Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الأميركية سيندي شيرمان تسائل الهوية الفردية فوتوغرافياً

مسيرة فنية فريدة جسدت خلالها صورة الذات وتمزّقاتها في زمننا الراهن

صورة فوتوغرافية  بكاميرا سيندي شيرمان (الخدمة الإعلامية)

ملخص

مسيرة فنية فريدة جسدت خلالها صورة الذات وتمزّقاتها في زمننا الراهن

في عصر الـ "سيلفي" والصور المبتكرة بواسطة الذكاء الاصطناعي، تبقى المصوّرة الأميركية سيندي شيرمان في عملها خارج أي تصنيف. فهذه الفنانة خلقت مدرسة في فن صورة ال"سيلفي" أضيفت إلى تجاربها السابقة في حقل الفوتوغرافيا ما بعد الحديثة. وقد تعرف الجمهور العالمي عليها من خلال معارض عديدة أقامتها في أميركا وأوروبا، وأحدثها معرضها الحالي في غاليري "هاوسر أند ويرث" في زيوريخ، الذي يشكّل بمضمونه الجديد تجربة فريدة من نوعها. فمن هي هذه الفنانة التي تبهر بأعمالها الفوتوغرافية؟

لمن يجهل هذه الفنانة المدهشة على أكثر من صعيد، نشير بدايةً إلى أن عملها الفوتوغرافي الثوري يسائل موضوع الهوية الفردية وتمثّلاتها في وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي المعاصرة، وذلك منذ نهاية السبعينيات، حين لمع نجمها مع مجموعة "جيل صور"، إلى جانب فنانين مثل شيري ليفين، ريتشارد برينس ولويز لولر. ففور استقرارها في نيويورك عام 1977، بدأت بإنجاز "لقطات بلا عنوان" التي فتنت النقاد آنذاك، وهي سلسلة بورتريهات ذاتية بالأسود والأبيض، جسّدت شيرمان فيها عدداً كبيراً من الشخصيات النسائية المعروفة وأخرى مستوحاة من أفلام هوليود الكلاسيكية، البوليسية والشعبية. صور استخدمت فيها أزياء ولوازم للتزيين وقطع ديكور مختلفة للتلاعب بمظهرها واستكشاف ذلك التوتر بين الهوية والحِيَل الشكلية لتمثيلها في الثقافة الاستهلاكية.

 

مذّاك، شكّل هذا الموضوع شاغلاً رئيساً لها، كما يشهد على ذلك عملها طوال الثمانينيات الذي انكبت فيه على إعادة صياغة صور شخصيات مألوفة لدى الجميع، غالباً بطريقة تثير البلبلة والضيق. ففي عام 1981، أنجزت "صفحات وسطى"، وهي سلسلة صور مزدوجة مستوحاة من المجلات الإروسية للرجال، تبدو شخصياتها في حالات هشّة وملتبسة بفعل عملية التأطير. وفي منتصف الثمانينيات، انحرفت بلغتها البصرية في اتجاه استكشاف الجوانب الأكثر بشاعة في البشرية، بموشور الرعب أو الدناءة، كما في سلسلتيّ "قصص خرافية" (1985) و"كوارث" (1986 ــ 1989). صور مثيرة للقلق أو الاشمئزاز، لجأت الفنانة فيها إلى أطراف جسدية اصطناعية وباروكات وعارضات أزياء من خشب أو بلاستيك... وباختصار، إلى أشياء تحوّلت إلى مفردات بصرية ــ مسرحية في سلاسل لاحقة، غايتها إما تعزيز الجانب المصطنع في الهويات النسائية التي كانت تصوغها، كما في "صور جنسية" (1992)، أو تبديد الشعور بالوهم الناتج منه، كما في "بورتريهات تاريخية" (1988).

الصورة والتكنولوجيا

ومنذ عام 2000، بدأت شيرمان باستخدام التكنولوجيا الرقمية لمزيد من التلاعب في مظهر شخصياتها. ففي سلسلة "مهرّج" (2003)، أسقطت داخل صورها خلفيات هلوسية، مرحة ومقلِقة في الوقت نفسه، تساهم في تعرية التباين بين دواخل شخصياتها وظاهرها. وفي سلسلة "بورتريهات مجتمع" (2008)، استخدمت شاشة خلفية خضراء لخلق ديكور فخم لنساء الطبقة الإجتماعية العليا، اللواتي مثلن في صورها. نساء يحضرن بوجوه خضعت لتبرّج مفرط، وبوضعيات تبيّن مواجهتهن الشيخوخة بانغماسهن في وضعهن الاجتماعي.

 

وفي أعمالها اللاحقة، ثابرت شيرمان على تقديم رؤية ساخرة لهوس الفتوة والجمال الذي وقعت النساء ضحيته منذ مطلع القرن العشرين. ففي سلسلة "جداريات" (2010) التي عُرِضت في "متحف نيويورك للفن الحديث"، نشاهد شخصيات نسائية مختلفة على خلفيات رقمية، بباروكات على وشك السقوط، وفساتين من القرون الوسطى، ووجوه بلا مكياج تم التلاعب بملامحها بتطبيق "فوتوشوب". وفي سلسلة "شابات" (2016)، تحضر نجمات هوليود الكلاسيكيات بهشاشة ناتجة من هرمهن، تعززها ملابسهن البرّاقة ومساحيق التجميل التي تعلو وجوههن. وفي عام 2017، بدأت الفنانة باستخدام "إنستغرام" لتحميل بورتريهات خضعت لعدة تطبيقات خاصة بضبط الوجه، وتحويل كل واحد من الأشخاص فيها إلى شخصيات مختلفة داخل ديكور متعدد الألوان. والنتيجة؟ صور مربِكة وغريبة تبيّن كيف يفصل "إنستغرام" مستخدميه عن الواقع.

باختصار، عمدت شيرمان منذ عقدين إلى صياغة شخصيات بواسطة التلاعب الرقمي، بغية الشهادة على تمزّقات الذات وصورتها في المجتمعات الحديثة. عمل بلغ ذروته في سلسلة بورتريهاتها الذاتية المعروضة حالياً في زيوريخ، التي أزالت فيها أي خلفية مسرحية، للتركيز على الوجه فقط، وزاوجت تقنية الكولاج الرقمي لصور بالأسود والأبيض أو الألوان، بوسائل تحويل أخرى تقليدية، كالمكياج والشعر المستعار والملابس، لتجسيد شخصيات صادمة بوجوهها الضاحكة أو العابسة أو المتشنجة إلى حد التشوه.

 

ولخلق هذه الشخصيات، صوّرت الفنانة أجزاء معزولة من وجهها ــ العينين، الأنف، الفم، الأذن، البشرة، الشعر ــ عمدت لاحقاً إلى قصّها ثم لصقها على صورة أساسية، بعد التلاعب بها، مفككةً وجهها ثم معيدة بنائها بطرق جديدة لا تحصى. وبتأديتها دور المصوّر والموديل في آن واحد، قلبت أيضاً في طريقها ديناميكية الفنان وموضوعه التي تتحكم عادةً في العمل الفوتوغرافي. فالموديل في هذه الصور لا وجود له لأن جميع البورتريهات تتكون من أجزاء مختلفة لوجه شيرمان. ومع ذلك، تمنحنا هذه الاعمال الانطباع بحضوره لأننا نتلقاها دائماً كبورتريهات كلاسيكية.

 

وبالتأطير الضيق المعتمد فيها، الذي يجتاحه غالباً شعر كثيف، وبالوجوه المحرّفة إلى حد التشويه داخله، كما في اللوحات التكعيبية، يفجّر بناء هذه الشخصيات أيضاً ثنائية المتأمِّل والمتأمَّل فيه التي ترتبط بتقليد البورتريه، بينما تحوّل تفاصيل طفيفة ملامح الوجه وعملية إدراكه، مثل لفّ منشفة حول الرأس، أو نقل حاجب من صورة إلى أخرى ولصقه في غير مكانه، أو المبالغة في تمديد الفك أو الخدّين، أو في تعزيز حدة التعابير.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويحاكي هذا النوع من التشويه استخدام الفنانة الأطراف البشرية الاصطناعية في "بورتريهات تاريخية" (1988) و"أقنعة" (1990). فكما في هاتين السلسلتين، يضخّم التلاعب الرقمي في صورها الجديدة التوترات بين الهوية والحِيَل المعتمدة لتمثيلها، بتوليفه أو تنضيده أجزاء صور بالأسود والأبيض، وأخرى بالألوان، الأمر الذي يبلبل أي إدراك لواقع ما، ويستحضر يد الفنانة العابثة، وفي الوقت نفسه، يعود بنا إلى الصور الملونة والمقصوصة يدوياً التي أنجزتها في السبعينيات. وباستثمارها تقنية التنضيد والتوليف على هذا النحو، تبتكر شيرمان في كل واحدة من صورها كائناً متعدداً، بغية إثبات أن الهوية ميزة بشرية معقّدة، وغالباً مشيَّدة، يتعذّر التقاطها في صورة واحدة.

عمل فوتوغرافي لا سابق له إذاً، يشكّل أيضاً تأملاً في الزمن وطريقة تحويله إيانا بعبوره: "من ناحية معينة، تساعدني هذه الصور على تقبّل هرمي"، صرّحت شيرمان لأحد النقاد، مضيفة: "أتخيّل أن هذا ما أنا عليه الآن. لكني أتابع تنكّري، بخلطي وتلاعبي بمختلف أجزاء وجهي، كي لا تبدو أي واحدة من هذه الصورة مثلي تماماً. لعل ذلك يساعدني، في السرّ، على تقبّل حقيقة أنني لست سرمدية".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة