Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

المجال الحيوي... مفهوم استعماري بلباس الأمن القومي

اعتمدت ألمانيا النازية هذا الطرح للعالم فردريك راتزل وتبنته الولايات المتحدة انطلاقاً من "مبدأ مونرو" وصولاً إلى الرؤى الاستراتيجية لكيسنجر وبريجنسكي

القوات الألمانية تجتاز الحدود مع بولندا في سبتمبر 1939 (الموسوعة البريطانية)

ملخص

اعتمدت ألمانيا النازية هذا الطرح للعالم فردريك راتزل وتبنته الولايات المتحدة انطلاقاً من "مبدأ مونرو" وصولاً إلى الرؤى الاستراتيجية لكيسنجر وبريجنسكي

أحد الأسئلة التي ولدتها الحرب الروسية – الأوكرانية، هو ذاك المتعلق بالطرح الفكري المعروف باسم "المجال الحيوي"، التي يرى البعض أنها كانت السبب الرئيس في التوسع الاستعماري للعديد من الدول، بعد مرحلة الثورة الصناعية وازدياد الإنتاج، حيث برزت الحاجة إلى مصادر للمواد الخام وأسواق لتصدير المنتجات، بالتالي برزت هذه النظرية كتبرير لتلك الدول في احتلال الدول الأخرى والتوسع على حسابها.

جاءت العملية العسكرية الروسية في الأراضي الأوكرانية، لتحمل الباحثين في عالم السياسة الدولية، بالرجوع مرة جديدة إلى قراءة أوراق هذه النظرية، ومشاغبة دقائقها، لا سيما أن الروس اتخذوا مما جرى في أوكرانيا، من محاولات للانضمام إلى حلف الناتو، كمنطلق وذريعة للقيام بهجومهم العسكري.

والشاهد أن الأمر لم يعد ينسحب على الروس فحسب، بل بات يتجاوزهم إلى دول عدة وقارات عدة.

خذ إليك على سبيل المثال مآلات أزمات الهجرة غير الشرعية، واللاجئين غير النظاميين، من القارة الأفريقية إلى القارة الأوروبية، التي باتت تتساءل دول بعينها فيها، وفي مقدمها إيطاليا عن "مجالها الحيوي"، وهل هو مجرد حدودها البحرية الدولية، أم أنه يمتد ليصل إلى دول شمال أفريقيا التي يتسرب منها هؤلاء وأولئك، كما الحال في ليبيا وتونس والمغرب.

وبالرحيل إلى أقصى الغرب جهة المحيط الأطلسي، نجد الولايات المتحدة الأميركية على سبيل المثال منشغلة بمجالها الحيوي جنوباً، تجاه المكسيك وبقية دول القارة اللاتينية، حيث باتت المهددات هناك أوسع وأخطر من مجرد المهاجرين اللاتينيين، إذ تبدو الساحة الجغرافية الخلفية للولايات المتحدة، ملعباً لوجستياً محبوباً ومرغوباً من قوى قطبية مناوئة قائمة أو قادمة، وما تغزله الصين وروسيا، عطفاً على إيران، بالقرب من أميركا جغرافياً، وآخره الحديث عن بناء الصين قاعدة تنصت على الاتصالات الرقمية لأميركا في كوبا، يمكن أن يقنعنا بحتمية المواجهات العسكرية المقبلة في المنطقة.

يمتد الحديث عن فكرة المجال الحيوي إلى مياه المحيط الهادئ، حيث يتوقع الجميع أن تؤدي الصدامات بين أميركا والهند وأستراليا من جهة، والصين الشعبية من جهة ثانية، إلى مواجهة كونية، بناء على اعتبار الصينيين التحركات الغربية برأس حربة أميركية، انتقاص من مجالهم الحيوي.

من هو صاحب هذه النظرية، ومتى وضع لبناتها، وهل كانت سبباً مباشراً في ويلات الحرب العالمية الثانية، وإلى أي حد يمكنها أن تخلق تداعيات مخيفة على حاضرات أيامنا؟

فردريك راتزل والأساس الفكري

يرجع تأسيس هذا الطرح النظري للعالم الألماني "فردريك راتزل"، عالم الأحياء، والجيوسياسي، والجغرافي، والأستاذ الجامعي المولود في "دوقية بادن" بألمانيا عام 1844.

راتزل هو صاحب كتاب "الجغرافيا السياسية" ويعتبر المؤسس الأول لعلم الجغرافيا الحديثة، والذي تأثر فيه بنظرية التطور الطبيعي التي طرحها داروين وتقوم على افتراض أن استمرار وبقاء الكائن الحي يتوقف على مدى قدرته على التكيف، وعنده كذلك أن التكاثر هو دليل على التكيف، ومن هنا فإن الكائنات الحية تكافح من أجل البقاء.

تأثر راتزل بفكرة الحتمية البيئية، التي تقول بأن نشاط الإنسان يخضع لضوابط البيئة الطبيعية وقوانيها بما في ذلك النشاط السياسي للإنسان في ظل التكوين العلمي المتأثر بنظرية داروين.

على هذا الأساس صاغ راتزل نظريته عن المجال الحيوي، والتي مفادها بأن الدولة كائن مكاني حي يرتبط مصيره بالمجال الأرضي، والدول من أجل البقاء لا بد لها من توسيع هذا المجال حتماً، حتى لو لزم الأمر استعمال القوة، ذلك أنه لو لم تفعل فإنها ستنهار.

قدم راتزل نظريته عن المجال الحيوي في كتابه الشهير "الجغرافيا السياسية"، وفيه فصل فكرته بتوضيح أعم وأشمل، فقد اعتبر الدولة كائناً عضوياً يكبر وتزداد حاجاته باستمرار، وأن الحدود هي أشبه بجلد الكائن العضوي، الذي يجب أن يتمدد باستمرار مع نموه.

على أن علامة الاستفهام الواجب طرحها في سياق التأصيل لهذه النظرية: هل جاء راتزل بأفكاره من فراغ، أم أن هناك تداعيات سياسية مرتبطة بأحوال ألمانيا في تلك الحقبة، ما دفعه في هذا التوجه؟

المؤكد أن راتزل لم يكن منطلقاً من فراغ، فقد كانت ألمانيا وقتها تموج بالنشاط الصناعي، وهي بحاجة للمواد الخام والأسواق، بالتالي قدم راتزل نظريته لتكون في خدمة ألمانيا، فالحدود هنا ليست نهايات الدول، ولكنها محطة من محطات نمو الدولة، فكلما كبرت حاجات الدولة، حق لها أن تلتهم جيرانها لتواصل نموها.

حكماً يتساءل القارئ عند هذا الحد: هل كانت نظرية المجال الحيوي لراتزل، دافعاً لما أقدم عليه الفوهرر أدولف هتلر خلال سنوات الحرب العالمية الثانية؟

حصار ألمانيا وتوسيع هتلر مجالها الحيوي

يجمع المؤرخون على أن النظرية أعطت للحراك النازي الكبير، مبرراً لاجتياح أوروبا، غير أنه من الاعتراف بالواقع القول إن أوروبا أخطأت بلا شك في حق المانيا، ما أدى إلى ردود فعل كارثية طاولت العالم برمته... ماذا عن هذا بمزيد من التوضيح؟

تبدأ القصة في واقع الأمر من عند الحرب العالمية الأولى، وما جرى خلالها من حصار بريطاني للتجارة مع ألمانيا، الأمر الذي تسبب في زيادة سيطرة فكرة النطاق والتوسع شرقاً إلى روسيا للسيطرة على الموارد لوقف نقص الغذاء.

هنا وكرد فعل طبيعي، تبنى القوميون الألمان مصطلح النطاق الحيوي أو المجال الحيوي لسياستهم من أجل إنشاء إمبراطورية استعمارية جرمانية مثل الإمبراطورية البريطانية، والإمبراطورية الفرنسية، وكذا الإمبراطورية التي أسستها الولايات المتحدة مع التوسع الغربي "للحدود الأميركية"، والذي أيدته وبررته أيديولوجية "القدر الواضح" عام 1845.

كانت أصابع راتزل بادية بقوة على أفكار الألمان في تلك الحقبة التاريخية المصيرية، لا سيما بعد أن ترك انطباعاً مفاده بأن تطور الناس إلى مجتمع حيوي خلاق ومتقدم، لهو أمر ذو علاقة متينة بوضعهم الجغرافي، وأن المجتمع الذي يتكيف بنجاح مع منطقة جغرافية معينة من شأنه أن يوسع بشكل طبيعي ومنطقي حدوداً آمنة إلى منطقة أخرى. ولحل مشكلة الاكتظاظ السكاني الألمانية، فقد قال راتزل إن الإمبراطورية الألمانية (1871-1918)، ستتطلب مستعمرات وراء البحار، والتي يجب أن يهاجر إليها الألمان الجدد.

بعد وصول أدولف هتلر إلى السلطة في ألمانيا، أصبحت نظرية المجال الحيوي المبدأ العقائدي للنازية، حيث قدمت هذه الحركة العنصرية مبررات التوسع الإقليمي الألماني في أوروبا الشرقية والوسطى، وتضمن مبدأ النازية ضرورة القضاء على معظم السكان الأصليين في أوروبا الشرقية، بما في ذلك البولنديون، الأوكرانيون، الروس، والدول السلافية الأخرى، وذلك إما عن طريق الترحيل الجماعي إلى سيبيريا، أو الموت، أو الاستعباد، على اعتبار أن هؤلاء السكان أقل شأناً من العنصر "الآري الجرماني"، في تمايز عرقي لا يصد ولا يحد، وذلك كي يستطيع الألمان استعمار هذه الأراضي والاستقرار فيها، لا سيما أن تلك الدول الواقعة في أوروبا الشرقية، تمتلك أراضي زراعية تجعل ألمانيا تكتفي غذائياً.

لم تتوقف تداعيات أفكار المجال الحيوي عند حدود القراءة النظرية، بل وجدت، تطبيقاتها في عالم الواقع المرير، فقد بدأت ألمانيا في تطبيق هذه السياسة باحتلالها بولندا في الأول من سبتمبر (أيلول) 1939 متجاوزة بذلك التحذيرات الفرنسية البريطانية لها من مغبة الإقدام على هذه الخطوة، لا سيما أن البلدين فرنسا وبريطانيا كانت قد وقعتا معاهدة دفاع مشترك مع وارسو.

باتت بولندا بوابة احتلال لبقية دول أوروبا الشرقية، وهناك قتل الآلاف من البولنديين، وعين الجنرال هيملر لتوطيد بناء الدولة الألمانية على الأراضي التي يتم احتلالها، ومن لم يقتل، خطط هتلر لترحيله إلى سيبيريا، بعد أن يتم له الاستيلاء على الاتحاد السوفياتي.

لم يكن نموذج هتلر وحده هو من سعى لتسخير نظرية المجال الحيوي، ذلك أن هناك في القديم من حاول محاكاته، غير أن نظرة للعالم المحدث الآني ربما تكون ذات أهمية لا تقل عما تتضمنه أضابير التاريخ.

بوتين وأوكرانيا وأحلام المجال الحيوي

من الماضي إلى الحاضر، يطل النموذج الروسي المعاصر، الساعي بحسب دعاوى ساكن الكرملين، فلاديمير بوتين، كدليل جديد على أن فكر راتزل حول المجال الحيوي، لا يزال قائماً.

منذ بدأت عمليات روسيا في أوكرانيا في فبراير (شباط) 2022، وهناك من الأصوات التي تدعم فعله العسكري، انطلاقاً من أن عقيد الـ"كي جي بي" السابق، إنما يدافع بجدارة عن المجال الحيوي لبلاده، ويمنع روسيا التاريخية من التحلل والتفكك، حال اقتراب خطر الناتو من حدودها، عبر اتفاقيات مع حكومة زيلينسكي.

غير أنه وعلى الجانب الآخر، هناك من ينكر هذا التوجه، ويرى أنه ما من تهديد كان موجهاً لروسيا، بل هي هواجس القيصر، ورؤاه التوسعية، الأمر الذي قد يدفعه عما قريب لتكرار فعلته مع دول الجوار من أوروبا الشرقية، لا سيما بولندا، ليتوانيا، إستونيا، لاتفيا، ورومانيا.

المدافعون عن بوتين، يرون أن له في الحق ألف حق، في اليقظة والتنبه للمجال الحيوي لبلاده، وإلا فإنه سيجد نفسه خلال أقل من عقد، محاصراً من القوى الغربية، بالضبط كما حدث مع ألمانيا ما بين الحربين الكبريين.

هؤلاء يرون أن بوتين بريء من فكرة الأعمال التوسعية، وعندهم أن الناتو هو من دفعه دفعاً للخروج بعيداً من حدوده الجغرافية، لا رغبة منه في التمدد ولكن خوفاً من سيناريو تفكيك روسيا الاتحادية، بالضبط كما حدث مع الاتحاد السوفياتي من قبل.

هؤلاء يلقون باللائمة على الناتو، الذي لم يحفظ تعهداته بعد سقوط الاتحاد السوفياتي بأنه لن يتقدم شبراً واحداً تجاه الأراضي الروسية، غير أنه ربما لو لم تكن روسيا دولة نووية، لكان المجال الحيوي للناتو عينه، قد وجد له موطئ قدم داخل الأراضي الروسية عينها.

هنا وفي الحالة الروسية بنوع خاص يثور تساؤل حول العلاقة الجدلية بين قوة الدولة عسكرياً ومجالها الحيوي، فعلى سبيل المثال لو كانت أوكرانيا احتفظت بقوتها النووية، التي تنازلت عنها في اتفاق بودابست عام 1994، الذي عقدته برعاية أميركا وبريطانيا وروسيا، لربما ما كانت موسكو بقيادة بوتين أقدمت على فعلتها هذه.

من هنا يعلو التساؤل عن محددات نظرية المجال الحيوي، والفكر الإمبريالي بنوع خاص، وهل الولايات المتحدة الأميركية تحديداً، تعد النموذج الأكثر وضوحاً، في عالم المجال الحيوي وتطبيقاتها على الأرض منذ تأسيسها حتى الساعة؟

أميركا مجال حيوي يصل الهادئ

بالارتحال إلى الولايات المتحدة الأميركية، نجد بعض الأقلام تشير إلى أن جيوبوليتيكية المجال الحيوي الأميركي، قد صاغها هنري كيسنجر، ثعلب السياسة الأميركية وبطريركها المعاصر، في زمن عمله كمستشار للأمن القومي، ولاحقاً وزيراً للخارجية في عهد الرئيس ريتشارد نيكسون.

وإضافة إليه يقول آخرون إن زبيغينو بريجنسكي، مستشار الأمن القومي في زمن الرئيس جيمي كارتر، قد أكمل معالم هذا المجال، وربما كان بريجنسكي الأكثر تأكيداً على فكرة المدى الحيوي للولايات المتحدة بوصفها "مالئة الدنيا وشاغلة الناس".

رأى بريجنسكي أن المجال الحيوي الأميركي لا يتحدد بمنطقة واحدة بل يشمل العالم أجمع مع اختلاف أهمية كل منطقة، ورأى كذلك أن انهيار الاتحاد السوفياتي السابق هو الخطوة الأخيرة في الارتقاء السريع للولايات المتحدة تلك القوة القادمة من النصف الغربي للعالم لتصبح القوة العالمية الوحيدة والأولى.

كان ظن بريجنسكي أن السياسة الخارجية الأميركية يجب أن تظل معنية بالبعد الجيوبوليتيكي، وأنه ينبغي عليها أن تستخدم نفوذها في أوراسيا بطريقة تخلق توازناً مستمراً في القارة تقوم على رأسه الولايات المتحدة كمرجع وحكم سياسي.

على أن علامة استفهام تقابلنا في تحليل عقيدة المجال الحيوي الأميركي، وهل تأثر كيسنجر وبريجنسكي بنظرية راتزل، أم أن الأمر سابق على هذا المفكر الألماني نفسه؟

تحمل لنا أضابير التاريخ ما يشبه المفاجأة، حيث نجد حضوراً قوياً وبارزاً لمفهوم المجال الحيوي للدول كسلوك وقبل أن يكون كنظرية في الداخل الأميركي، وقبل أن تظهر رؤية راتزل عينه... كيف ذلك؟

الجواب يتمحور حول ما يعرف بـ"مبدأ مونرو".

مبدأ مونرو بيان أعلنه الرئيس الأميركي جيمس مونرو في رسالة سلمها للكونغرس الأميركي في 2 ديسمبر (كانون الأول) 1823. نادى مبدأ مونرو بضمان استقلال كل دول نصف الكرة الغربي ضد التدخل الأوروبي بغرض اضطهادهم، أو التدخل في تقرير مصيرهم. ويشير المبدأ أيضاً إلى أن الأوروبيين الأميركيين لا يجوز اعتبارهم رعايا مستعمرات لأي قوى أوروبية في المستقبل. والقصد من هذا البيان هو أن الولايات المتحدة لن تسمَح بتكوين مستعمرات جديدة في الأميركتين، إضافة إلى عدم السماح للمستعمرات التي كانت قائمة بالتوسع في حدودها.

كان الهدف الحقيقي من إعلان هذا "المبدأ" هو ضمان هيمنة الولايات المتحدة على النصف الغربي من الكرة الأرضية التي كانت تتحرر من السيطرة الإسبانية التي دامت بضعة قرون، واستبعاد منافسة أوروبا لها، مقابل تجنب أميركا منافسة أوروبا على مناطق هيمنتها التقليدية أو التدخل في الشؤون الأوروبية.

هل توقفت أميركا المعاصرة عن التمدد في مجالها الحيوي حفاظاً على قدراتها القطبية؟

يحتاج الجواب في واقع الحال إلى قراءة قائمة بذاتها ومفصلة حول ما تقوم به واشنطن من تمدد في منطقة المحيط الهادئ، الأمر الذي يكاد ينذر بحرب عالمية ثالثة مع الصين تحديداً، فعلى سبيل المثال تنظر واشنطن إلى منطقة بحر الصين الجنوبي بوصفها مياهاً دولية تهم ممرات البحرية الأميركية، في حين تقطع بكين بأنها مياه إقليمية صينية.

الأمر نفسه ينسحب على العديد من الجزر القريبة من أستراليا والواقعة في منطقة المحيط الهادئ، عطفاً على أن تحالفات سياسية مع أستراليا والهند واليابان، تنظر لها الصين، بوصفها مهدداً لمجالها الحيوي، ومن هنا يضحى الصراع وارداً وبقوة في الحال والاستقبال.

ماذا عن القارة الأوروبية القديمة ومآلات الصراعات الحيوية فيها؟

أوروبا حديقة العالم ومجالها الحيوي

قبل بضعة أشهر تحدث الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل عن حال القارة الأوروبية، مستخدماً لهجة فوقية، ذات تاريخ ودلالات إمبريالية، وذلك حين شبه القارة الأوروبية بأنها حديقة غناء، وأن هناك من يعيشون في الأحراش خارجها ويتطلعون للقفز من فوق أسوارها، في محاولة لاختراقها.

ربما التشبيه الوحيد الذي لم يستخدمه الرجل، هو حديث قبائل الفندال التي أسقطت الإمبراطورية الرومانية في منتصف القرن الخامس الميلادي.

مهما يكن من أمر التاريخ، فإن الجغرافيا هنا هي من باتت صاحبة اليد العليا في الحديث، وما قصده بوريل هو ما تتعرض له الحدود الجغرافية لأوروبا عبر البحر الأبيض المتوسط، من موجات هجرة ولاجئين غير شرعيين، من أبناء القارة الأفريقية.

ليس سراً أن الأوضاع المعيشية في القارة السمراء، دفعت وتدفع الكثيرين للهجرة إلى أوروبا، ولا أحد ينكر على السيد بوريل حق دول الاتحاد الأوروبي في أمنها وأمانها.

غير أن تطورات مشهد المجال الحيوي للقارة الأوروبية يدفعنا للتفكير في مقبل الأيام، وهل سيعود البحر الأبيض المتوسط، منطقة شراكة مجال حيوي بين الأوروبيين من جهة وشعوب شمال أفريقيا وجنوبها من جهة ثانية، أم أن المجال الحيوي المتوسطي لأوروبا سوف يدفع شعوب القارة العجوز وعند نقطة زمنية بعينها، إلى عسكرة البحر المتوسط، كخط دفاع حيوي ومصيري عن حاضر ومستقبل القارة العجوز، أي الرجوع بالتاريخ إلى زمن الإمبراطور الفرنسي نابليون بونابرت، الذي رغب يوماً ما بأن يكون هذا البحر الفاصل بين القارتين بحراً فرنسياً بقضه وقضيضه وببسط السيطرة عليه؟

هنا تبدو على مائدة الحديث طروحات وشروحات سياسية أخرى، ذلك أن زمن الغزوات العسكرية قد ولى، وعلى هذا فإن طرح المجال الحيوي، يخلق بالضرورة حالة من حالات التعاون الاضطراري بين جانبي "البحيرة الكبرى" أي المتوسط كما أسماها العرب في بدايات ارتحالهم من شبه الجزيرة العربية.

هل حديث المجال الحيوي الأوروبي قاصر فقط على علاقات دول أوروبا بحدودها الجنوبية فحسب؟

 المؤكد أن هناك تغيرات مثيرة تحدث في داخل حدود الاتحاد عينه، فألمانيا على سبيل المثال تبدو اليوم وكأنها تعيد قراءة المشهد الأوروبي حدودياً، لا سيما بعد أزمة خطوط الغاز مع روسيا، وقطع الأخيرة الإمدادات عنها.

مشهد المجال الحيوي عينه يكاد اليوم يسبب جدلاً داخلياً عميقاً وواسعاً في المملكة المتحدة، حيث ترتفع أصوات جديدة منادية بعودة بريطانيا إلى الاتحاد الأوروبي، بعدما أثبتت التجربة خلال الأعوام القليلة الماضية أن خسارة البريطانيين من انسحابهم من الاتحاد أكبر وأكثر من المكاسب التي عادت عليهم.

والأمر عينه بات ينطبق على العديد من الدول الأوروبية داخلياً في علاقاتها الثنائية.

قديماً قالوا إن "الجغرافيا هي ظل الله على الأرض، وأن التاريخ هو بصمة الإنسان على الحضارة".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

اليوم وفي ظل حالة الارتباك العالمي، وعدم وضوح صورة النظام العالمي، تبقى الحاجات والمتطلبات الواقعية التي ترتبط بشكل حيوي في الأمن الاقتصادي للدولة هي المحرك الأساس، غير أن ذلك لا ينفي ميل بعض القوى ذات التوجهات الإمبراطورية، كما حال الولايات المتحدة، في الوقت الراهن، والصين وغيرها من القوى الصاعدة عما قريب، لاستخدام خطاب "المجال الحيوي" كلغة ذرائعية تروج وتركز على محركات ودوافع مختلفة ومتنوعة تسوغ توجهاتها التوسعية وتوفر بعض عناصر إقناع الرأي العام والتأثير في توجيه مشاعره وتطلعاته، وفقاً لمثل وقيم مستمدة من تراثه الفكري، أو التلاعب بالحقائق التاريخية لإظهار نوع من التواصل بين التراث السياسي والفكري، وبين توجهات الدولة بغية توفير دافع وجداني وعنصر إقناع للعقل الجمعي.

هل سيكون خطاب "المجال الحيوي"، منطلقاً لقلاقل جيوسياسية خلال العقود المقبلة؟

مؤكد أن ذلك كذلك، ما يعني المزيد من الاضطرابات حول المسكونة.

المزيد من تقارير