Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ديمة عبد الله: الأب والوطن يسقطان معا

"أعشاب ضارّة" تروي بالفرنسية غربة الإبنة في عالم تنهار أوهامه ومثالياته

الروائية الفرنكوفونية ديمة عبدالله في باريس (صفحة الكاتبة - فيسبوك)

ملخص

"أعشاب ضارّة" تروي بالفرنسية غربة الابنة في عالم تنهار أوهامه ومثالياته

بعد النجاح الذي حققته رواية "أعشاب ضارة" الصادرة بالفرنسية للكاتبة ديمة عبدالله، في فرنسا ونيلها جوائز عدة، صدرت ترجمتها العربية عن دار الآداب، متيحة للقراء العرب فرصة الاطلاع على هذه الرواية المتفردة بعالمها وعلاقاته، لا سيما أن ديمة هي ابنة الروائية هدى بركات والشاعر محمد عبدالله.

لطالما شغلت العلاقة بالأب، الأدباء والروائيين، فظهرت صورة الأب في أدب بعضهم مهشمة صاعقة قاسية، بينما ظهرت في أدب بعضهم الآخر هادئة طيبة وأليفة. وقد عالج كثير من العلماء النفسانيين والمفكرين مسألة الأب وأهمية وجوده ودوره في طفولة الأبناء لينموا ويكبروا ويصبحوا أشخاصاً راشدين متوازنين. من هؤلاء تظهر طبعاً نظرية سيغموند فرويد (1856-1939) الذي ركز كبير تركيز على طفولة المرء وعلى ذكرياته وعلى علاقته بوالده في عملية تكوين الشخصية.

وبينما يبدو قتل الوالد ضرورة ليكبر الأبناء، بحسب رمزية أوديب الشخصية الإغريقية، يتحول موت الأب في حالات كثيرة، أو بمعنى آخر يتحول سقوط صورته وجبروته، إلى خسارة كبيرة لا تُعوض، تترك مكانها فراغاً عاطفياً ونفسياً.

هذه هي حال الكاتبة اللبنانية الفرنسية ديمة عبدالله، ابنة الشاعر اللبناني محمد عبدالله (1946- 2016) والروائية اللبنانية المقيمة في فرنسا هدى بركات الحائزة جوائز عدة من العالم العربي والغرب. إن خسارة الأب لا تُعوض، فكيف إن كان الأب شاعراً مرهفاً تراه ابنته "مارداً" حامياً قوياً جباراً؟ تكتب ديمة عبدالله في الصفحات الأولى من روايتها "أعشاب ضارة" التي ترجمها حديثاً هيثم الأمين عن الفرنسية: "حين أكون بصحبة ماردي، لا أنظر إلى المشهد، وأقضي وقتي في النظر إليه هو(...) ما فيه مختلف، كما لو كان فريداً مختلفاً عما عند الآخرين من نور، كما لو كان أكثر بريقاً؛ فهو شيء يجذب العين، ولا تستطيع رفع النظر عنه. (...) وأظن أن المارد لديه سلطة خارقة، شيء مغناطيسي يجتذب كل ما من حوله".

بين الأب والحرب

تجسد ديمة عبدالله في روايتها الأولى هذه التي صدرت في فرنسا عام 2020، علاقتها بوالدها قبل انتقالها للعيش في فرنسا وهي في الثانية عشرة من عمرها، هرباً من الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990). ثم تجسد في سردها تطور أوجه هذه العلاقة مع هجرتها مع والدتها وشقيقها إلى فرنسا وابتعادها عن والدها، وكيف بدأت حاله تتدهور بتدهور حال الوطن. وبينما يربط معظم الأدباء الوطن أو الأرض بالأم، يصبح الأب لدى ديمة عبدالله هو الوطن وهو مسقط الرأس وهو لبنان.

وفي مقابلة أجريناها معها، تقول ديمة عبدالله في هذا الشأن: "الأب هو الوطن، وعندما يتدهور الوطن يتدهور الأب، فتكون الرحلة نحو السقوط هي رحلة واحدة للاثنين. الأب والوطن هما واحد وعلاقتهما حميمة جداً، فالأب هو الذي لم يترك وطنه وظل متعلقاً به، بجسده وبروحه وبكل ما فيه. خلق سقوط الوطن والأب نوعاً من الشعور بالخذلان لدى الابنة، لتتحول الابنة إلى أم. عندها تنقلب قوانين العلاقة وتصبح الابنة هي التي تقلق وهي التي تساند وهي التي تشعر بألم الأب وتحاول أن تحميه. تشعر الابنة أن الأب تركها فعلياً بسقوطه وليس عندما غادرته وغادرت الوطن".

تختم ديمة عبدالله روايتها بقصيدة لوالدها ترجمتها من العربية، وتقول حول هذا الخيار: "أردت أن أعطيه الكلمة الأخيرة فاخترت قصيدة من قصائده أختم بها نصي. يعكس هذا الخيار محورية العلاقة بالأب ووجودها في صلب نصي. تبدأ الرواية بقصة الحب بين الأب وابنته وتنتهي بها".

إنما على رغم ما في النص من عناصر ذاتية، ترفض ديمة عبدالله أن تسمي روايتها هذه سيرة ذاتية، فتقول: "هذا النص وإن كان يحتوي على عناصر كثيرة من سيرتي الذاتية، فهو بعيد من الواقع ومن الحقيقة بتفاصيلها. هناك الكثير من المتخيل بخاصة في ما يتعلق بصورة الأب. هذا النص هو رواية قبل كل شيء، على ما فيه من بذور واقعية. تفاصيل علاقة الراوية بوالدها فيها من علاقتي بوالدي ومن المتخيل أيضاً، فأطول فترة من حياتي لم أمضها مع والدي".

تتدهور العلاقة بالأب تماماً كما تتدهور علاقة الأب بالوطن وتماماً كما يتدهور الوطن نفسه. لتكون بذلك حركة الرواية هابطة مع اقتسام السرد ما بين الأب وابنته، فعشرة فصول تسردها الراوية الابنة بينما تترك سبعة فصول ليسردها الأب بلسانه لتكون ثنائية الأصوات السردية دليلاً آخر على قوة العلاقة بين الابنة وأبيها وصلابتها هي التي تختار أن يتقاسم الاثنان زمام السرد.

وتتحدث ديمة عبدالله عن أثر والدها الشاعر محمد عبدالله عليها صغيرة فتقول: "أثر والدي كثيراً على علاقتي بالأدب. الكتاب عموماً والشعراء على وجه الخصوص ينقلون حبهم للكتابة لكنهم أيضاً ينقلون نظرتهم إلى الحياة. الفنانون والشعراء يملكون نظرة خاصة ومميزة للعالم وهذه النظرة إلى الحياة وإلى شاعرية التفاصيل هي ما ينقلونه إلى المحيطين بهم وهو ما نقله لي والدي". وتضيف قائلة عن عملية الكتابة في ظل اسمين لامعين في عالم الأدب العربي: "دخل طيف أبي الشاعر وأمي الروائية في لا وعيي طبعاً لكنني عندما كتبتُ هذه الرواية لم أفكر بهذه الأمور كلها. نشأت على حب الأدب وحب الشعر وفي إعجاب وفخر تجاه والدي الاثنين وهذا ما أدى دوراً أساسياً في كتابتي فالكتابة تدخل في جيناتي من دون شك. إنما لا يمكنني أن أتحدث عن أثر سلبي أو ضغوطات. صحيح أنه ليس من السهل أن أكتب في ظلهما لكنني لم أقارن نفسي بهما وبكتاباتهما في أي لحظة من الكتابة. أرى أن الكتابة مساحة شخصية وفردية وحميمة ولا يمكن أن يدخلها أحد ولا حتى الأم والأب اللذين، في حالتي، يكتبان هما أيضاً".

أما عن الخيار المقصود والمراد في تغييب الوالدة الروائية والشقيق الذي يهاجر هو الآخر إلى جانب الروائية البطلة فتقول ديمة عبدالله: "غياب الأم كان قراراً واعياً ومقصوداً. والشقيق أيضاً مغيب، فهما ليسا محور كلامي. هذا العمل ليس قصة حياتي ولا قصة عائلتي، هو قصة حب بين أب وابنته والعلاقة القائمة بينهما على امتداد أربعين عاماً وهو قرار مقصود ومراد ولا علاقة له بمشاعري تجاه أفراد عائلتي. أردت لهذا النص أن يكون كعدسة كاميرا تكبر العلاقة بالأب وتركز عليها وحدها. أنا في نصي لا أتحدث عن أمي ولا عن شقيقي، حتى الحرب لا أسردها في أي موضع من الرواية لأنها ليست الهدف بل الخلفية والسياق". وغياب الأم غياب واضح في النص، فهي لا تظهر للمرة الأولى سوى بسطر واحد في الصفحة 32 ثم في الصفحتين 62 و63 ثم في مرات قليلة تالية بين الصفحات 64 و67 و70 وهو ما يجسد تعمد الكاتبة التركيز على العلاقة بالأب وحدها.

 النباتات والعزلة

إلى جانب العلاقة الجوهرية بالأب، تظهر في النص علاقة واضحة ومحورية بالنباتات، وهو ما يظهر جلياً منذ العنوان ثم منذ صفحات السرد الأولى لدرجة أن الروائية تقول في موضع من السرد: "ملامسة النبات تساعدني أحياناً على التنفس." (ص155).

وتقول الكاتبة عن ترجمة النص من الفرنسية واختيار العنوان المتعلق بالنباتات: "كانت الترجمة مسألة مراجعة سريعة للنص بالعربية فأنا أملك ثقة عمياء بالمترجم هيثم الأمين، وحده العنوان أصريت على أن يكون "أعشاب ضارة" على رغم اعتراض المترجم الذي وجد في كلمة "ضارة" دلالات سلبية، لكنني وجدت أنه كان لا بد من أن يكون المعنى مطابقاً للمعنى التي يؤديه العنوان بالفرنسية".

أما في معاني العنوان" الأعشاب الضارة"، فيرد في الرواية شرح لاختيار هذا العنوان، فتقول الراوية عن الأعشاب الضارة بأنها الأعشاب: "التي نقتلعها من جذورها بلا هوادة، لأنها تنبت في غير مكانها وفي غير زمانها، ولكنها تتكاثر هناك، لأنها تتفتح على أرض ليست لها، وتتشبث بالحياة في الأماكن الأكثر عدائية لها". (ص95).

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويبدو من السرد أن الأعشاب الضارة إنما هي كناية عن الأب وابنته اللذين لا يجدان مكانهما في هذا العالم الهابط، فتقول الراوية عن نفسها: "أرى نفسي وأنا أرجح أنني لست طبيعية، وأن المشكلة ليست فيهم بل في. هكذا أنا، إنها ليست خطيئة أحد، وليس أمامي شيء أفعله سوى النسيان. ونظراً لأن عدد المتشابهين كثير، فلا بد من أن يكونوا هم الطبيعيين وأنا الغريبة الأطوار". (ص33)؛ وكأن ذلك لا يكفي، تضيف: "ما إن أرى ولداً لا أعرفه يقترب مني حتى أشعر بغصتي يتضاعف حجمها في حلقي، فأحاول أن أبدو وكأنني مشغولة فلا أراه، وأدعو السماء والأرض كي يجعلاه يمضي في سبيله" (ص40).

وتعلق ديمة عبدالله على خيار العنوان وعلى معنى "الأعشاب الضارة" قائلة: "الأعشاب الضارة هي طبعاً الأب وابنته. فهما غريبان عن العالم الذي ينموان فيه. هما مختلفان عن كل المحيطين بهما وهو ما يخلق لديهما شعوراً بالوحشة. والأعشاب هي نوع من معجم خاص بين الأب وابنته وكأن هذا الموضوع هو لغة التواصل بينهما، فهما لا يجيدان الكلام مع بعضهما فيأتي موضوع النباتات الذي فيه ما فيه من شاعرية وجمالية ليكون الكلام الوحيد الذي يستطيعان التحدث به بين بعضهما. هناك شعور بالوحدة لدى الاثنين، هي وحدة تجمعها وتقربهما من بعضهما".

في هذا السياق، يلاحظ القارئ تكراراً واضحاً لصورة اليد في كلام الراوية وكلام أبيها وذلك منذ السطر الأول للرواية. فتكون اليد موجودة دوماً في السرد وفي العلاقة بين الأب وابنته، فهذه اليد هي التي تمسك بها الابنة لتحتمي من الناس ومن الحرب، وهي اليد التي تمسك بالقلم لتكتب، وهي اليد التي تمسك بالماء والنبات لتزرع، وهي اليد التي توضب الحقيبة لتساعد الابنة على الهرب من جحيم الحرب. تبدو اليد هي الواسطة بين الأب وابنته وهي التي تخلق هوامش لقاء كالكتابة والنبات والوطن.

 المنفى والوطن

يكتب الأب الذي يبقى في أرض الوطن: "لم يبقَ شيء. كل شيء مات. لم يبقَ أدنى فتاتة من كل ما كان. تفكك كل شيء قطعة بعد قطعة، احترق كل شيء وصار رماداً. ها أنا أجلس هنا، على أطلال ما كان. أنا الظل. أنا الشبح، حارس مملكة ساقطة". (ص182)، بينما تكتب الابنة: "باتت الكلمات بالفرنسية تنبت في، الواحدة تلو الأخرى، وتجتاح الكلمات العربية قليلاً قليلاً، كما تجتاح الأعشاب المجنونة البيوت المهجورة إلى أن تصل إلى تغطيتها كلها أو تكاد". (ص102).

تبدو العلاقة بين الابنة والأب في تدهور يعكس تدهور علاقة الاثنين بالوطن وتدهور حال الوطن بنفسه الذي يغوص في الحرب والموت والعنف. ليكون الموضوع الأساس هو السقوط. ويبدو أن الروائية والأب وصلا في نهاية المطاف إلى مرحلة سقوط الأوهام والاعتراف بالهزائم والخسارات التي مُنيا بها هما والوطن، فتقول ديمة عبدالله: "تدهورت العلاقة بين الأب وابنته لأن هذين الشخصين هما اللذان يتدهوران. العالم يتدهور والوطن يتدهور وكل شيء حولهما يتدهور حتى هما يسقطان ويتدهوران. [...] أنا أيضاً اليوم في مرحلة سقوط الأوهام لدي. سقطت أوهامي كحال راويتي، ومع العمر يزيد هذا الإحساس لدي. نحن نعيش في عالم عنيف جداً وليس فقط في لبنان. بات الحوار مع هذا العالم صعباً وهو شعور عميق لدي".

"أعشاب ضارة" رواية ديمة عبدالله الأولى هي رواية الفقد والتدهور والخسائر وسقوط الأب وسقوط الوطن وسقوط الأوهام، هي رواية الهزائم لكنها أيضاً قصة حب كما تصفها الكاتبة، قصة حب بين أب شاعر مرهف وابنة ترى العالم كله من عيني والدها وعبر يديه.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة