إن من أهم الأخطار العدوانية، التي امتدّت واستفحلت داخل البلدان العربية، وأثرت على أمنها القومي واستقرارها السياسي ونسيجها الاجتماعي، هو النظام الإيراني المتستر برداء الإسلام، وما حققه من خراب ودمار في العراق وسوريا واليمن، ما زال أتونه مستمراً ليومنا هذا، علاوة على نفوذه القوي في لبنان من خلال دعمه لـ"حزب الله"، وكذلك خلاياه المنتشرة في المشرق العربي ومغربه. إذ وظف فكرة وحدة المذهب توظيفاً خبيثاً مسموماً، يهدف من خلاله إلى تجريد العربي الشيعي من هويته الوطنية، وانتمائه القومي ليكون تابعاً منقاداً إلى الملالي الحاكمة في إيران، في الوقت الذي يبقى فيه الفارسيّ معتزاً بقوميته، ومدافعاً عن هويته الوطنية. وهذا النهج كانت عليه الدولة الصفوية (1501– 1722)، التي أحياها الخميني (1902– 1989) بصيغة الإسلام السياسي عبر نظرية الوليّ الفقيه.
إن الأمن القومي العربي بالقدر الذي يتطلب وضع الدراسات والبحوث، التي تزيد في تمتين الأُسس العربية، وتقوية النظرات والمخططات الاستراتيجية، لكي يأخذ النظام الرسمي العربي ثقله ومكانته إقليمياً ودولياً، فإن دراسة السياسات المعادية للبلدان العربية هي جزء رئيس ضمن مقتضيات الأمن القومي. ولذلك سنقتصر في هذه الدراسة على الجانب الإيراني في سياسته صفويّة النهج والعقيدة والتفكير، إذ إن مشروعه السياسي السلبي تمدد في أكثر من بلد عربي، العراق وسوريا واليمن ولبنان، وكل ذلك يجري وفق رؤية صفوية تهدف إلى تدمير الأطر الاجتماعية، وتفكيك الوحدة الوطنية، وبعثرة الهوية القومية داخل كل بلد من البلدان العربية.
ولكي نعمل على مواجهة هذا المشروع الإيراني وجذوره التاريخية، علينا أن نسبر غور ركائز تنظيراته العقائدية والفكرية، التي مهّدت له تدخلاته العملية، ومن خلال هذا النهج التحليلي نستطيع، كوننا باحثين، الإسهام في مساعدة السياسيين والأمنيين على مجابهة توغل وتمدد "الصفوية الجديدة". فما يتم الكشف عنه علناً، يقود بالضرورة إلى الكشف عما يكون سراً.
نبذة تاريخية عن الصفوية
يَرجعُ اسمُ الصفوية نسبة إلى الشيخ صفي الدين إسحاق بن جبريل الأردبيلي (650- 735هـ، 1252- 1334م)، الذي كان صوفياً شافعياً، نال علومه الدينية والعقلية في موطنه أذربيجان، ثم تنقل في عدة مُدن، منها شيراز وكيلان وأردبيل وغيرها. وتتضارب المصادر في حقيقة نسبه، بعضها يشير إلى أنه من أصل فارسي، والبعض الآخر ينصّ على أنه كردي أو تركماني، وهناك من يقول إنه عربي وينسبه إلى الإمام موسى الكاظم. وبما أن صفي الدين، مثل الفارابي الذي لم يفصح عن نسبه صراحةً إن كان تركمانياً أو فارسياً، لذلك من الصعوبة على الباحث أن يجزم في أصله، لكن من المشكوك فيه أن يصل نسبه إلى آل بيت النبوة، وعلى الأرجح أنه كان كرديّ الأصل، لأن أغلب الأكراد يتبعون المذهب الشافعي.
على أي حال، دخل صفي الدين في مجموعة الصوفي الشيعي الشيخ زاهد الكيلاني، ثم تزوج ابنة شيخ الطريقة الزاهدية. وبعد وفاة الشيخ زاهد، تزعم الشيخ صفي الدين المجموعة، وفي أردبيل أخذ بالتدريج يجري فيها التغييرات في المفاهيم والأفكار والتصورات، إذ حوّلها من حركة صوفية اجتماعية إلى حركة دينية سياسية، وكان ذلك في العام 699 هـ- 1299م، وأسماها "الإخوان"؛ ثم زجّ بحركته الجديدة هذه، في معترك الصراعات السياسية منذ العام 1301، سيّما وأن الشيخ صفي الدين كانت له حظوة عند رشيد الدين وزير الإليخان المغولي في بلاد فارس.
واستطاع الشيخ علي بن موسى (-830 هـ، -1426م)، حفيد صفي الدين، أن يحوّل الصفوية نحو الإمامية، المذهب الشيعي الاثنا عشري. خصوصاً وأنه كان مقرباً من تيمورلنك (1370- 1405)، الذي كان شيعياً متعصباً ومحارباً ضد السُّنة. ومن هنا بدأت بعض التعاليم والأفكار المغولية تدخل في مكونات التشيع الصفوي، ومنها النزعة الدموية في قتل وإبادة المسلمين السُّنة. فالمغول والتركمان اعتنقوا الإسلام ظاهرياً لا عقائدياً، لذلك كانوا تحت تأثير كتابهم "قانون الياسا"، مجموعة تعاليم وثنية وضعها جنكيز خان (1165–1227).
عموماً، كان الشيخ "علي" على وئام تام مع تيمورلنك، حتى أن الأخير جعل مدينة أردبيل وقفاً لـ"علي" وخلفائه الصفويين من بعده. واستمر "علي" في المشيخة مدة 36 سنة، حتى وفاته في فلسطين، ودُفن في مدينة يافا. وبما أن الأجواء السياسية في فارس كانت تعاني من التناحر والفوضى أواخر القرن التاسع الهجري- القرن الخامس عشر الميلادي، لذلك استغل الصفويون هذا الوضع المضطرب، فأسّسوا إمارة لهم بمدينة أردبيل قرب بحر قزوين في العام 1499. وكان جلّ أفراد جيش هذه الإمارة من قبائل التركمان في أذربيجان وشرقي الأناضول بتركيا، وكانوا يُعرفون باسم "قزيل باش"، أي ذوي الطرابيش الحمراء، وكانت طرابيشهم تتكون من اثنتي عشرة خصلة، كعلامة على مذهبهم الجديد.
وبعد فترة من الشدّ والجذب، تنامت قوة الصفويين العسكرية بشكل أكبر وأوسع، وضمّت إليها العديد من المناطق حول أردبيل، فصاروا يشكلون تحدياً بارزاً للسلطة الحاكمة وقتذاك، وهي دولة الخروف الأسود "قرا قوينلو"، التي كانت في نزاع متواصل مع سلطة الخروف الأبيض "آق قوينلو"، إذ كلاهما كانا من القبائل التركمانية، التي تصارعت على حُكم بلاد فارس. وفي العام 1501، بمعركة شهرور، دحر أنصار إسماعيل الأول (892- 930 هـ، 1487- 1524م) سلطة الخروف الأسود، واستولوا على تبريز، ونصّبوه ملِكاً عليهم؛ وكان عمره ثلاثة عشر عاماً، وهو الحفيد الخامس للشيخ صفي الدين، والأول في سلالة ملوك الدولة الصفوية الذين حوّلوا اسم فارس إلى إيران (تعني: أرض الآريين)، للتأكيد على أصل العنصر الآري.
ومن خلال حُكم إسماعيل الصفوي، فُرض المذهب الإمامي الاثنا عشري بالإكراه العنيف في العام 1507. إذ "جعل إسماعيل من الإسلام الشيعي إجبارياً، فيما كان علماء السُّنة يواجهون القتل أو النفي". (التاريخ العسكري لإيران، ص 43، 2009)، طبعة بالإنجليزية.
علاوة على أن "الصفوية ترأست إدماج المذهب الشيعي بالوعي الوطني الإيراني، ومن هذا الدمج حقق الصفويون مكانة عظيمة الأهمية في الدولة والحكم الملكي. وطوال العهد الصفوي كان الإسلام الشيعي مدعوماً من الدولة، والدولة داعمة له". (استمرار الإسلام والتغيير في العالم الحديث، ص 80، 1994)، طبعة بالإنجليزية.
وفي هذا الصدد أيضاً، يرى علي شريعتي (1933-1977) أن الدولة الصفوية عملت على مزج القومية الفارسية بالمذهب الشيعي، وخرجت من هذا المزج بهوية إيرانية يتقدم فيها الأعجمي على العربي. (التشيع العلوي والتشيع الصفوي، 2007).
لماذا دموية فرض التشيع الصفوي؟
إن استخدام السياسة الطائفية القائمة على دموية البطش والقتل والتنكيل بحق المسلمين السُّنة، لا تنم عن محبة "آل البيت" قط، ولا إثبات الولاء الصارم لهم؛ وإلا لكان هذا النهج مُتبعاً في سياسات وسلوكيات أئمة آل البيت أنفسهم، لكنه التشيع الصفوي المترسبة فيه تعاليم وثنية، ومتستراً بالمذهب الديني في الإسلام لتحقيق غايات ومآرب سلطوية، منها:
1- إقامة نظام سياسي شيعي في مجابهة الدولة العثمانية السُّنية.
2- خلق قاعدة جماهيرية وشعبية مرتبطة بسياسة الدولة عقائدياً.
3- عزل الشيعة إسلامياً بإشاعة السبّ والشتم واللعن لأصحاب النبي وزوجاته.
4- القضاء على المحيط السُّني بدعوى أحقية السلطة لشيعة آل البيت.
5- التعاون مع الغرب المسيحي على الضد من الشرق الإسلامي.
6- تغليف العنصرية الشعوبية الفارسية بغطاء مذهبي طائفي.
وهكذا كان الصفويون يسفكون دماء المسلمين السُّنة بحجة "ثارات الحسين" و"الولاء لآل البيت" وزرع الفتن والضغائن وغيرها من الانحرافات والضلالات، التي لا تمتّ بصلة إلى حقيقة الإسلام ومذاهبه الصحيحة. وحسب ادّعاء إسماعيل الصفوي عن المجازر، التي كان يرتكبها باسم التشيع، فإنه رأى في المنام الإمام علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، وأخبره أن "لا تدع القلق يشوش أفكارك، احضر القزلباشية مع أسلحتهم الكاملة إلى المسجد في تبريز، وأمرهم أن يُحاصروا الناس، وإذا أبدى هؤلاء أية معارضة أثناء الخطبة باسم أهل البيت، فإن الجنود ينهون الأمر". ففعل إسماعيل في أول صلاة جمعة يفرض فيها المذهب الشيعي، بتحويل مسجد تبريز إلى حمّام دم ساخن.
الواقع إن الإمام علي لم يُقدِم على هذا الفعل الشنيع في سنوات خلافته (37-41 هـ)، ولم يفعلها أحد من أولاده ولا أحفاده من أئمة أهل البيت، رضي الله عنهم أجمعين، فكيف لرؤية منامية يزعم فيها إسماعيل لنفسه صلاحية تطبيق التشيع بقطع رؤوس المسلمين السُّنة؟ إنه التشيع الصفوي القائم على المزاعم الكاذبة، والتدليس والتزييف للحقائق من أجل إخضاع المسلمين للسطوة والتسلط الصفوي.
وفق تصور إسماعيل أيضاً، فإن الإقدام على هذه الأفعال الدموية الإجرامية لكي يُحرر الشيعة من فكرة "التقية" من ناحية، ومن ناحية أخرى، أن يتركوا مسألة الاعتماد على ظهور الإمام "المهدي المنتظر"، التي جمّدت الجهاد والقتال المسلح ضد السلطة السُّنية. وبذلك كان إسماعيل بالقدر الذي يتميز بالتعصب الطائفي الشديد، كان دموياً رهيباً، وبالأخص تجاه العرب المسلمين بحجة أن غالبيتهم من أهل السُّنة.
وبعد سنة من فرض التشيع الصفوي ضد المذهبين الشافعي والحنفي داخل إيران، وما صاحبها من مجازر مروعة بحق الرافضين، توجه إسماعيل نحو بغداد في العام 914 هـ- 1508م، وفعل بأهلها القتل والنهب والتدمير، بشكل لم يفعله حتى المغول التتار؛ إذ نبش القبور وأحرق عظام الموتى، وهدم المساجد ونكّل بالأضرحة، منها الإمام أبو حنيفة والشيخ عبد القادر الكيلاني، وأعدم بطريقة شنيعة كل مَنْ ينتسب إلى ذرية خالد بن الوليد.
كانت دموية إسماعيل الصفوي تعبيراً جلياً عن الحقد الدفين للشعوبية الإيرانية تجاه العرب، بغض النظر عن دينهم ومذهبهم. وإلا ما معنى التخريب الذي طال مقام الشيخ عبد القادر الكيلاني وهو حفيد الإمام الحسن بن علي، رضي الله عنهم، ولماذا التصفية الجسدية لذرية خالد بن الوليد؟ والنقطة الأخيرة، تتجاوز حدود الواقعة زمانياً ومكانياً، لتؤشر إلى وجود عيون صفوية سرية تعيش بين ظهرانينا، فقد رصدت وسجلت الأسماء والأماكن لأحفاد خالد، ومكنت إسماعيل من تنفيذ الإعدام الجماعي فيهم.
لقد وصلت إهانة إسماعيل الصفوي المتعمدة بإذلال العرب، والحط من أمجادهم في التاريخ الإسلامي، أن نصّبَ خادمه "خادم بيك" والياً على بغداد، وأطلق عليه لقب "خليفة الخلفاء". وعلى الرغم من أن هذا التنصيب ينمّ عن تهكم واحتقار واضح، وانحراف عن خط الإمامية نحو تشيّع صفوي فاضح، يسيء إلى منزلة وخلافة الإمام الأول عندهم علي بن أبي طالب. إلا أنه يكشف أيضاً عن حقيقة التمويه بوحدة المذهب لأهداف سياسية ولغايات فكرية تعكس العقيدة الصفوية المتصلة بالنزعة الشعوبية الفارسية.