Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"في رواية أخرى" عرض يعالج اضطراب الإنسان في مجتمع لا يرحم

المسرحية تعرض لكاتب عاجز جنسيا يقتل شخصياته ثم ينتحر مسرحيا

الصراع في المسرحية السورية (خدمة الفرقة)

مرة تلو أخرى يشهد المسرح السوري مبادرات يتيمة لمخرجين يعملون على الخشبة في أوقات فراغهم التلفزيونية، ولعل هذا ما جعل الفنان كفاح الخوص يعود إلى المسرح بعد غياب طويل ليخوض تجربة عرضه الجديد "في رواية أخرى" عن نص لافت للكاتبة لوتس مسعود. وفيه نتعرف إلى جبران "كفاح الخوص" الكاتب العاجز جنسياً والغارق في الديون، والمستأجر بيتاً تحاصره فيه تهديدات صاحبته مدام إيفون (أمانة والي) بإخلائه.

يتصاعد العرض (إنتاج مديرية المسارح والموسيقى) في صيغة واقعية صرفة، وبجدال ساخن يدور بين الكاتب وزوجته ديالا (مرح حجاز) المرأة الشابة التي تبدو متورطة هي الأخرى بديون زوجها، وبمزاجه العصابي النزق. يتطور النقاش بين الزوجين إلى الضرب والشتائم المتبادلة، ومن ثم مغادرة الزوجة بيت الزوجية بعد استنفادها كل فرص العيش مع شريك حياتها العنين. ينتهي هنا الجزء الواقعي من العرض ليبدأ صراع الكاتب المتخيل مع شخصياته، التي نراها تخرج من بين جدران المنزل، أو تدخل خلسة من بابه الموارب، ومع كل دخول لشخصية جديدة نشاهد صراعاً معها ينتهي بقتل الكاتب لها واحدة تلو الأخرى.

في البداية يدخل حشكو (علي إسماعيل) اللص الذي يشرع برواية بطولاته عن النساء وخياناتهن له، وهذا يأتي بناء على طلب من الكاتب نفسه، ورغبة منه في تزجية الوقت الموحش الذي يعيشه بعد مغادرة الزوجة. وتندلع اللعبة بين اللص والكاتب وصولاً إلى التدريب على مسدس مائي يتحول إلى مسدس حربي يطلق الرصاص عبر مؤثر صوتي، ليقتل جبران ضحيته الأولى، ويقوم بوضع الجثة في داخل الأريكة التي تتوسط صالة منزله، ثم يدخل فوكس (سليمان رزق) دارس الأدب العربي، وقارئ النصوص في اللجنة الفكرية التي رفضت نصوص الكاتب، وما هي سوى دقائق حتى يقوم جبران بالإجهاز خنقاً على قارئ نصوصه، ومن ثم إخفاء جثته في الأريكة ذاتها التي دفن فيها جثة اللص. تدخل بعدهما شوشي (وئام الخوص) الراقصة التي تنال هي الأخرى نصيبها من الموت بعد ادعائها ملكية منزل الكاتب، ويركن جبران جثتها بالقرب من حمام السباحة بعد أن توجه تهديدات له باستخدام نفوذها كراقصة تعمل لمصلحة مسؤولين كبار.

لوثة علية

يدخل بعد ذلك الدكتور سعيد (نوار سعد الدين) الطبيب النفساني المصاب بلوثة عقلية، وما إن يهم الكاتب بقتله حتى ينتفض الطبيب في وجهه، ويقوم بإماطة اللثام عن جثث الشخصيات المقتولة داخل الشقة، التي تنهض من موتها برشاقة، وتدب الحياة في أوصالها مجدداً، خارجة من ثلاجة البيت والخزانة والحمام، وذلك بعد مونولوغ مطول للطبيب الذي يرثي فيه حال نهر بردى، وما آل إليه من إهمال ببيتين للشاعر اللبناني بشارة الخوري (1890-1964) إذ يقول "بردى هل الخلد الذي وعدوا به/ إلاك بين شوادن وشوادي/ قالوا تحب الشام قلت جوانحي/ مقصوصة فيها وقلت فؤادي".

ينتهي العرض الذي امتد لقرابة 100 دقيقة من الزمن على مسرح الحمراء الدمشقي بوصول الزوجة إلى البيت برفقة السيدة إيفون، وبعد أيام على محاولتهما الاتصال بجبران، لكن عبثاً تحاولان. وما إن تدخلا البيت حتى تفاجآ بانتحار جبران، وبانتفاخ جثته الممددة في حمام السباحة. نهاية متوقعة بالطبع لرجل يعاني من هجمة فصام حادة أودت به إلى سماع أصوات ورؤية أشخاص لا وجود لهم إلا في مخيلته، وهي هنا الشخصيات التي قتلها على أوراق نصوصه، وكابد معها غثياناً إثر غثيان، لتتمكن، أخيراً، من قتله.

اللافت في عرض "في رواية أخرى" هو أداء الممثلين وقدرتهم على تقديم شخصيات متباينة في معالمها النفسية والجسدية، لكن تنميط شخصية الكاتب المدين والعاجز جنسياً وحتى الفاشل مهنياً جاء بشكل قسري ومباشر. وهذا ما يظهر في المعالجة الفنية التي اشتغل عليها الخوص مع كاتبة النص. فزمن العرض الذي استطال في البداية لشرح الظروف المضادة للشخصية الرئيسة كان يمكن اختزاله، لا سيما دخول صاحبة البيت في افتتاحية العرض، ومطالبتها جبران بأجرة منزلها. وندخل بعدها في إيراد معلومة العجز الجنسي للكاتب، التي لم تفد هنا في تعميق محنة جبران كسيناريست يعاني أصلاً من البطالة وأمراض الأنا ونرجسيتها. بل كانت نافلة ومجانية نسبة لسوء مزاجه والذهان المصاب به، والتعنيف الذي يمارسه على زوجته الشابة، الذي يعتبر مسوغاً درامياً كافياً لها حتى تهجر زوجها، وتغادر بيتاً تتلقى فيه شتى أنواع الذل والإهانة.

بعد هذا التنميط المتداول عن شخصية الكاتب في معظم الأعمال الفنية السورية، يدخل العرض سريعاً في المتوقع. فبعد قتل جبران للشخصية الأولى، أصبح واضحاً أن مسلسل القتل يتداعى على المسرح، وصولاً إلى قتل قارئ النصوص الأقرب إلى شخصية التاجر، وقتل الراقصة المتنفذة بعلاقاتها المشبوهة مع كبار القوم، لتكون شخصية الطبيب النفساني صورة أقرب إلى الدكتور فاوست وشيطانه الشهير مفستوفيليس، لكن الصفقة الفاوستية هنا يبرمها الكاتب مع الموت وحيداً في شقته المستأجرة، وبدلاً من بيع نفسه للشيطان يسلم نفسه للموت على أيدي شخصياته.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

نطل "في رواية أخرى" على واقع البلاد بطريقة غير مباشرة، ويعكس أثر الصراع الدائر منذ سنوات طويلة على الإنسان السوري، وما آلت إليه الحال من فصام جماعي أمسى الصبغة العامة لهذا الإنسان، لا سيما في طبقة النخب التي تخلخلت وانتزع دورها لمصلحة سدنة الغيب والسلاح وميليشيات الحروب بالوكالة. ومع أنه لا ذكر مباشراً لذلك، إلا أن الإدانة المستترة هنا للنخبة تبدو واضحة مع إيراد هذا النموذج المشلول من المثقفين العاجزين عن التعامل مع واقع مركب ودموي، والركون إلى الانتحار بدلاً من المواجهة.

اعتمد الخوص في تمرير قصة العرض على حذافير ديكور واقعي للغاية (محمد كامل)، فالخشبة كانت مكتظة بالعفش المسرحي الأقرب إلى موبيليا منه إلى ديكور مسرحي. ثلاجة البيت والخزانة والمطبخ والشرفة ونباتاتها، إضافة إلى السرير وتوابعه في غرفة النوم والأريكة والمغسلة وحمام السباحة، كلها جعلت المكان محدداً ومؤطراً للغاية، فيما لعبت إضاءة (إياد العساودة) على التخفيف من شدة الخيار الواقعي للديكور، وخلق مناخات لونية عملت على شطب المكان الواقعي على حساب دفع الجمهور إلى مخيلة موازية لمخيلة الكاتب، لا سيما في مشهد نهر بردى الذي اعتمد فيه مصمم الإضاءة على كشاف جانبي جعل الضوء يمر كنهر في مقدمة الخشبة.

وبالنظر إلى عناصر السينوغرافيا في العرض يمكن الإشادة بالأزياء التي صممتها ديمة فياض، وقدرة هذه الأزياء على خلق عناصر بصرية متحركة ساندتها موسيقى الفنان طاهر ماملي. نجحت الموسيقى في أن تكون بمثابة راو إضافي للأحداث من دون أن تأخذ دور المعلق عليها، وصولاً إلى التنويع على مقطوعات تصاعدت مع ذرى المواجهة، وجعلته بعيداً من الزمن التلفزيوني السائد في افتتاحية العرض الطويلة، نسبة إلى زخم الصراع المتخيل، وصولاً إلى روايتين لنهاية دموية، الأولى عن حادثة قتل (الكاتب- السفاح) شخصياته، والثانية هي عن الشخصيات التي فتكت بكاتبها.  

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة