Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

يوم دفع فون كارايان غاليا ثمن "تعاونه" المزعوم مع النازيين

رسميو تلفزيون النمسا وعمالقة تجارة الأسطوانات عوقبوا على صراع مفتعل بين عملاقين

هربرت فون كارايان (1908 – 1989) (غيتي)

ملخص

رسميو تلفزيون النمسا وعمالقة تجارة الأسطوانات عوقبوا على صراع مفتعل بين عملاقين

حدث ذلك في فيينا عام 1980 قبل 9 سنوات من رحيل قائد الأوركسترا الكبير هربرت فون كارايان عن عالمنا. يومها كان من المتفق عليه أن تبث التلفزة النمساوية من فيينا مباشرة الحفل الذي يقوده فون كارايان لتقديم أوبرا "دون كارلوس" لفيردي ضمن إطار احتفالات اليوروفيزيون. ولكن قبل التاريخ المحدد بأسبوع فاجأ الموسيقي الكبير المنظمين برفضه القاطع للبث. وكانت مفاجأة تقرب من الفضيحة لأنها تطاول تعاون النمسا مع 14 بلداً أوروبياً في عملية البث – باستثناء فرنسا التي كانت عقدت اتفاقاً مبرماً حول الأمر من قبل -. وكان من الواضح أن موقف فون كارايان يلطخ سمعة أوبرا فيينا والتلفزة النمساوية. ومن هنا كان من الطبيعي لهاتين أن تصدرا بياناً غاضباً يخلص إلى أن عليهما مذّاك وصاعداً أن "تراجعاً كل سياسات التعاون مع السيد هربرت فون كارايان". لكن الموسيقي بقي على موقفه على رغم معرفته بأن القضية لا بد أن تثير غضب دافعي الضرائب النمساويين الذين يدفعون سنوياً ما يساوي 50 مليون مارك ألماني كدعم لدار الأوبرا.

إذا عرف السبب

ومهما يكن فإن القضية لم تبق مبهمة لفترة طويلة إذ سرعان ما انكشفت دوافع فون كارايان الحقيقية التي أوصلته إلى اتخاذ قراره. وكانت دوافع، ما إن انكشفت وتم التأكد منها، حتى راحت حدة الغضب الشعبي النمساوي ضده تخف وبات كثر يرون أن الحق معه في قراره، حتى وإن لم تكن ثمة علاقة مباشرة بين القرار وخلفياته. لكنه، أي القرار يتعلق قي الحقيقة بكرامة الفنان الذي كان يشعر بمرارة كبيرة مما كان قد عومل به قبل فترة يسيرة. فلقد كانت في خلفية ذلك كله مسألة قد تكون أثارت قدراً ما من الاستغراب قبل اتخاذه موقفه بشهور لكن الناس لم يتوقفوا حينها مطولاً عند الأمر. فما الحكاية؟

ببساطة لم تكن التلفزة النمساوية ولا يوروفيزيون المستهدفتين الحقيقيتين بمفاجأة كارايان. بل مؤسسة راعية لهما هي الشركة العملاقة "يونيتيل" منتجة الأسطوانات الألمانية الكبيرة ومقرها في مدينة ميونيخ. فهذه الشركة مملوكة كما هو معروف للثري ليو كيرش الذي كان حينها من عمالقة الإعلام في أوروبا وكان من ضمن مشاريعه إنتاج أفلام موسيقية تباع على المدى الطويل. ومن المعروف أن فون كارايان كان من نجوم الشركة ولكن هذه حين قررت أن تصدر طبعة جديدة من سيمفونيات بيتهوفن التسع، لم تتصل به بل اتصلت بليونارد بيرنشتاين. صحيح أن هذا الأخير يضاهي فون كارايان في أهميته ونجوميته العالمية، ولكن ليس في المجال البيتهوفني طبعاً. ففي النهاية كان فون كارايان وطوال تاريخه معروفاً بكونه سيد الأداء الكبير لأعمال بيتهوفن، والشركة نفسها سبق أن أصدرت له أسطوانات كثيرة كانت من أعظم أعماله في هذا السياق. فما بالها تفضل عليه الآن بيرنشتاين، وسط صخب إعلامي كبير وتعامل مع الموضوع وكأن فون كارايان لم يوجد أبداً؟

السياسة... السياسة

فهل الأمر في حاجة إلى مزيد من التوضيح كي نعرف كيف بنى فون كاريان خطته كي يرد على "تلك المعاملة السيئة" التي عاملته بها الشركة؟ بالتأكيد لا. ولكن ثمة تخمينات انرسمت يومها لم يصرح بها أحد الأطراف المعنية تتعلق بالبعد السياسي للحكاية برمتها. ففي الحقيقة، ربما لـم يعرف القرن العشرون موسيقياً خاض من المعارك الموسيقية وغير الموسيقية مقدار ما خاضه هربرت فـون كارايان، بل إن الرجل حتى بعد رحيله عن عالمنا في يوليو (تموز) 1989 كان عرضة لشتى أنواع الهجوم، لا سيما من قبل تلك الأوساط التي كان همها التأكيد على أن هذا الموسيقي الذي اعتبر أكبر قائد للأوركسترا أنجبه ذلك القرن لم يكن في حقيقة أمره "سوى صنيعة النازيين، وكان متواطئاً معهم". هذا الكلام انتشر بسرعة وقوة خلال السنوات التالية لموت هربرت فون كارايان لكنه كان ينغص عليه عيشه خلال سنوات حياته الأخيرة، حتى وإن كان سيندثر بعد ذلك، إذ إن الأوساط الموسيقية العالمية ومستمعي الموسيقى وهم المعنيون أولاً وأخيراً بماضي فون كارايان ومسيرته، فضلوا دائماً أن يتعاملوا معه كموسيقي محب للكمال وساعٍ إليه، غير مفضّل على الموسيقى أي شيء في العالم، بدلاً من أن يتعاملوا معه، كما شاء خصومه، "كناشط سياسي وقف إلى جانب هتلر". ويقيناً أنه كان من حق فون كارايان أن يرى لمناسبة الحكاية المتعلقة بتسجيل سيمفونيات بيتهوفن طيف الاتهامات الموجهة ضده فيتخذ موقفه على ضوء رغبته الدفاعية عن نفسه.

علامات استفهام

وعلى أية حال لا بد هنا من العودة إلى تلك الحكاية فصحيح أنه كان في حياة فون كارايان بعض الظلال ومن بينها تتلمذه على قائد الأوركسترا الكبير فورتفانغلر، الذي اتهم بدوره بممالأة النازية والسكوت عن جرائمها، ومن بينها أيضاً قيادته أوركسترا برلين السيمفونية في وقت كانت الأوساط الموسيقية العالمية تقاطع كل ما هو ألماني باعتباره صنواً للنازية والهتلرية، غير أن فون كارايان كان دائماً ما ينفي عن نفسه أي لون سياسي، قائلاً إن ما يهمه أخيراً هو الموسيقى ولا شيء غيرها. ولأنه كان على حق في ذلك، أي في التعبير عن موقفه الحقيقي الموسيقي من الحياة، كانت النتيجة أنه رحل وصمتت ولو إلى حين الأصوات التي حاولت النيل من سمعته، بينما بقيت موسيقاه وتسجيلاته التي تعد بالمئات حية ينصت إليها هواة الموسيقى من دون هوادة. لكنه لم يفعل إلا بعدما رد على عملاق الإعلام بطريقته الخاصة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

في موطن موتسارت

فون كارايان على غرار موتسارت الذي أحبه وخدم موسيقاه طوال أيام حياته، كان نمسوياً ولد وترعرع في مدينة الموسيقى والأوبرا وموتسارت، سالزبورغ، وقد درس الموسيقى فـي تلك المدينة نفسها متوجهاً منذ البداية ليكون قائد أوركسترا، وكان أول ظهور له كقائد عام 1927، وهو في الـ19 من عمره في مدينة أولم، حيـث قاد أوركسترا المدينة وهي تعزف السيمفونية الـ 40 لموتسارت، وبعد ذلك بفترة قصيرة من الزمن انتقل إلى برلين حيـث أسندت إليه قـيادة فرقة موسيقى الأوبرا التابعة للدولة هناك، وقد أدى مهمته بنجاح حتى وإن كان ذلك هو ما سوف يؤخذ عليه بعد ذلك. مهما يكن في الأمر فإن فون كارايان عاد عام 1945 إلى فيينا وتولى قيادة فرقتها الأوبرالية، وظل طوال السنوات الـ 10 التالية يتنقل بين أشهر الفرق وأكبر المهرجانات في العالم، مكوناً لنفسه اسماً كواحد من ألمع قادة الأوركسترا في ذلك الحين، وظل ذلك دأبه حتى عام 1955 حين عاد إلى برلين مرة أخرى، ولكن هذه المرة كقائد لأوركسترا برلين السيمفونية التي تعتبر واحدة من أعظم الفرق في العالم، وظل يقود تلك الأوركسترا حتى رحيله عام 1989، ومعها سجل أروع تسجيلات هذا القرن من سيمفونيات بيتهوفن التسع إلى معظم أعمال موتسارت إلى كونشرتو دفوراك للتشيلو والأوركسترا، وصولاً إلى بعض أجمل مؤلفات تشايكوفسكي وسيببليوس. وفي هذه التسجيلات التي كان فون كارايان يعتني بتفاصيلها كافة، كان هذا القائد الفذ ينحو دائمـاً إلى الكمال ويهتم بإزالة الغبار وتوزيع الكراسي وعدد الآلات الوترية وصحة العازفين وطعامهم، وهذا ما جعل النقاد يعتبرون دائماً أن قيادة فون كارايان لأوبرات موزار، على سبيل المثال، لا يعادلها شيء في تاريخ الموسيقى.

حسرة النهاية

ومما تقدم يمكننا على أية حال أن نفهم كيف أن هـذا النمسوي الذي تبنته ألمانيا مات وفي قلبه حسرة، إذ إن الضغوط التي اشتدت عليه في شهور حياته الأخيرة جعلته يبتعد من أوركسترا برلين بعد 34 عاماً من العيش المشترك وحكاية العشق بينه وبين هذه الأوركسترا، وهكذا قضى ذلك الفراق عليه وهو الذي كان قد تمكن من البقاء على رغم تعاقب العهود والحروب والصراعات والأنظمة، وكان يقول دائماً إنه يعيش من أجل الموسيقى ولن يقتله سوى غياب الموسيقى، وكان له ما أراد حين قتله "غياب الموسيقى".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة