ملخص
"أشجار غير آمنة" و"عزيزتي بيروت... هنا مونتريال" ديوانان يواجهان قسوة العالم
تقف الشاعرة اللبنانية دارين حوماني عند الحافة التي يصير لها صوتها الخاص ورؤيتها الفريدة للعالم ولغتها الشعرية التي تؤهلها لرفع التحديات، واحداً بعد آخر، في وجه نفسها أولاً ولغتها. وكذلك في وجه "أوبئة العالم " وفي وجه الأنظمة الفكرية والماورائية التي ترسم حدوداً للبشر ولا ترحم الحجر ولا ترتد.طبعاً، ليست هذه هي الطريقة المثلى لتقديم الشاعرة دارين حوماني، المهاجرة إلى كندا، والمقيمة في مدينة مونتريال لـ20 عاماً خلت والعاملة في الصحافة الثقافية.
يقول رومان ياكوبسون في رده على بعض دعاة مجانية الشعر "إنه الشعر الذي يحمينا من الأتمتة، من الصدأ الذي يتهدد صيغتنا في الحب والحقد، والانتفاض والمصالحة، ومن النفي". ولربما نزيد على ما قاله ياكوبسون إن الشعر ربما يقينا شر قساوة الحداثة وهمجية العصرنة، بحسب الفيلسوف الفرنسي ميشال هنري، ويخفف من "ظلم ذوي القربى" ويعدل من وقع الإساءات التي تحسب للوطن وعليه... وهي شكايات لا تني الشاعرة دارين الحوماني تبسطها في معظم قصائدها، وتصنع لها خطاباً واضح المعالم في المجموعتين الشعريتين الأحدث لها، وهما "أشجار غير آمنة" و"عزيزتي بيروت... هنا مونتريال" الصادرتان على التوالي في 2022 و2023 عن دار النهضة العربية ومن دار عائدون للنشر.
ولكن هل يعني هذا التقديم أن القارئ أغفل بنيان قصائدها المعتبرة ضمن نوع "قصيدة النثر"؟ للإجابة نقول إن الحديث عن قصائد النثر، أيّاً يكن صاحبها أو صاحبتها، لا يكتمل إلا بتوصيف البنى والمظاهر الشكلية العامة التي تصنع شعرية الشاعرة، أي التي تبين سماتها الأسلوبية التي تصنع أدبية أعمالها وتدل دلالة مخصوصة على عالمها ورؤيتها الإنسانية والفكرية.
"أشجار غير آمنة"
في المجموعة الشعرية الخامسة، عنيت "أشجار غير آمنة"، قصائد تتراوح حدة وبوحاً وغنائية ونقداً اجتماعياً واستحضاراً لطفولة عزيزة على قلب الشاعرة الإنسانة، وتعرية للحضارة ودفاعاً عن "شجيرات تطيع كلام الله" (ص:97) ومجادلة في الإيمان واستذكاراً لبعض الأصدقاء الراحلين وغيرها.
إذاً، تقر الشاعرة من أول قصيدة تفتتح بها المجموعة الشعرية، بأن الشعر هو نقيض العالم قيد الانهيار والتلاشي، إذ تقول "قريباً ستتوقف الحضارة/ عن تنشق الشتاء/ وسنقبع بلا معنى/ داخل عالم إلكتروني/ يفصل بيننا صحن طائر/ ووهم عميق".
ولا تلبث أن تمتد بصيرتها في قصيدة "الشجرة الأخيرة" لتعلن اكتشافها الثاني أن لا أحد هنا يشبه الله وأن المدينة تتمدد على حساب الشجر والناس والموتى، وأن هؤلاء، بحسبها، لا يخفون حزنهم الشديد على احتضار الشجر، وذلك في ذروة يأسها من الحضارة المعاصرة "ثم تكتشف/ أن لا أحد هنا يشبه الله/ وأن لا أحد/ سيخرج بحديقة في رأسه/ الموتى الذين علا صراخهم ذات عتمة/ يحزمون أصواتهم/ بمنابت الأشجار/ كي لا تصيح من جديد/ المدينة تتمدد على ظهري/ قاسية وحشية".
لا يسع القارئ سوى تبين ملامح للرومانسية في شعر حوماني، مطعمة بحساسية مفرطة حيال النهش الذي تتعرض له البيئة القريبة منها، بل لعل قرابة روحية أولية بين كيان الشاعر والطبيعة الريفية الأولية، ممثلة بالشجرة، كانت ترسخت في نفس الشاعرة المرهفة، فجعلتها محوراً من محاور جدالاتها الشعرية على امتداد المجموعة الشعرية، إذ تجعل الشجرة كائناً لازماً للجنة، كما تتصورها، وكل ما عداها عديل للجحيم، أو للواقع المديني الموحش والمتحجر، على ما تراه "شكل آخر للشجرة/ ظل الشجرة ليس الشاعرة/ مقتنعين أن الدمى نفسها أكلت من أغصانه".
بين الخطيئة والخطأ
من المحاور اللافتة في المجموعة الشعرية "أشجار غير آمنة"، وإن تكن غير متواترة كثيراً، تصور للخطيئة، لا الخطأ، يتساوق مع وجهة نظرها المنتقدة انتقاداً شديداً لسلطان الرجل الشرقي وللقوانين والأحكام الجائرة التي يصدرها المجتمع بحق الأنثى والمرأة، فكيف إذا أحبت أو رغبت في ما أو فيمن يخالف معاييره ودساتيره المتزمتة والقاهرة. تقول "كأننا ارتكبنا خطيئة لا تغتفر/ أو كأننا قتلنا مكاناً في الله/ أتكلم مع دمى/ حولوا حياتي إلى يباب". وفي موضع أخر تقول "وجدني الزمن في ممرات مظلمة/ يتناوب على جسدي رجال خبثاء/ كان لي شأنٌ عظيمٌ في الخطيئة/ أريد من يقشر ذاكرتي...".
بيد أن هذا الشعور بالذنب الذي كانت تجرعته ظلماً من قبل عاذليها في مجتمعها المشرقي، وردت بعنف على هؤلاء الذكوريين، لا سيما كل من ادعى الحفاظ على القيم والأخلاق، نراه ضمر كثيراً في المجموعة الأخيرة "عزيزتي بيروت... هنا مونتريال"، فتحولت الخطيئة لديها إلى خطأ، على ما قالته في قصيدة "صلاة لـ"كوفيد- 19"، "في هذا الفراغ يراعات متوهجة/ لا أدري كيف دخلت/ حاملةً أخطائي على ظهورها"، وتضيف "نوافذ تفتحها الريح فتطل إيماءات أخطائنا/ هل من طريقةٍ لتموتَ (الذكريات) دفعةً واحدة".
مسحة الحزن والدفق الشعوري
لا يتعب القارئ في النفاذ السريع إلى العالم الموازي الذي عملت الشاعرة على نحته وتصويره وبسطه مع فيض من المشاعر الجاهزة دوماً، والدفاقة على النحو الذي يخل أحياناً بمنطق التداعي الداخلي الذي غالباً ما تلجأ الشاعرة إليه لتنمية القصيدة. يرفد كل ذلك ثراء معجمي هو طوع تعبيرها ولحظتها الشعرية التي لا تحتاج، عندها، إلى جهد كبير. ومع ذلك، تبلغ القارئ مسحة من حزن شفيف تتسع له المجموعتان، بل ربما رانَ على سائر مجموعاتها الشعرية السبع، ربما ليقين ثابت بأن لا خلاص للذات المعانية والضائقة بضوضاء العصرنة وإساءات ذوي القربى وربما بسبب أسى لا حد له ناجم عن حال من الغربة والاستلاب لا شفاء منهما، أو بسبب يقينها من حتمية نهاية الحب. تقول "قواعد اللعبة/ أن تمارس الحب مع الفراغ/ وعند الصباح تغسل القذارة عن القلب/ ها هما يفترقان/ مثل كل الأشياء الجميلة التي لا تدوم/ لكن من الضروري أن تتابع البحث/ وتلتقط الحب بالملقط/ وتحتفظ به في الخزانة"، ثم تقول "كان شتاءً صعباً مثل يأس عميق"
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومع ذلك، لا تتوانى الشاعرة عن البوح بحبها لمحبوبها، وتوصيفه أعني الحب، والإعلان الصريح عن رغبتها في البقاء إلى جانبه، واستحضار ذكرى لقائهما والشكاية من بعده عنها، ومناجاته ولو على النأي، ومن دون أن تسيل وجدانيتها أو تدوزنها على مقاسات مستعارة من تراث الغزل التقليدي أو المجدد. حسبها أن على الذات أن تحب بلغتها الخاصة وتحكي آلامها بمفردات تلمها من موضع الكبوة ومفاعيل الألم والفقد والتعلق بهدب الحبيب، أما الصور والتراكيب والإيقاعات الداخلية والتوازنات وغيرها، فتابعة جميعها لخليط الغنائية والوجدانية والعبثية الذاهبة حد العدمية أحيانا.
تقول "أحببتكَ/ يومَ لم يعدْ لي متسعٌ في هذا العالم المفترِس/ خرجتَ من كتبي مثلَ حقيقةٍ مصفاة/ تدفعني لأكتشفَ حريتي/ أن أحتفي بظلي...". وتقول أيضاً "أود أن أكون معك/ على بعد سنين ضوئية/ من قريتي وأمي وقبرِ أبي وإخوتي وبيروت/ والذين أحببتهم والذين آلموني/... أريد أن أحبكَ كثيراً من جديد/ دون هواجس الماضي والحاضر والمستقبل...".
وفي موضع آخر تقول "كان يمكن أن أحبك دائماً/ أن أحتفظ بوجهك المغروز في جحيمي/ جحيمي الذي كنتَ تطفئه بصوتك المفتوحِ على الضوء/ والشغف الذي لا يتناقص...".
أبعد من الهجرة
ولو شاء القارئ، الناظر بانورامياً إلى نتاج دارين حوماني الشعري منذ كتابها الخامس "العبور بلا ضوء" و"أشجار غير آمنة" و"عزيزتي بيروت... هنا مونتريال"، لوجد أن الشاعرة تراكم تجارب في القبض على زمام التجربة وتجويد الصورة والمشهد الشعري وتحسين اللعب بحدود قصيدة النثر، من القصيدة الشبيهة بالهايكو، إلى المقطعة، فإلى القصيدة التامة والطويلة نوعاً ما. وبالتماشي مع العناية ببنى قصائد النثر وباللغة المخففة والمعجم المنتقى بدقة، الشاعرة حوماني تضيف إلى انشغالاتها المعنوية جدالات في مسائل عدة، في القرابة وإساءاتها وفي الموت وانعدام المعنى وفي رعاية الأبناء وسط محيط عدائي وفي الفراغ وقطع الشجر الإجرامي وفي الخطأ والخطيئة والشعراء والغربة المكانية والاستلاب الأفدح منها، وغيرها كثير مما يفيض عن المراجعة.