Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

فون كارايان الذي عاش حياته من أجل الموسيقى فقتله غيابها

قضى سنواته بين ألحان موتسارت وغناء ماريا كالاس ولم يعبأ بأسلحة السياسة التي لا مفر منها

مهما يكن فإن هـذا النمساوي الذي تبنته ألمانيا مات وفي قلبه حسرة  (غيتي)

قبل نحو عقدين من الزمن حين أرادت إحدى كبرى الصحف الفرنسية أن تقدم لقرائها هدية ثمينة في عز احتدام المنافسة بين الصحف الكبرى على اجتذاب القراء والمشتركين، لم تجد أفضل من تلك الهدية المزدوجة التي تبدت عبر مجموعتين من الإسطوانات المدمجة أطلقتهما تباعاً، تضم إحداهما عدداً لا بأس به من تسجيلات أوبرات سيدة هذا النوع في أوروبا أواسط القرن الـ 20 ماريا كالاس، وكان لافتاً أن الاختيارات التي أرادت أن تكون الجودة المطلقة شعارها حملت في معظمها توقيع هربرت فون كارايان كقائد للأوركسترا، وهكذا عاد هذا القائد الكبير إلى واجهة الأحداث الموسيقية على المستوى العالمي.

موتسارت في الطليعة

غير أن الأهم من ذلك كانت المجموعة الثانية التي كان كارايان نفسه نجمها الأكثر لمعاناً، فلم يطغ عليه فيها ظل "لا كالاس" ولو قيد أنملة، بل قدم هنا عبر نحو 30 أسطوانة تضمنت بعض أعظم التسجيلات التي حققها عبر مساره الإبداعي الكبير، لا سيما في رفقة برلين فلهارمونيك أوركسترا التي كانت داره المفضلة، بل "وطني الحقيقي" كما كان يقول، إلى جانب أوركسترا فيينا التي كانت "وطنه الثاني".

ولئن كانت المجموعة قد ضمت باقات من موسيقى تحمل تواقيع العدد الأكبر من الملحنين فإن ما كان لافتاً إنما هو حصة الأسد التي كانت لتسجيلات من ألحان موتسارت.

والحقيقة أن هذا الإيثار كان طبيعياً ولم يحتج عليه أحد، تماماً كما أن أحداً لم يحتج على وجود تسجيلات من فون كارايان نفسه بوفرة في المجموعة المخصصة لسيدة الأوبرا التي كانت مالئة الدنيا وشاغلة الناس في حياتها، وظلت كذلك بعد رحيلها. ومهما يكن من أمر فلا شك في أن فون كارايان كان يشارك كالاس تلك الحظوة الجماهيرية الاستثنائية، وربما لشؤون تتعلق بحياته الصاخبة، وهو ما سنعود إليه بعد قليل، ولكن أيضاً لشؤون تتعلق بالسجالات الصاخبة التي دارت من حول فنه واختياراته التقنية، وهو الذي كان بالغ الاهتمام بكل تجديد تقني إلى درجة أن من المعروف أنه في 1983، عام ظهور الإسطوانات المدمجة للمرة الأولى، كان الأول في العالم الذي وضع عملاً من أعماله على إسطوانة من هذا النوع، وكانت السيمفونية الآلبية التي باعت ملايين النسخ خلال فترة قصيرة، وهنا لا بد من أن نشير إلى أن فون كارايان كان عامها في ذروة مجده ويعتبر في العالم كله قائد الأوركسترا الأكثر إنتاجا للأسطوانات في التاريخ والأكثر  بيعاً، إذ إن عدد ما بيع من أسطواناته لسنوات قليلة لا يقل عن 300 مليون نسخة، ناهيك عن أن إسطوانته التي صدرت للمرة الأولى العام 1974 وتضم سيمفونيات بيتهوفن التسع وتعتبر عادة التسجيل الأشهر والأكثر انتشاراً لهذه السيمفونيات، منذ أن صدرت مدمجة أواسط الثمانينيات وما لبثت أن قفزت أرقام مبيعاتها بشكل مدهش، وبات يقال إن ما من هاو حقيقي للموسيقى الكلاسيكية يمكنه أن يستغني عنها.

والحقيقة أن الأمر مع فون كارايان لا يقتصر على هذه الأبعاد الكمية، بل إن ثمة دائماً تلك السجالات التي أشرنا إليها حول تقنياته، ولعل أشهرها ما دار حول تسجيله لما يسمى بسيمفونيات هايدن الباريسية، والتي تناولها كبار نقاد الصحافة الأميركية متسائلين عما إذا كان أسلوب فون كارايان في تسجيلها فرنسياً حقاً أم أنه بقي محصوراً في الإطار التفخيمي الألماني المعهود. وطبعاً قد لا تبدو هنا، من خلال هذا الكلام، واضحة أهمية النقاش، لكنه كان حاسماً بالنسبة إلى التقويم العام لفون كارايان، وهو تقويم أتى لمصلحته حين حسمه الناقد المرجع جون روكويل على صفحات "نيويورك تايمز" حينها.

وللسياسة أيضاً مكانها

على أية حال ربما لـم يعرف القرن الـ 20 موسيقياً خاض من المعارك الموسيقية وغير الموسيقية مقدار ما خاضه هربرت فـون كارايان، بل إن الرجل حتى بعد رحيله عن عالمنا في يوليو (تموز) 1989 كان عرضة لشتى أنواع الهجوم، لا سيما من قبل تلك الأوساط التي كان همها التأكيد على أن هذا الموسيقي الذي اعتبر أكبر قائد للأوركسترا أنجبه القرن الـ 20 "لم يكن في حقيقة أمره سوى صنيعة النازيين، وكان متواطئاً معهم".

هذا الكلام انتشر بسرعة وقوة خلال السنوات التالية لموت هربرت فون كارايان، غير أنه سرعان ما اندثر، إذ إن الأوساط الموسيقية العالمية ومستمعي الموسيقى وهم المعنيون أولاً وأخيراً بماضي فون كارايان ومسيرته، فضلوا دائماً أن يتعاملوا معه كموسيقي محب للكمال وساعٍ إليه، غير مفضل على الموسيقى أي شيء في العالم، بدلاً من أن يتعاملوا معه، كما شاء خصومه، كناشط سياسي وقف إلى جانب هتلر.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

صحيح أنه كان في حياة فون كارايان بعض الظلال ومن بينها تتلمذه على قائد الأوركسترا الكبير فورتفانغلر، الذي اتهم بدوره بممالأة النازية والسكوت عن جرائمها، ومن بينها أيضاً قيادته أوركسترا برلين السيمفونية في وقت كانت الأوساط الموسيقية العالمية تقاطع كل ما هو ألماني باعتباره صنواً للنازية والهتلرية، غير أن فون كارايان كان دائماً ما ينفي عن نفسه أي لون سياسي، قائلاً إن ما يهمه أخيراً هو الموسيقى ولا شيء غيرها.

ولأنه كان على حق في ذلك، أي في التعبير عن موقفه الحقيقي الموسيقي من الحياة، كانت النتيجة أنه رحل وصمتت ولو إلى حين الأصوات التي حاولت النيل من سمعته، بينما بقيت موسيقاه وتسجيلاته التي تعد بالمئات حية ينصت إليها هواة الموسيقى من دون هوادة.

في موطن موتسارت

فون كارايان على غرار موتسارت الذي أحبه وخدم موسيقاه طوال أيام حياته، كان نمسوياً ولد وترعرع في مدينة الموسيقى والأوبرا وموتسارت، سالزبورغ، وقد درس الموسيقى فـي تلك المدينة نفسها متوجهاً منذ البداية ليكون قائد أوركسترا، وكان أول ظهور له كقائد عام 1927، ووقتها كان في الـ19 من عمره في مدينة أولم، حيـث قاد أوركسترا المدينة وهي تعزف السيمفونية الـ 40 لموتسارت، وبعد ذلك بفترة قصيرة من الزمن انتقل إلـى برلين حيـث أسندت إليه قـيادة فرقة موسيقى الأوبرا التابعة للدولة هناك، وقد أدى مهمته بنجاح حتى وإن كان ذلك هو ما سوف يؤخذ عليه بعد ذلك.

مهما يكن في الأمر فإن فون كارايان عاد عام 1945 إلى فيينا وتولى قيادة فرقتها الأوبرالية، وظل طوال السنوات الـ 10 التالية يتنقل بين أشهر الفرق وأكبر المهرجانات في العالم، مكوناً لنفسه اسماً كواحد من ألمع قادة الأوركسترا في ذلك الحين، وظل ذلك دأبه حتى العام 1955 حين عاد إلى برلين مرة أخرى، ولكن هذه المرة كقائد لأوركسترا برلين السيمفونية التي تعتبر واحدة من أعظم الفرق في العالم، وظل يقود تلك الأوركسترا حتى رحيله عام 1989، ومعها سجل أروع تسجيلات هذا القرن من سيمفونيات بيتهوفن التسع إلى معظم أعمال موتسارت إلى كونشرتو دفوراك للتشيلو والأوركسترا، وصولاً إلى بعض أجمل مؤلفات تشايكوفسكي وسيببليوس.

وفي هذه التسجيلات التي كان فون كارايان يعتني بتفاصيلها كافة، كان هذا القائد الفذ ينحو دائمـاً إلى الكمال ويهتم بإزالة الغبار وتوزيع الكراسي وعدد الآلات الوترية وصحة العازفين وطعامهم، وهذا ما جعل النقاد يعتبرون دائماً أن قيادة فون كارايان لأوبرات موزار، على سبيل المثال، لا يعادلها شيء في تاريخ الموسيقى.

حسرة النهاية

مهما يكن من أمر، فإن هـذا النمسوي الـذي تبنـته ألمانيـا مـات وفــي قلبــه حسـرة، إذ إن الضغوط التي اشتدت عليـه فـي شهـور حياتـه الأخيرة جعلته يبتعد عن أوركسترا برليـن بعد 34 عاماً من العيش المشترك وحكاية العشق بينه وبين هذه الأوركسترا، وهكذا قضى ذلك الفراق عليه وهو الذي كان قد تمكن من البقاء على الرغم من تعاقب العهود والحروب والصراعات والأنظمة، وكان يقول دائماً إنه يعيش من أجل الموسيقى ولن يقتله سوى غياب الموسيقى، وكان له ما أراد حين قتله "غياب الموسيقى".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة