Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

شبح يجول في ليل القاهرة هاربا من قبضة الكاتب

"هذه ليست غرفتك"قصص عن الهزيمة في كل ظواهرها

لوحة للرسامة المصرية إيمان عزت (صفحة الرسامة - فيسبوك)

يطارد الكاتب كريم محسن في مجموعته القصصية "هذه ليست غرفتك" (المرايا للنشر)، بطلًا شبحياً في ليل القاهرة، قد يكون هو نفسه. فلا تبعد نصوصه الـ 13عن تلك الحالة: الليل، القاهرة، والبطل الشبح. مع ذلك لا تفقد القصص صلتها بالواقع لكن السارد لا يراه في نسبه المعتادة، وقوانينه الحاكمة، لأنه تحول إلى واقع سائل وغرائبي، يتعايش فيه أحياء وأموات، على نحو يصعب التمييز بينهما.

شرط العزلة

يلح على نصوص كثيرة شرط العزلة، أملاً في النجاة والراحة والتأمل. في قصة "لغة ثانية" يقرر البطل أن ينعزل عن أسرته وأصدقائه، ويستأجر شقة في حي مصر الجديدة، كل هذا واقعي وواضح، ثم يفاجأ بشخص يطرق عليه باب غرفته ويخبره أنه يعرفه جيداً، ثم أصبحا صديقين، ويلاحظ البطل الراوي أن جسد شريكه الشبحي دائم التغير، فمرة يراه شاباً ومرة أخرى عجوزاً، وأحياناً يختفي، كما يخبره أنه يتكلم "خمس لغات"، وكأن هذا الشبح مرآة زمنية لكل احتمالات البطل نفسه، وكأنه من فرط العزلة اخترع لنفسه نسخة منه.

"في الدلوعة" يتناول السارد حالة معتادة لسكان عمارة في القاهرة، يخضعون لسلطة حارسها الذي يحمل أسماء متعددة لكنه يفضل اسم "أبو غنيمة"، حتى زوجته لا يوجد ما يؤكد اسمها "صفاء" أم "عنايات"؟ ولديه "موتوسيكل" (دراجة مارية) يلبي من خلاله طلبات السكان ويطلق عليه اسم "الدلوعة". يقع "الحاج مراد" وهو كهل يمثل قيم الطبقة الوسطى، تحت سطوة "أبو غنيمة" الذي بنى على سطح العمارة عالماً تُرتكب فيه الرذائل، وتزول فيه الحدود بين الخاص والعام. كأن الأساس الأخلاقي للعمارة، بوصفها رمزاً للمدينة، هو التواطؤ وليس أي شيء آخر، فليس الواقع سوى قشرة خادعة لمدينة بالغة التعقيد مثل القاهرة، ومن تحت هذه القشرة المتداعية تنهض في ليلها عوالم لا منطق ولا قانون يحكمها.

عثر كريم محسن على معادل سردي لسيولة ليل القاهرة، بتسييل السرد نفسه، إن جاز التعبير، فهو لا يبني حدوداً صارمة بين الواقع والمتخيل، ولا الحقيقة والأوهام، بل يترك عوالمه متداخلة بلا فواصل، انتقالات عشوائية تحكمها الصدفة والتداعي شبه الحر.

يستهل قصة "ثقوب في رأسه" بالقول: "قلتُ له يومها: تحسس فروة رأسك جيداً، يمكنك العثور على عدد من الثقوب"، وفي أحد أحلام البطل ظل الثقب يكبر حتى ابتلع رأسه، يضيف السارد: "يمكننا خلق العالم وتغييره في أذهاننا كيفما نشاء"، فالسيولة تجرف كل العلامات في طريقها ولا تثبّت أي شيء، والنص لا يقول شيئاً محدداً وجاهزاً لقارئه، قد يكون هناك ترميز، لكنه لا يمنح نفسه بسهولة بل تظل النهايات مراوغة لا تحل الألغاز.

في نص "الدائرة" ثمة موقف اعتيادي في الليل حين يقوم بعض الشباب بواسطة سلاح أبيض بتثبيت العابرين، والالتفاف في دائرة حوله، هذا ما يجري في الواقع، بينما في السرد لم يشهروا سلاحاً فقط بل تحلقوا حوله وابتسموا، ما دفعه للسؤال: "متى ينتهي هذا الليل ونتفرج الدائرة"، ثم بعد مرور دقائق يتحركون مبتعدين كأنهم استيقظوا فجأة، لكن البطل نفسه لا يتحرك ولا ينتهز الفرصة للهرب، بل ينتظرهم كي يعودوا "على أمل أن تبدأ المعركة التي رسمت لها في خيالي مسارات سوداوية متنوعة".

إن النص لا يعالج ظاهرة العنف في الليل ولا السرقة بالإكراه، فهذا كله على السطح، وثمة تواطؤ عليه، لكنه يتغلغل إلى العنف الرمزي، وتمرير حالة الخوف المستمرة إلى روح الإنسان العابر، الذي شيد من مخاوفه دائرة غير مرئية قيدت خطواته. فمهما سعى البطل للعزلة تظل فوضى العالم تطارده في ليل لا ينتهي.

محاولات للموت

إن الموت يعني ببساطة عدم الرضا عن الحياة، لتهافت قيمها ومشاريعها واحتمالاتها. تحت عنوان "الموت ببساطة" يستمر السارد في تعميق حالات البطل المتوحد والمهيمن على النصوص، وهذه المرة يحدثنا عن محاولاته المتكررة للموت، مع صديقته نادية التي تشاركه الرغبة ذاتها، فهي أخبرته أنها "ماتت مرتين فقط" فهل المعنى هنا عن موت فيزيائي للجسد، أم عن موت الأرواح وانسحاقها؟

إن المجموعة لا تستعير التوجه الكلاسيكي للتعبير عن فئات مطحونة ومهمشة كالفلاحين، بل تتبع البطل الفرد ذاته في تحلله العاطفي والفكري، هذا الامتداد للشخصية وقتامة أجوائها، يجعل القصص أقرب إلى متتالية متصلة أو مشاهد من رواية. فلا فرق كبير بين بطل "الموت ببساطة" وعلاقته المعقدة مع حبيبته "نادية" وبطل قصة "يا بغل، أنت لا تعرف شيئاً عن الحب"، فهذا فشل مرات في الموت، والآخر فشل مرات في الحب، لأن الحب يرتبط ارتباطاً وثيقاً بغريزة البقاء، وتحفيز طاقة الحياة، ومع فقده، يصبح المرء أقرب إلى الموت.

"كل قصص الحب تفشل في مرحلة ما، هناك فقط قلة قليلة، تقرر ترميم العلاقة وإعادة إحيائها، لتستمر وهي تعرج على قدم واحدة"، وهكذا يجد البطل نفسه راغباً في الانسحاب من العلاقة متذرعاً بأي حجة مثل التقاط حبيبته صورة رديئة له بهاتفها، لتكرر الجملة الأخيرة ما قيل من قبل: "لا تلغي قصص الحب بعضها بعضاً، إنما تتجاور وتتراكم على مدار حياتك، لترسم في النهاية صورة كبيرة لفشلك الخاص".

أجواء قاتمة

إن شخصاً يطلب العزلة بأي ثمن، الموت بأي طريقة، ويفشل في كل فرص الحب، من الطبيعي ألا نعرف الكثير عن عمله وطموحه، ولا ما الذي يرغب فيه بالضبط، وهو ما تدور حوله قصة "كل ما أريده هو الفرار من العمل". إنه يذهب إلى عمل غامض في مكان ناء، ويلتقي شخصيات غريبة الأطوار، ثم ينتهي النص من دون أن نعرف ما هذا العمل على وجه التحديد، إنه نموذج غامض لمهن كثيرة الآن، في زمن استهلاكي واستعبادي في آن: "عرفتُ أن يومي الأول في العمل قد انتهى عندما رأيتُ الموظفين يخرجون في دفعات".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لا تبعد "لحم حي" كثيراً عن القصة السابقة، لأن بطلها يقضي ليله ونهاره في الإمساك بعصا المكنسة ومحاربة زاوية الحائط التي تحدق فيه وفي أسرته.

أما "حلم كبير" فهي عن بطل لا يعرف كيف يخبر أسرته أنه لم يعد لديه "حلم كبير"، كأن النصوص كلها تنويعات على الهزيمة، وكتابة عنها، حين يصبح كل شيء بلا ملامح، وكل إنجاز بلا قيمة، وكل كلام بلا معنى... كأن بشر المدينة مجرد أشباح في قبضة ليل أبدي، وهو ما تؤكده القصة الأخيرة "آخر الأشباح في مدينة نصر"، فالبطل التائه، مثل الأبطال السابقين الذين لا نعرف عنهم إلا تفاصيل قليلة جداً، يصطدم في الليل بشخص يقدم له نفسه كعضو في "جمعية مكافحة أشباح المدينة"، إن الفوضى الطاغية المقبضة والخالية من النظام والمعنى انعكست على تشوش حواس بطل النصوص، وأدت إلى حالة هذيانية ممتدة أو على حد تعبيره "أشعر بسيولة في ذاكرتي".

ولا يجد سوى سائق تاكسي غامض يحاول مساعدته، للهروب من جمعية مكافحة الأشباح هذه، وحصارها الجنوني. كأن ليل القاهرة على رغم كل فوضاه يفرض حصاراً لا فكاك منه، فلا يملك أبطال النصوص إلا التعايش والإقرار بالهزيمة، وليس ثمة مرجعية تثبت للبطل هل هو شبح ومن يطاردونه هم حقاً جمعية مكافحة الأشباح؟ أم هم أنفسهم الأشباح؟

لن تصلح الأسئلة المنطقية للولوج إلى هذا العالم القصصي السّيال بالهزائم والمخاوف والإحباطات والرغبات المكتومة والجنون العصي على التفسير.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة