جون ويليام إطلاق النار عليها.

لاحقاً وقع هجومان آخران على عربات الملكة في عامي 1849 و1850، الأول من قبل الإيرلندي الغاضب، ويليام هاملتون، والثاني من قبل ضابط الجيش البريطاني السابق روبرت بات، الذي ضرب الملكة بالعصى.

وأخيراً، في مارس (آذار) 1882، أطلق شاعر اسكتلندي ساخط يدعى رودريك ماكلين النار على فيكتوريا من مسدس بينما كانت عربتها تغادر محطة قطار وندسور، وقد كانت هذه هي المحاولة السادسة لاغتيال الملكة، ووجد أنه مجنون وحكم عليه بالسجن المؤبد في مصحة، وفي أعقاب محاولة الاغتيال هذه ارتفعت شعبية فيكتوريا بين البريطانيين.

فيكتوريا وفرصة مصاهرة الروس

هل كاد التاريخ الأوراسي يتغير عبر مصاهرة بين ملكة بريطانيا وولي عهد روسيا الأمير ألكسندر؟

تبدأ القصة من عند ربيع عام 1839، وذلك عندما وصل إلى بلاط إنجلترا في حاشية كبيرة الغراندوق ألكسندر، ولي عهد روسيا ووارث تاج القياصرة، ضمن رحلة يطوف فيها أوروبا امتثالاً لرغبة والده القيصر، على أمل العثور على زوجة للأمير الشاب.

درجت الحياة في تلك الأزمنة على التصاهر بين الأسر الحاكمة في أوروبا، بهدف تمتين وتمكين المستقبل للأجيال القادمة في الحكم، فقد تزوج ملوك الفرنسيين من إمبراطورية النمسا، والبروسيين من الهولنديين، والإيطاليين من ممالك أوروبا الشمالية، وعليه فغالب الأمر أن القيصر الروسي كان يرغب في حدوث مصاهرة مع واحدة من عائلات الحكم الأوروبية الكبرى.

كان الغراندوق شاباً أشقر له عينان واسعتان شديدتا الزرقة، وعليه مظهر الرجولة الكاملة فوق ابتسامة ساحرة.

 كان يتكلم الإنجليزية والفرنسية بطلاقة، ويرقص رقصاً بديعاً، كما كان يجيد الحديث والمناقشة، ويتقن ركوب الخيل، ويحذق الصيد، ويؤمن بعظمته، ولكنه ينساها بسهولة.

كان عدد النساء اللاتي وقع عليهن نظره قليلاً جداً، كما كان عدد الفتيات اللواتي عرفهن أقل، ولذا كان فيه إغراء الشبان الذين لا يفكرون في الحب.

بحسب مرافقي ألكسندر، أبدى وريث العرش الروسي إعجاباً بالملكة الشابة فيكتوريا، التي تبادل معها أطراف الحوار أثناء الحفل الذي أقيم على شرفه.

من جهة ثانية، لاحظ المسؤولون والمحيطون بالملكة فيكتوريا وجود نوع من الصداقة والتقارب بين الملكة والأمير، ولهذا السبب اتجه المسؤولون البريطانيون حينها لاتخاذ الإجراءات اللازمة، لإبعاد فيكتوريا من محيط ألكسندر، ولهذا تم نقل الملكة إلى قصر وندسور، لتبقى بعيدة عن وريث عرش روسيا.

بدا واضحاً في تلك الفترة أن العلاقات الروسية - البريطانية، لم تكن في أفضل أحوالها، ولهذا تحدث المسؤولون البريطانيون في ما بينهم، عن ضرورة تجنب مثل هذه الزيجة التي قد تربطهم بعائلة رومانوف الحاكمة بروسيا.

قبل مغادرته لبريطانيا، التقى ألكسندر بالملكة فيكتوريا لآخر مرة وأقدم على مصافحتها وتوديعها، وبحسب عدد من مرافقي وريث عرش روسيا، كان ألكسندر حزيناً عند نهاية الزيارة.

هل انتهت إلى هنا قصة ملكة بريطانيا الشابة بوريث العرش الروسي الأمير ألكسندر؟

تبدو مصادفات التاريخ القدرية، جزءاً من ملحمة فيكتوريا الأسطورية، ذلك أنه بعد 35 سنة من تلك القصة، ذهلت الملكة فيكتوريا عند سماعها، برغبة ابنها الأمير ألفرد الزواج من ماريا ألكسندروفنا، ابنة قيصر روسيا ألكسندر الثاني الذي استلم عرش روسيا عام 1855 في خضم حرب القرم، وهو عينه الأمير ألكسندر الذي رفضت النخبة البريطانية زواجه من الملكة سابقاً.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ومرة أخرى يبدو الاختلاف بادياً بين فيكتوريا وألكسندر حول شروط الزفاف الذي تم بالفعل، لكن من غير مشاركة الملكة حفل عرس ابنها الذي أقيم في مدينة سان بطرسبرغ خلال شهر يناير (كانون الثاني) 1874.

لاحقاً ومع اندلاع الحرب الروسية- العثمانية ما بين عامي 1877 و1878، مثل زواج الأمير ألفريد من الأميرة الروسية ماريا عائقاً أمام السلطات البريطانية التي اتجهت حينها لتجنب الحرب ضد الإمبراطورية الروسية.

على أن بقية الذكريات الطيبة عند ألكسندر لدى فيكتوريا، قادت إلى محاولة تلطيف الأجواء، فبعد مضي أشهر على زفاف ابنته ماريا، أهدى القيصر الروسي ألكسندر الثاني للملكة فيكتوريا مزهرية عملاقة، مرفوقة بقاعدتها، بلغ وزنها حوالى 600 كلغ، واستغرقت صناعتها حوالى 18 شهراً، فوضعت الملكة تلك الهدية عند مدخل قصر ويندسور.

لاحقاً وخلال عام 1881، أصيبت الملكة فيكتوريا بصدمة عند سماعها بخبر اغتيال القيصر الروسي ألكسندر الثاني، فقد استهدف بالقنابل في سان بطرسبرغ من قبل المجموعة الثورية المعروفة باسم "نارودنايا فوليا".

ماذا أيضاً عن أهم القصص التي عاشتها فيكتوريا وتركت انطباعات واسعة عن عهدها؟

 فيكتوريا وخادمها المسلم عبد الكريم

لعل المجهول في هذه القصة أكثر كثيراً جداً من المعلوم، لا سيما أن الغموض لا يزال يخيم على تلك العلاقة، وهل كانت ضرباً من ضروب التلاقي الروحي والفكري، أم أن الأمر تجاوز ذلك إلى حد التعاطف الوجداني والإنساني، وصولاً إلى العاطفي.

تبدو القصة وكأنها نوع آخر من الأقدار التي واكبت مسيرة الملكة فيكتوريا، التي وضعت الفتى الهندي المسلم محمد عبدالكريم في طريقها.

ولد عبدالكريم في عام 1863، وكان والده يعمل مساعداً في مستشفى مع فرقة من سلاح الفرسان البريطاني، وقد حصل لاحقاً على وظيفة كاتب في سجن "أغرة".

من بين الأنشطة التي كانت تدور وراء جدران هذا السجن، مشغلاً للمنسوجات والسجاد، وقد اتفق أن يقام معرض في لندن لهذه المنتجات، وقد حظي بزيارة الملكة، بوصفها ملكة الهند، وهناك طلبت من مشرف السجن جون تايلر، تزويدها بخادمين هنديين يعملان لديها لمدة عام خلال اليوبيل الذهبي لحكمها، وقد كان عبدالكريم أحدهما.

مضت مسيرة الملكة مع عبدالكريم في مسارات متعددة، وبعضها مخفي حتى الساعة.

بدأ الشاب الذي لم يبلغ من العمر 24 سنة، في تدريس الملكة اللغة الأوردية، وفي عام 1888 أي بعد عام من وصوله، تمت ترقيته من قبل الملكة إلى منصب "موشي" للدلالة على دوره كمدرس شخصي، لكن محادثاتهما لم تقتصر على تعلم اللغة فحسب، بل تخطتها إلى الفلسفة والسياسة.

طوال عيش عبدالكريم مع الملكة، لمدة أربع عشرة سنة، بدت الملكة وكأنها مهتمة بشكل خاص بالفتى الهندي، إلى درجة أن عينته مسؤولا عن الخدم الهنود الآخرين، كما خصصت له غرفة في قلعة بالمورال في اسكتلندا.

ولعل أفضل من كتب عن هذه العلاقة، الكاتبة البريطانية شاراباني باسو في كتابها "فيكتوريا وعبدالكريم"، وهو الكتاب الذي يعرض للعلاقة القوية التي كانت تربط الملكة الشهيرة مع الفتى الهندي الوسيم الطويل القامة، المسلم الديانة.

تكشف المذكرات كيف أن الشاب عبدالكريم فكر في الاستقالة من وظيفته بعد وقت قصير من التحاقه بها لأنه كان يعتقد أنها وظيفة دنيا، لكن الملكة توسلت إليه كي يبقى قريباً منها.

نجح عبدالكريم في الخروج من دائرة الخدم إلى دائرة الحاشية المقربة من الملكة، وتكشف الكاتبة شاراباني كيف أن الخطابات التي كتبتها الملكة لعبدالكريم خلال السنوات التي عاشها في بريطانيا وحتى وفاتها عام 1901، تؤكد عمق علاقتها مع عبدالكريم، حيث كانت تلك الخطابات تحمل توقيعات مثل "أمك المحبة"، و"أقرب صديقة لك".

وقد بلغ نفوذ عبدالكريم في حياة الملكة فيكتوريا حداً جعلها توصي بمنحه شرف المشاركة ضمن صفوف النبلاء وكبار رجال الدولة في مراسم دفنها في قلعة وندسور.

وخلال فترة خدمة عبدالكريم، منحته الملكة فيكتوريا عديداً من الأوسمة والنياشين، وبخاصة لخدمته أثناء زياراتها لعواصم أوروبا ولقاءاتها مع الملوك والرؤساء.

على أن علامة الاستفهام التي لا تزال دائرة وحائرة: هل كان لعبدالكريم الذي أسمع فيكتوريا القرآن الكريم، وعلمها بعضاً من اللغة العربية، تأثير ما على توجهاتها الروحية؟

مهما يكن من أمر الجواب الذي تدور من حوله جدالات واسعة حتى الساعة، فإن الشاب الهندي المسلم، كان يجلس في مركز دائرة النفوذ والتحكم في رأس الإمبراطورية، في الوقت الذي بلغت فيه أوج مجدها.

على أن النهاية جاءت كاشفة عن الأحقاد العنصرية التي خيمت فوق رأس عبدالكريم. ذلك أنه لم يكن أدل على كراهية دوائر الحكم لعبدالكريم من أنه بعد ما لا يزيد على بضع ساعات من جنازة الملكة فيكتوريا، كان من أوائل القرارات التي اتخذها ابنها إدوارد، طرد عبدالكريم وإنهاء خدمته بصورة مهينة.

الوداع بالثوب الأبيض وحجاب الرأس

كان من العسير جداً على البريطانيين وبقية أرجاء الإمبراطورية تقبل فكرة وفاة الملكة، جدة أوروبا، لا سيما أن بقاءها فوق العرش 64 عاماً، يعني أن أجيالاً ولدت ونشأت وتزوجت وأنجبت، وهي لا تعرف لها ملكة سواها.

ولأنها أسطورية الملامح والمعالم، فقد رتبت بالفعل لجنازتها في وصيتها، إذ أوصت بأن تقام لها جنازة عسكرية مهيبة، وهذا ما حدث بالفعل يوم 25 يناير (كانون الثاني) عام 1901، حيث رفع نعش فيكتوريا من قبل ابنيها الأميرين أرثر وإدوارد السابع، الذي شغل منصب الملك من بعدها، وحفيدها إمبراطور ألمانيا فيلهلم الثاني.

هل كانت وفاة فيكتوريا موعداً لمصالحتها مع الحياة؟

المعروف أنها ظلت في حالة حزن وحداد على زوجها ألبرت طوال أربعين عاماً تقريباً، ولم تغير الثوب الأسود طوال حياتها، غير أنها أوصت بأن تدفن في ثوب أبيض شبيه بثوب زفافها، بل ووضعت على رأسها الحجاب الذي ارتدته يوم زفافها.

سابقاً كانت فيكتوريا قد طلبت من أطبائها أن توضع بجوارها صور تذكارية لعائلتها الموسعة وأصدقائها وخدمها، وفي يوم 2 شباط (فبراير) 1901، عرض جثمانها لإلقاء نظرة الوداع الأخيرة، وأجريت الطقوس الجنائزية في كنيسة القديس جورج بقلعة وندسور قبل أن تدفن الملكة فيكتوريا بجوار زوجها الأمير ألبرت.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات