Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل للجغرافيا لعنة تكبل البشر بصراعات عبر التاريخ؟

تخبرنا الأيام على مر العصور بقضايا لهؤلاء الجيران القدريين ولخلافاتهم الحدودية التي تنحو أحياناً لتكون وجودية

تسعى أوكرانيا لاستعادة شبه جزيرة القرم بينما تراها روسيا حقا تاريخيا (أ ف ب)

ملخص

هل الجيرة الجغرافية تفرض نوعاً من أنواع الانتقام عبر العصور وهل بات السلم بين الأعداء التاريخيين أمراً بعيد المنال؟

قالوا، وخير القول قول العارفين، إن "الجغرافيا ظل الله على الأرض، والتاريخ ظل الإنسان على الطبيعة".

والشاهد أنه ما بين الجغرافيا والتاريخ، تدور حياة الكائن البشري، وتنشأ الأمم والمجتمعات. تقوم الحضارات وتتعاقب الأجيال، تتعاون تارة وتتصادم تارة أخرى، تعيش الصفو عقوداً والكدر قروناً أخرى، لا سيما بين الدول التي تربط بينها حدود جغرافية قدرية، لا يمكن لها أن تتعدل أو تتبدل.

هنا يطرح التاريخ تساؤلاً عن هؤلاء الجيران، وما إذا كانت تلك الجيرة الجغرافية، تخلق رغماً عنهم، نوعاً من أنواع الانتقام عبر العصور، ما يكاد يظهر وكأنه قدر مقدور في زمن منظور، قدر منقوش على حجر يدفع بهم ضمن "دائرة عداء سيزيفية"، لا تتوقف ولا تنتهي، ما يطرح تساؤلات جدية عميقة عن مسارات الحرب ومآلات السلم بين جيران الجغرافيا وأعداء التاريخ، وما إذا كان السلم بينهم أمراً بعيد المنال.

في مؤلفه الرائع "انتقام الجغرافيا... ما الذي تخبرنا به الخرائط عن الصراعات المقبلة وعن الحرب ضد المصير"، يخبرنا الكاتب المؤلف الأميركي "روبرت د. كابلان"، عن مفاعيل الجغرافيا، وكيف أنها قادرة على أن تخلق حياة مزدهرة، حين تغيب صراعات الحدود، وتختفي تهديدات الجيران القدريين، أو العكس، بمعنى كيف لها كذلك أن تضحى وبالاً مقيماً على رؤوس أقوام وشعوب، عانى بعضهم لقرون من عداءات مستحكمة، من جراء دول وشعوب تقيم على حدودهم وتناصبهم العداء.

ينقل كابلان عن المؤرخ العسكري البريطاني الشهير السير "جون كيغان" قوله إن "أميركا وبريطانيا لا يمكنهما امتلاك زمام الريادة في مجال الحريات سوى لأن البحر حماهما من أعداء الحرية الملتصقين بالأرض".

من هنا يمكننا أن نفهم كيف أن النزعة العسكرية والبراغماتية لأوروبا القارية خلال منتصف القرن الـ20، التي طالما شعر الأميركيون بتفوقهم عليها، كانت نتيجة للجغرافيا، وليس الملامح الطبيعية.

لقد ظلت الدول والإمبراطوريات المتنافسة ملاصقة لبعضها بعضاً ضمن قارة مزدحمة، ولم يكن في وسع الدول الأوروبية مطلقاً أن تنسحب لما وراء البحار في حالة وقوع خطأ بحساباتها العسكرية. بالتالي، لم يكن من الممكن أن ترتكز سياساتها الخارجية على الأخلاقيات الأممية، كما أنها ظلت مسلحة بشكل جيد في مواجهة بعضها بعضاً لحين سقوطها دفعة واحدة فريسة للهيمنة الأميركية بعد الحرب العالمية الثانية.

تدفعنا هذه المقدمة للتساؤل "هل تقود الجغرافيا الطبيعية لصراعات البشر، أم أن إرادات الحياة والعيش الإنساني، والبحث عن مسارب للسلام، يمكنها أن تتجاوز أزمات الجيرة القدرية إن جاز التعبير؟".

مواجهات فروض الحجر ومشيئة البشر

هل للجغرافيا لعنة باتت تمثل أغلالاً للبشر عبر التاريخ؟

الجواب يقودنا حتماً للنظر عميقاً وطويلاً في ما يطلق عليه "لعنة الجغرافيا" حين تفرض معطيات بعينها تهديدات لسكانها، ما يجعلهم في حالة حرب متواصلة مع جيرانهم الجغرافيين.

عرفت البشرية في مراحل البداوة الأولية الصراعات القائمة من حول الكلأ والعشب والمياه، وتصاعدت تباعاً وصولاً لصراعات حول الموارد الطبيعية الأهم في القرون الحديثة، لا سيما النفط والغاز وبقية مصادر الطاقة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وهناك من الصراعات ما تسببت فيه القوى الاستعمارية التي احتلت دولاً وبلداناً بعينها، وبعضها طال لقرن أو قرنين من الزمان.

عطفاً على ذلك هناك صراعات جرت بين دول جارة انطلاقاً من فكر فوقي إمبريالي، آمن واعتقد بحق مطلق في امتلاك تلك الأرض، والقول بوجود مبررات تاريخية تدفع في سياق السطو المسلح، وما حدث عام 1989 من جانب العراق تجاه دولة الكويت، خير دليل في هذا الاتجاه.

ولعل العين لا تغفل ما يجري الآن من صراع دام بين روسيا وأوكرانيا، من جراء القول بالحق التاريخي لروسيا في الأراضي الأوكرانية، وبنوع خاص شبه جزيرة القرم، تلك التي منحها الزعيم الشيوعي جوزيف ستالين للأوكرانيين، ثم عاد فلاديمير بوتين واسترجعها، واليوم تسعى أوكرانيا في طريق استردادها بصورة ما، ولو كلف الأمر العالم صراعاً نووياً.

هنا نتساءل، هل صراعات الجيران القدريين إملاءات جغرافيا أم ضرورات تاريخ؟ وكيف يمكننا التفريق بين إدراك أهمية الجغرافيا في صياغة التاريخ وخطر المغالاة في تأكيد هذه الحقيقة ذاتها؟

يمكن القطع بأن كارثة السنوات الأولى من التدخل الأميركي – البريطاني في العراق عام 2003، قد عززت من مقولة الواقعيين،  التي استخف بها من قبل المثاليين في تسعينيات القرن الـ20، بأن موروثات الجغرافيا، والتاريخ، والثقافة، تفرض بالفعل حدوداً لما يمكن تحقيقه في أي مكان بعينه.

من هذا المنطلق، يمكن القطع بأن صراعات الجيران القدريين، هي مزيج من طبيعة الجغرافيا وسخريتها من البشر من جهة، وأدلجة البشر ورؤاهم ومعتقداتهم من جهة ثانية، وعليه يبدو المشهد وكأنه خليط من فروض الحجر، ومن مشيئة البشر... هل من أمثلة في الطريق؟

ثنائيات قدرية وصراعات جغرافية

يمتلئ التاريخ المعاصر بقضايا لهؤلاء الجيران القدريين ولخلافاتهم الحدودية، التي تنحو أحياناً لتكون وجودية، والمثير أنها لا تتوقف عند حدود الشرق أو الغرب، ولا تميز بين عرب وعجم، كما أنها تقفز فوق الأعراق والأديان، وكأن لعنة الجغرافيا حقيقة واقعية لا مفر منها، أو قدر منقوش فوق حجر.

خذ إليك مثالاً قريباً لدولة كوسوفو، التي كانت نتاج تفكك يوغسلافيا بعد حل الاتحاد السوفياتي.

في داخل الأمم المتحدة هناك نحو 80 دولة تعترف بدولة كوسوفو، ومع ذلك فإن صربيا الحدودية المتاخمة لها ترفض الاعتراف بها وتطلق عليها اسم "إقليم كوسوفو وميتوهيا".

هذا الرفض يحمل في باطنه أخطاراً عميقة، تدفع لإمكانية نشوب صراع دموي عند لحظة تاريخية بعينها، وحال توافرت الظروف الدولية، فالجمر تحت الرماد قائم ومقبل.

من بين قضايا الجيران القدريين التي ظلت لعقود طوال ولا تزال تمثل احتقانا أممياً، تأتي قضية التبت، حيث النزاع الحدودي حول أراض تقول بكين إنها جزء لا يتجزأ من الصين الشعبية، وكانت تابعة لها منذ القرن الـ13 الميلادي.

منذ عام 1950 عاد الصراع ليتجدد لا سيما بعد أن رفض الدالاي لاما، معاهدة اقترحتها الصين تعطي فيها سكان التبت حق الإدارة الذاتية، لكن في مقابل الاعتراف بسيادة الصين، وهو ما تم رفضه.

يوماً تلو الآخر، تنطلق الحملات الانفصالية في التبت، المنادية بالاستقلال، غير أنها لا تجد إلا العنف والقسوة من الصين، كما حدث في مذبحة ساحة "تينانمن" عام 1989.

من أمثلة الصراعات القدرية بين الجيران الجغرافيين، نجد قضية الصحراء الغربية، تلك المنطقة التي تصنفها الأمم المتحدة ضمن قائمتها للأقاليم غير المحكومة ذاتياً، لكن النزاع ما زال قائماً من حولها بين دولتي المغرب والجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية، وهي جمهورية حاكمة للمنطقة وذات اعتراف عالمي محدود.

استمرت الحرب بين المغرب وجمهورية الصحراء العربية الديمقراطية لحين أعلنت الأمم المتحدة عن مفاوضات وقف إطلاق النار عام 1991، وأعطيت للمغرب سيادة تجاه ثلثي الأراضي بينما خضع الثلث الآخر لحكم جمهورية الصحراء بدعم من الجزائر، لكن النزاع لم ينته بوقف إطلاق النار، فاعترفت 37 دولة بجمهورية الصحراء الغربية، بل أصبحت عضواً في الاتحاد الأفريقي، بينما دعمت جامعة الدول العربية ودول أفريقية حق المغرب في حكم الصحراء.

 

بالطبع، لم ترحب حكومة المغرب باعتراف الاتحاد الأفريقي بجمهورية الصحراء العربية الديمقراطية، لذا سحبت عضويتها من الاتحاد، وما زالت الصحراء ليومنا هذا منطقة نزاع بين الطرفين.

هل يعني هذا أن الحروب والصدام العسكري هو البديل الوحيد المتاح أمام شعوب الجيران القدريين لحل إشكالاتهم التي تبدو كمتاهات زمنية في أراض جغرافية وعرة؟

لنؤجل الجواب لمرحلة لاحقة من البحث ولنتوقف عند مشهد الجيران القدريين ما بين أميركا الشمالية والجنوبية، وما بينهما من صراعات قائمة وقادمة.

تكساس وصراع الأميركتين القدري

أحد أفضل العقول التي تحدثت عن أزمة الجيران القدريين بين أميركا الشمالية، وجارتها الجنوبية، هو "نيكولاس سبيكمان" (1893-1943)، الجيوستراتيجي الهولندي الأصل الأميركي الجنسية المعروف، الذي يعد أحد مؤسسي المدرسة الواقعية الكلاسيكية في الخارجية الأميركية.

يعتبر سبيكمان أميركا قوة عظيمة لأنها القطب المهيمن في نصف الكرة الأرضية الغربي، التي تمتلك "من القوة ما يكفي لادخاره للأنشطة التي تجري خارج العالم الجديد"، بحيث يمكنها أن تؤثر في توازن نصف الكرة الشرقي.

هل وفر الحضور الجغرافي الأميركي الشمالي، الجزء الجنوبي من القارة من صراع الحدود القدرية؟

تتحتم مراجعة تاريخ الحرب المكسيكية الأميركية، تلك التي استمرت من عام 1846 وانتهت بصوة أولية عام 1848.

اندلعت هذه الحرب نتيجة خلافات تراكمت لمدة عقدين من الزمان.

بدأت الأزمة عام 1835 حين تمردت منطقة تكساس ضد الحكومة المكسيكية وأعلنت جمهورية تكساس في عام 1836.

بعد أن صارت تكساس واحدة من ولايات أميركا، طالبت بأن تكون حدودها الجنوبية الغربية عند نهر "ريو جراندي"، لكن المكسيك رفضت ذلك الطلب، كما رفضت كذلك دفع التعويضات للمواطنين الأميركيين أو التنازل عن أية أراض تالية عوضاً عن الدفع.

حاججت واشنطن بأن الحدود الجنوبية لتكساس كانت "ريو جرانده" التي أبقتها المكسيك لكي تكون نهر نيوسز.

أعلن الكونغرس الأميركي الحرب في 13 مايو (أيار) عام 1846، بينما المكسيك أعلنت الحرب في 23 من الشهر نفسه.

توقف القتال عملياً في أكتوبر (تشرين الأول) من عام 1847 مباشرة بعد أن اقتحم الجنرال وينفيلد سكوت وقواته المكسيك، في غزو عسكري مؤكد، واحتلت مدينة مكسيكوسيتي العاصمة.

هل كانت هذه الحرب حتمية جغرافية ضرورية أم إرادة علوية للقوة الأميركية الوليدة؟

عند عدد غير قليل من المؤرخين، اعتبر الأمر هجوماً من دولة قوية ضد أخرى ضعيفة، وقد قاد الهجوم لتبعات مثيرة لاحقاً، ذلك أنه بموجب معاهدة "جوادالوبي هيدالجوا" 1848، اشترت الولايات المتحدة من المكسيك أراضي: كاليفورنيا ونيفادا ويوتا ومعظم أراضي أريزونا ونيومكسيكو وبعض أراضي كولورادو وويومينج.

هل وضعت الأقدار الزمانية والمكانية حداً لصراع تكساس؟

ما يدعو للتأمل العميق، هو أنه في مارس (آذار) الماضي، قدم السيناتور الجمهوري عن ولاية تكساس، بريان سلاتون، مشروع قانون يمكن أن يقضي بإجراء استفتاء للتحقيق في إمكانية استقلال ولاية تكساس عن الولايات المتحدة، وفي حال الموافقة على الاقتراح، سيحدد موعد للتصويت على استكشاف خيار مغادرة الاتحاد الفيدرالي الأميركي.

مشروع القانون الذي نشره السيناتور سلاتون عبر "تويتر"، يحمل رسمياً عنوان "قانون استفتاء الاستقلال في تكساس".

ماذا لو تم تمرير مشروع القانون؟

يمكن أن تكون هذه سابقة تقود لانفصال ولايات تالية سيما كاليفورنيا الساعية بالفعل للاستقلال عن بقية الولايات، والحديث هذا يعلو ويخبو بين الفينة والأخرى.

هل تبدو الولايات المتحدة الأميركية أمام استحقاقات جغرافية لصراع لا الجيران القدريين هذه المرة فحسب، بل أبناء الدولة الواحدة التي ينتظر كثيرون أن يلاحقها سيناريو التفكيك نفسه الذي لاحق الاتحاد السوفياتي أوائل تسعينيات القرن الماضي؟

كتب سلاتون، عبر "تويتر، أنه "بموجب دستور تكساس، كل السلطة السياسية موجودة في الشعب، وبعد عقود من الانتهاك المستمر لحقوقنا وحرياتنا من قبل الحكومة الفيدرالية، حان الوقت للسماح لأهالي تكساس بإيصال أصواتهم".

وقدم سلاتون مشروع قانون مماثل في عام 2021 مع زميليه الجمهوريين كايل بيدرمان وجيف كاسون، وحذروا في ذلك الوقت من أن مشروع القانون ليس مشروعاً للانفصال، لكنه يعتزم بدء حوار حول الفكرة.

وفي كل الأحوال، ربما يتوجب الانتظار لحدود السابع من نوفمبر (تشرين الثاني) 2023، إذ سيجري الاستفتاء حول تكساس، وإمكانية إعادة تأكيد وضعها كدولة مستقلة.

والثابت أنه سواء وافق سكانها أم رفضوا، فإن حديث الجغرافيا وارتباطها بالتاريخ سيظل يؤرق حالة الاتحاد، التي يتوقع لها عدد كبير من المحللين الأميركيين الثقات، ضرباً من ضروب الحرب الأهلية الطاحنة، التي قد تصبح أشد وقعاً وأكثر هولاً مما جرت به الأقدار قبل ثلاثة عقود في الشمال الشرقي من الكرة الأرضية.

من قادش لكامب ديفيد... حديث السلام

والشاهد أن التاريخ كما يحمل لنا أخبار صراع الجيران القدريين،  التي طال بعضها، وسالت من جرائه الدماء، فإنه كذلك يتضمن لحظات من تحكيم العقل، وإدراك أن الحروب مهما طالت لن تنهي الأزمات، ولهذا فضلت كثير من الأمم والشعوب اللجوء لطريق المعاهدات السلمية، كأمل للهروب من أزمنة الصراع المسلح.

يمكن أن يؤرخ المرء لكثير من معاهدات السلام التي نحن بصددها، وفي مقدمتها يأتي الحديث عن أول معاهدة سلام في تاريخ البشرية، "معاهدة قادش" أول وثيقة مكتوبة عام 1258 قبل الميلاد، وأبرمت بين الإمبراطورية المصرية، وشعوب الحيثيين الذين وجدوا في مناطق آسيا الشرقية، وفي مواقع تركيا حالياً، وأنهت صراعات عسكرية مسلحة بين قطاعات جغرافية خاضعة لمصر كما الحال في الأراضي السورية وقتها، وبين الحيثيين.

وما بين قادش قبل أكثر من ثلاثة آلاف عام، ومعاهدة كامب ديفيد، التي أنهت الصراع المسلح بين مصر وإسرائيل عام 1979، ووضعت حداً لأربع حروب استمرت أربعة عقود بين الجارين القدريين، عرفت البشرية إرادات سلامية بين شعوب مغايرة أنهت أزمنة الحروب القدرية الجغرافية.

في عددها الصادر بسبتمبر (أيلول) عام 2019، قدمت مجلة "ناشونال إنترست" الأميركية ذائعة الصيت، تحقيقاً عن خمس معاهدات سلام غيرت وجه الكرة الأرضية، ويمكن الإشارة إليها في عجالة بحسب ترتيبها التاريخي وهي كالتالي:

معاهدة توردسيلاس 1494، ووقعت بين البرتغال وإسبانيا، وهما جارتان قدريتان بحسب الجغرافيا والطوبوغرافيا، وقد قام برعاية هذه المعاهدة بابا روما النافذ في ذلك الوقت، إسكندر بورجيا، سليل الحسب والنسب، والمثير في هذه الاتفاقية أنها انسحبت ليس فقط تجاه الأراضي الحدودية المشتركة، بل شملت الأراضي المكتشفة حديثاً خارج أوروبا.

صلح ويستفاليا 1648، وتعد هذه واحدة من أهم الاتفاقيات السلمية التي غيرت وجه القارة الأوروبية، وأنهت حرب الثلاثين عاماً (1618- 1648) التي اندلعت بسبب الصراع الديني بين الكاثوليك والبروتستانت.

 

 لم ينه صلح ويستفاليا أزمات الدول الأوروبية الجارة القدرية فحسب، بل بلغ تأثير هذه المعاهدة بقية دول العالم، ولها الفضل في إرساء أبرز مبادئ النظام العالمي، والدعوة لاحترام حقوق وأراضي وممتلكات كل دولة جارة لدولة بجانبها.

معاهدة باريس 1783، وهذه فضلاً عن أنها أقدم معاهدة توقعها الولايات المتحدة الأميركية، وما زالت سارية المفعول، فقد أنهت الثورة الأميركية وأسست الولايات المتحدة بثوبها المعاصر.

 أنهت المعاهدة الحرب بين أميركا وبريطانيا، تلك التي احتدمت في الأراضي الأميركية المكتشفة حديثاً، أي بين مواطني أراض واحدة على رغم اتساعها الكبير جداً، من الأطلسي شرقاً، لحدود المحيط الهادئ غرباً.

فضل البريطانيون توقيع المعاهدة وظهور دولة أميركية قوية وناجحة، لتكون عند لحظة زمنية ما، سنداً لهم في مواجهة الفرنسيين.

مؤتمر فيينا 1814- 1815: أنهت أعمال مؤتمر فيينا صراعات كثيرة جداً بين الدول الأوروبية، نشبت في الحقبة النابليونية، وأسفرت أعمال المؤتمر عن إعادة رسم الخريطة السياسية للقارة الأوروبية وأبرمت في الأثناء معاهدات عدة من أهمها معاهدة باريس 1814.

معاهدة فرساي 1919، أسدلت الستار عن أول حرب عالمية عرفتها البشرية، بين الحلفاء الغربيين وألمانيا، وبجانبها أبرمت معاهدات منفصلة مع الدول الخاسرة وهي النمسا والمجر وبلغاريا وما بقي من الإمبراطورية العثمانية.

هل يعني ذلك أن التعايش السلمي بين البشر أمر ممكن ووارد، محبوب ومرغوب، وأن حتمية الصراعات الجغرافية القدرية، فرضية غير أزلية، ويمكن أن توضع لها نهايات حال وجدت الإرادات السلمية؟

التعايش السلمي درب البقاء لا الفناء

من الغريب أن يكون لمفهوم التعايش السلمي جذور سوفياتية، إذ ينسب للزعيم السوفياتي خروتشوف، وقد أطلقه عقب وفاة الزعيم السوفياتي ستالين.

انطلقت السياسة من مبدأ قبول فكرة تعدد المذاهب الأيديولوجية والتفاهم بين المعسكرين الشرقي والغربي في القضايا الدولية، كما تدعو الفكرة عينها جميع الأديان للتعايش السلمي في ما بينها، وتشجيع لغة الحوار والتفاهم والتعاون بين الأمم.

سرعان ما أصبح التعايش السلمي، رغبة عند عديد من شعوب العالم، وقد أثبتت أربعة عقود من الحرب الباردة، أنه لا منتصر ولا مهزوم، يمكن أن تسفر عنهما أي حرب نووية، كما أن الحروب التقليدية الكبيرة في النصف الثاني من القرن الـ20، قادت للقطع بأن السلاح لن يحسم المعارك، وإنما إحقاق العدالة، بهدف التوصل لسلام دائم وشامل.

ولعل من نافلة القول إن التعايش السلمي له مستويات مختلفة، فهو يبدأ من عند المستوى السياسي والاجتماعي، الذي يتوقف عند تحقيق عدالة اجتماعية تقلل وتمنع أي صراعات أو خلافات قد تحدث بين الجماعات بمختلف أنواعها سواء أكان في إطار إقليمي أو دولي.

وهناك مستويات اقتصادية، ثقافية ودينية، وجميعها تمضي في طريق تعزيز قيم التعايش السلمي وفي المقدمة منها قبول الآخر، واحترام القانون، وتفضيل المصلحة العامة والإيجابية، وتعزيز الثقة بين السلطة والمواطنين.

هل من خلاصة؟

لا قدر منقوش عبر حجر، ويمكن حال وجود إرادة إنسانية قوية، وتوجهات عقلانية سلمية، أن تتجاوز الأمم والشعوب، متلازمة "المواجهة الحتمية" والاقتناع بـ"التعايش السلمي" ضمن الروح الوجودية.

المزيد من تحقيقات ومطولات