ملخص
سرد تتداخل فيه الحياة الواقعية والمتخيلة مع موسيقى الجاز والرسم والمشي
لا يخيب الكاتب الياباني هاروكي موراكامي آمال عشاق رواياته في إيجاد ما يبحثون عنه في كتبه، ذاك المزيج الإبداعي الخاص به، نسيج سردي تتداخل فيه الحياة الواقعية والمتخيلة مع موسيقى الجاز والرسم والمشي والخيالات والرؤى الخارقة وحضور الطبيعة بأصوات الرياح والمطر وخرير المياه وحفيف أوراق الأشجار وتقاطع زمنين في زمن واحد، والأهم من كل هذا التركيز العميق على داوخل شخوصه الذين يستهويهم كل ما سبق. إنها ثيمات أساسية يعتمد عليها موراكامي، ويلقي على أبطال رواياته حالاً من الغموض الفريد في تركيبتهم النفسية، والانشطار البين في علاقتهم مع الحياة، الذي يتجلى مع كل عمل في إطار مختلف.
في رواية "تسوكور تازاكي عديم اللون وسنوات حجه"، الصادرة حديثاً عن دار الآداب، بترجمة حسن المعيني، يتعرف القارئ إلى بطل العمل تسوكور، الذي يبلغ من العمر 36 سنة ويعمل مهندساً يصمم محطات القطارات. ويعاني فراغاً داخلياً يترك ظلالاً باهتة في داخله، منذ كان في الـ20 من عمره حين قرر الانتحار بسبب تخلي رفاقه عنه. كانوا ثلاثة فتيان وفتاتين، التقوا في صف واحد في مدرسة حكومية، وأصبحوا أصدقاء. تغوص الرواية عميقاً لتسترجع ماضي تسوكورو، ولا سيما سنواته في المدرسة الثانوية، عندما كان لديه أربعة أصحاب يحملون أسماء ترتبط بالألوان، متناقضة مع اسمه الباهت. يقول "من قبيل الصدفة أنهم جميعاً يشتركون في أمر صغير، فأسماء عائلاتهم تشير إلى لون من الألوان. تازاكي هو الاسم الوحيد الذي لا يشير إلى لون، لذا منذ البداية شعر بأنه منبوذ. وهذا ما جعل الموت يسيطر على تسوكور، كان واضحاً، فذات يوم أبلغه أصدقاؤه الأربعة المقربون أنهم لا يريدون رؤيته أو الحديث معه أبداً. كان القرار مفاجئاً وحاسماً ليس فيه أي مجال للمساومة".
هكذا يتحول الأمر بالنسبة إليه لغزاً مرهقاً لم يتمكن من حله أو فهمه طوال هذه السنوات، كما لم يتمكن من نسيانه وتجاوز ما حدث، بل ظل عالقاً أسير هذه المرحلة الحساسة من ماضيه. وفي هذه الفكرة تحديداً، تكمن أهمية الرواية، إذ يكشف موراكامي كيف نظل عالقين في حدث مضى، من دون أن نتمكن من عبوره، فنقع أسرى تجربة نفسية تحفر عميقاً داخلنا.
في أعماق البطل تسوكور تازاكي، يحس أنه يحب عمله في هندسة القطارات وراضٍ عنه، ولكن بالتوازي مع هذا ينتابه يقين داخلي أنه ليس لديه شيء يقدمه للآخرين أو حتى لنفسه. على رغم أن تعبيراته الداخلية عن نفسه تبدو شديدة الحساسية والعمق، كأن يصف لقاءه مع سارا الفتاة التي تكبره بعامين وقد شعر بعاطفة ما نحوها قائلاً "في مكان ما على ظهر تسوكور منطقة شديدة الحساسية، بقعة ناعمة لا يمكن الوصول إليها، ولكن ما إن تنكشف لأحد، يمر عليها بإصبعه حتى يجيش شيء في داخل تسوكور. حين التقى سارا أول مرة، أحس بإصبع تمتد، وتضغط على تلك البقعة في ظهره". وعلى رغم ما يصف به إحساسه نحو سارا، فإنه كلما تخيل نفسه يحتضن امرأة تحضر في ذهنه صورة صديقتيه القديمتين شيرو وكورو، ثم يعود وينبه نفسه إلى أنهما رفضتاه في الماضي وتخلتا عنه.
رؤية ذاتية
من خلال الراوي العليم الذي يلقي الضوء بكثافة على ما يجري في العالم الداخي للبطل، يتوقف موراكامي عند فكرة الرؤية الذاتية لأنفسنا، حتى يمكن اعتبار محاولته في هذا العمل معارضة لفكرة فلسفية حول معرفة الإنسان لنفسه. فالبطل على مدار النص يمضي في مسار الشعور بالدونية وعدم التميز، بداية من اسمه "عديم اللون"، مروراً بقناعته الذاتية بأنه ليس لديه ما يميزه، إلى حد يخيل إليه أنه مات نفسياً حين صده أصحابه وتخلوا عنه.
في الوقت الذي يقدم موراكامي هذا البطل، ويضعه أمام مرآة مكبرة، كما لو أنه يطالبه بإعادة تقييم ذاته، مذكراً أن الماء بلا لون أيضاً، وأن الأشياء الخالية من اللون لا تعني أن من الممكن الاستغناء عنها، لكن كل هذا يرتبط بمنظور الرؤية. تعاود فكرة الألوان الحضور في حكاية هايدا الأب وحواره مع ميدوريكاورا، كاشفاً عن رؤيته بأن لكل شخص لوناً يميزه. يقول "لبعض الناس لون قوي جداً، ولآخرين لون خافت، يتعبك هذا الأمر أحياناً، إذ ترى كل هذه الألوان رغماً عنك حين توافق على الموت، تحصل على قدرة استثنائية، رؤية الألوان التي تصدر عن البشر ليست إلا وظيفة واحدة لتلك القوة، لكن الأساس توسعة وعيك. ما إن ترى المشهد الحقيقي، حتى تصبح حدساً، شعوراً يمزج بين الروعة وقلة الحيلة".
من خلال هذه القصة ينعطف موراكامي إلى فكرة الزمن وانشطاره، وهي تحضر في معظم رواياته. تتجلى فكرة الزمن هنا في حوارات تسوكور الباطنية عن الموت، وعن العطب الداخلي بسبب انسحاب الرفاق من عالمه. حادثة التخلي تلك على ما تحمله من أهمية، تبدو مجرد حجة لتبرير سياق ما يمكن أن يقع من أعطاب نفسية خلال حداثة مرحلة الشباب، تفضي إلى شعور بغياب الزمن. وفي الرواية تتكثف هذه الأفكار في حوار هايدا عن المنطق والفلسفة والموت والحياة، وفي تخيل تسوكور أن صديقه هو الذي حدث معه هذا وليس والده، مما يمنع من وجهة نظره، أن يتحد زمن الأب هايدا مع ابنه. ألم يكن الأب في مرحلة الشباب أيضاً حين أخذ قرار العزلة والانتقال إلى مكان بعيد في أعالي الجبال؟
تظل القصة المحورية في حياة تسوكور رغبته بمعرفة السبب الحقيقي للتخلي، وبحثه عن جوهر الأمر، بتشجيع من سارا، التي تؤيده في ضرورة المعرفة من أجل غلق الباب إلى الأبد، ولكن مثل سائر روايات صاحب " الغابة النرويجية"، الحدث هو مجرد مبرر للرحلة، وليس المسار ولا الغاية، لأن معرفة السبب في ختام النص، لا يفضي إلا إلى رحلة الحياة نفسها، بجوهرها الغامض والمتشعب.
المدينة وجدرانها الغامضة
في مطلع شهر أبريل (نيسان) من عام 2023 أصدر موراكامي رواية عنوانها "المدينة وجدرانها الغامضة"، لم تترجم إلى العربية بعد. وفي هذه الرواية التي تتكون من ثلاثة أجزاء، يقدم موراكامي أيضاً أجواءه الخاصة، مع حضور الموسيقى والأشباح والعزلة والجنس والحنين إلى التواصل الإنساني. الجزء الأول يستند إلى قصة قصيرة لموراكامي تحمل اسم "العنوان نفسه"، كتبها عام 1980، واعتبرها عملاً فاشلاً، وكان يأمل في العودة إليها في يوم من الأيام. هكذا بعد مرور أكثر من أربعة عقود. قرر موراكامي العودة إلى هذه القصة بسبب الظروف المحيطة بجائحة فيروس كورونا، التي دفعته إلى قضاء وقت أطول في داخل البيت والتفكير في ذاته الداخلية وكتابته. شعر موراكامي بأن الوقت المناسب حان لإعادة صوغ هذه القصة من جديد، وما أغواه في الرجوع إليها، تضمنها عناصر مهمة مثل الجدار والظل، البناء والهدم.
في الجزء الأول، يبحث الراوي عن صديقة له أحبها خلال مرحلة مراهقته، وينتقل بين العالم الحقيقي ومدينة خيالية محاطة بجدار عالٍ جداً. في الجزء الثاني، يترك البطل وظيفته ليعمل في مكتبة في بلدة فوكوشيما، وفي الجزء الثالث، تعود القصة إلى المدينة المحاطة بالجدار.
بدأ في كتابة هذه الرواية في يناير (كانون الثاني) 2020، وانتهى في ديسمبر (كانون الأول) 2022، وهذه السنوات تزامنت مع أحداث عالمية مهمة، مثل حرب روسيا على أوكرانيا، والتحولات الكبيرة في العالم، وتأثير وسائل التواصل الاجتماعي، التي يصفها موراكامي بـ"صندوق باندورا". وفي تعليقه على الرواية ربط موراكامي بين كتابته وما يدور في العالم قائلاً "في عصر يمر المجتمع بتغييرات مضطربة، أصبحت مسألة ما إذا كان يجب البقاء داخل الجدار أم الذهاب إلى الجانب الآخر منه، أكثر أهمية من أي وقت مضى، وهذا يتطلب تصميماً وإيماناً وقوة جسدية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في روايات لموراكامي، يسافر الأبطال بين عالمين مختلفين، من خلال جدار أو بئر أو كهف، كما في "كافكا على الشاطئ"، و"سبوتنيك حبيبة روحي"، و" الغابة النرويجية"، وفي هذا العمل تحضر فكرة الجدار التي تنقل البطل إلى مكان آخر. يعلق موراكامي قائلاً "يمكن أن تحمل الجدران معاني وأغراضاً مختلفة، اعتماداً على من يكونون داخلها. هناك أنواع متعددة من الجدران، بين الوعي وعدم الوعي، وبين الحقيقة والخيال، والجدران الجسدية التي تفصل المجتمعات، مثل ما كان يقف في برلين سابقاً والحواجز بين إسرائيل والمناطق الفلسطينية".
يعتبر بعض القراء أن روايات موراكامي متشائمة، لكنه لا يوافق على هذا الرأي، ففي وجهة نظره، إن قصصه على رغم وجود عديد من الأمور الغريبة والجانب المظلم في كتابته، هي في أي حال، غير متشائمة، بل إيجابية.
ولعل الجانب الطريف لدى قراء موراكامي المخلصين، المتابعين لمسيرته في مدينته طوكيو، أنهم فور معرفتهم بوجود إصدار جديد له، لا يستطيعون الانتظار حتى اليوم التالي، يتجمعون حول المكتبة ليلاً للحصول على نسخة من الرواية في طبعتها الأولى، ويعلنون أمام الصحافة، أنهم سيمضون ليلتهم في قراءة روايته.
وعلى رغم أن الهدف النهائي للأدب لا يكمن في العثور على عالم آخر خارج هذا العالم، بل في القدرة على أن يسافر أي شخص بحرية، بين الأحلام التي ينسجها الأدب ضمن هذا الوجود كي تثري حياته. وكما يبدو، فإن روايات موراكامي تحقق لعشاقها هذه المعادلة، التي تختلف النظرة إليها بين قارئ وآخر.