Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الهاتف الجوّال يدمّر صناعة الفوتوغرافيا التقليدية

شركات مصنّعة للكاميرات تعلن خروجها من الميدان والتكنولوجيا الرقمية وضعت الفن الجميل بين أيدي الجمهور

انتهت "حياة" الصندوق السحري بسبب التقدم التكنولوجي (غيتي)

ثمة حسرة وحزن في قلوب الذين اتخذوا من التصوير الفوتوغرافي حرفة، أو هواية جادة لهم، وهم يرون بداية النهاية لذلك الصندوق الذي لا يقل وصفه عن السحري. وهذا لأن التقدم الهائل السرعة في تكنولوجيا الهاتف الذكي (الجوّال) أتاح لهذا الوافد الجديد - الذي لا يقل وصفه عن المذهل - الوصول إلى مستويات عالية في تقنية الفوتوغرافيا حملت في طياتها أسباب انقراض الكاميرا التقليدية.

بداية النهاية

قبل أيام فاجأت "أوليمباس" Olympus، إحدى أكبر شركات التصوير الفوتوغرافي في العالم، عالم المصوّرين الفوتوغرافيين، والفيديو، والسينما بإعلانها التوقف عن إنتاج كاميراتها الشهيرة بسبب الخسائر الهائلة المتلاحقة في مبيعاتها خلال السنوات الثلاث الماضية. وقالت إن "التعامل في سوق الكاميرا الرقمية ما عاد مبرراً تجارياً، رغم الجهود المضنية التي بذلناها للبقاء فيها". وأضافت الشركة اليابانية أنها باعت جناح إنتاجها الفوتوغرافي، الذي بدأ العمل قبل 84 سنة، لشركة "جيه آي بي" (اليابانية أيضاً) ليقتصر عملها منذ الآن وصاعداً على تصنيع معدات التصوير المختبري والطبي. وأرجعت السبب في هذه الخسائر إلى انكماش سوق الكاميرا التقليدية أمام زحف الهاتف الجوال. أما السبب الآخر الواضح للعيان – رغم أن الشركة لم تخض في تفاصيل آثاره - فهو الوضع الاستثنائي الذي فرضته جائحة  كورونا، وما ترتب على ذلك من إقامة منزلية جبرية نفت الحاجة تقريباً لشراء المنتجات الجديدة من معدات التصوير – إلى حين عودة الحياة إلى ما كانت عليه في ميقات لا يعلم أحد متى يأتي.

وقبل أقل من شهرين خرجت "نيكون"، وهي إحدى شركتين عملاقتين في إنتاج الكاميرا (الأخرى "كانون") ببيان غير مسبوق في تاريخ شركة البصريات اليابانية هذه منذ تأسيسها قبل 103 سنوات، وعلى عكس المتبع في تاريخ العلاقات العامة، أقرت فيه بأنها تعاني من "خسائر استثنائية" في مبيعات كاميراتها. وأرجعت السبب في هذا إلى تقلص سوق الكاميرا (معترفة ضمنياً بتغول الجوّال) مضيفة أن جائحة كورونا فاقمت هذا الوضع إلى حد "لا يحتمل".

من العدم إلى الوجود

الواقع أن هواة التصوير، ومحترفيه أنفسهم يقعون في فريقين سنسمي أقدمهما "الرعيل الأول" المؤلف مع أجيال المصوّرين الذين تعاملوا مع كاميرا الفيلم الذي يستلزم التحميض، والطباعة لرؤية الصورة. أما الفريق الثاني فهو الجيل الذي بدأ التصوير، كمهنة أو هواية، وفي يده كاميرا رقمية بسبب انقراض كاميرا الفيلم.

ولو أنك تأملت حال الرعيل الأول عندما تبيّن فوق الشك أن الكاميرا التي عرفوها وأحبوها صارت من مخلفات الماضي، لوجدت في قلوبهم حسرة وحنيناً طبيعييْن لأن الإنسان ألوف لا يريد أن يفقد ما اعتاد عليه. وصحيح أن التكنولوجيا الجديدة ربما وضعت فن التصوير في يد الجماهير - بدلاً عن الأفراد - لكنها نزعت عن التصوير فنّه.

ولنذكر أولا أن كاميرا الفيلم كانت تستلزم معرفة مزدوجة، شقها الأول يتعلق بالتقاط الصورة "السليمة"، أي تلك التي لا يغمرها الضوء حتى تصير باهتة، أو يقل فيها حتى تصبح مظلمة. ويتلخص هذا الشق في الإلمام بـ"مثلث" الفوتوغرافيا، والعلاقة بين أضلاعه الثلاثة، الأول مقدار فتحة العدسة، والثاني الزمن الذي تظل فيه العدسة مفتوحة. أما الثالث، فهو درجة حساسية الفيلم للضوء، وهو الذي يحدد طول كل من الضلعين الآخرين. وكانت الأفلام تقع في عدد من الفئات تحمل معيار "آي إس أو" ISO الذي يحدد الموازين الصحيحة بين مقدار فتحة العدسة، والزمن الذي تظل مفتوحة فيه.

أما الشق الآخر فيستدعي معرفة تخصصية تتعلق بالقدرة على التحميض، والطباعة في ما يعرف بـ"الغرفة المظلمة" dark room. وكانت هذه متاحة للنخبة من المصورين الذين يسعون إلى التحكم في الصورة من الألف إلى الياء. وكنت تجد أن هؤلاء يفضلون التصوير بالأبيض والأسود على الملوّن. وفي هذا الصدد فلنذكر أيضا أن الأفلام الملونة كانت تستلزم من المعامل ما لا يستطيع السواد الأعظم من الأفراد اقتناءه.

خلاصة القول هنا أن التصوير بكاميرا الفيلم كان رحلة تحمل في نهايتها إحساساً جميلاً بالخلق والإنجاز، بخاصة إذا كان المصوّر يتولى أيضاً تحميض وطباعة أفلامه. وهي عملية تصل ذروتها في لحظات سحرية حقاً تأتي عندما تبدأ الصورة في الظهور على الورقة البيضاء من العدم إلى الوجود... وكأنها بفعل جنيّ المصباح السحري.

عبر الزمن

قد لا يعرف العديد منا أن فكرة الكاميرا تعود إلى عالِم البصريات أبو علي الحسن بن الهيثم، المولود في البصرة، وعاش بين 965م، و1040م خلال "عصر الإسلام الذهبي". وكان أبو الهيثم قد تحدث عما أسماه "القُمرة" (التي حرفّتها اللغات اللاتينية إلى "كاميرا"). ورأت فكرته النور في 1500 مع اختراع كاميرا الثقبcamera obscura، وهي صندوق (أو حاجز معتم) في مركزه ثقب متناهي الصغر يدخل عبره الضوء ليقع على سطح لامع، ناقلاً صورة معكوسة عرضياً (كصورة المرآة) وأيضا مقلوبة طولياً لتلك التي أتى بها الضوء. ويُعرف أن يوهانيس فيرمير، أشهر الرسامين الهولنديين في القرن السابع عشر، وظف كاميرا الثقب هذه لإنجاز أشهر لوحاته مثل "فتاة قرط اللؤلؤ"، و"خادمة الحليب"، وغيرهما.

على أن تاريخ الكاميرا القادرة على طباعة الصورة لم يبدأ إلا قرب منتصف القرن التاسع عشر وتحديداً العام 1940 مع اختراع الـ"داغيروتايب" وهي الصورة المطبوعة ببخار الزئبق على صفيحة نحاسية مطلية بماء الفضة.

أما أول كاميرا تستخدم الفيلم فتعود إلى العام 1900، وكانت من إنتاج شركة "كوداك – إيستمان" باسم "براوني" Brownie التي صارت الأساس لإنتاج كاميرا الفيلم العريض والمتوسط (الصندوق ذو العدستين) القادرة فقط على عكس الصورة مقلوبة. ومن هنا قاد التقدم العلمي إلى الكاميرا العاكسة أحادية العدسة single-lens reflex . وكانت أولى الكاميرات من هذا النوع الجديد - القادر على عكس الصورة في وضعها الصحيح (غير المقلوب) – هي "كاين إكساكتا" الألمانية المنتجة العام 1936. هذه هي الكاميرا في شكلها الذي نعرفه اليوم، ولم يتغير فيها شيء غير أن التكنولوجيا الرقمية استغنت عن الفيلم، وصار بوسع المصوّر أن يرى صورته فور التقاط الصورة – وهذا إضافة إلى ما يتوفر لها من مزايا يستحيل على كاميرا الفيلم أن تقدمها.

الكاميرا الرقمية

ما يفعله الجوال بالكاميرا التقليدية اليوم هو جزء مما فعلته الكاميرا الرقمية نفسها بكاميرا الفيلم. ولكن، على سبيل المقارنة، فإن تطور الجوال لا يعني بالضرورة أن من امتلك كاميرا (رقمية) سيعجز عن استخدامها، وإن أغلقت سائر شركات الفوتوغرافيا أبوابها اليوم. وهذا لأن كلاً من الجوال، والكاميرا ينهلان من نفس النبع التكنولوجي، ولا فرق بين الاثنين إلا في سهولة الاستخدام، والخيارات الشخصية في ما يخص الحجم والوزن... الخ. ولكن، في الجهة الأخرى، كان تدمير الكاميرا الرقمية لسابقتها الفيلمية شبه كامل إذ أحالت إنتاج الأفلام، ومعدات التحميض والطباعة إلى شبه عدم النفع، ولا مبرر تجارياً لها، وأغلقت تسعة من كل عشرة معامل كانت تتخصص في التحميض والطباعة.

أضف إلى هذا السحر الجديد الذي أتت به الكاميرا الرقمية، وهو إتاحة الفرصة لأن يلتقط صاحبها الصورة في شكل مادة خام RAW، ثم يستعين بأحد برامج الكمبيوتر لمعالجة الصور (مثل "فوتوشوب") وينقّي هذا الخام، فيصلح الإضاءة والتباين والألوان والوضوح... وكل هذا أمر ما كان ممكناً مع كاميرا الفيلم.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

مرايا

الكاميرا الرقمية نفسها نوعان، العاكسة (dslr) التي تحوي داخلها مرآة تعكس الضوء (الصورة) إلى أعلى فيراها المصوّر عبر نافذة النظر (تسمى البصرية في هذه الحالة) قبل أن يسقط على المجس (المعالج). لكن التكنولوجيا، التي لا تستقر على حال، سرعان ما خرجت بكاميرا جديدة عديمة المرآة (mirrorless) ينتقل فيها الضوء مباشرة إلى المجس الذي يقدم صورة رقمية يراها المصوّرعبر نافذة النظر. أما الميزة الملموسة لهذا النوع الأخير، فتتمثل في كاميرا أصغر، وأقل وزناً من العاكسة، والشيء نفسه ينطبق على أحجام، وأوزان العدسات، والإكسسوارات اللازمة له.

وبينما كانت شركتا "نيكون"، و"كانون" تسيطران على سوق الكاميرا العاكسة (سواء البصرية أو الرقمية)، فتح اختراع عديمة المرآة الباب لشركات أخرى عدة لتلج السوق، على شاكلة "فوجي فيلم"، و"باناسونيك". لكن أبرز هذه الشركات هي "سوني" التي قفزت في السنين القليلة الماضية إلى مرتبة الصدارة بفضل منتجات عالية الجودة، ورخيصة بالقياس إلى منافساتها، تتصدرها الكاميرا الأكثر رواجاً وسط المحترفين والهواة وهي A7III.

سرعة صادمة

إعلان "أوليمباس" توقفها عن إنتاج آلات التصوير للجمهور يأتي بعد عقدين فقط على إنتاج "سامسونغ" الكورية أول هاتف جوّال قادر على التقاط الصور في 2000. وفي غضون السنوات العشرين منذ ذلك الحين إلى الآن، قطعت كاميرا الموبايل مسافة هائلة على طريق تجريد الكاميرا التقليدية من مكانها الذي ظلت تحتله منذ مطلع القرن العشرين. فالآن ما عاد شراء آلة من "نيكون"، أو "كانون" بمئات، وربما آلاف، الدولارات مبرراً إلا لدى أولئك الذين يسعون إلى درجة عالية من التحكم والجودة التي تصلح للطباعة الورقية بأحجام كبيرة، أو أولئك الذين يعتبرون آخر موديلات الكاميرا إكسسواراً اجتماعياً لا بد من اقتنائه. أما بالنسبة للغالبية العظمى من الناس، فإن أقصى متطلبات الصورة - في الإعلام الاجتماعي على الإنترنت مثلا – لا يستلزم أكثر من عدسة الجوال الذي يصوّر و"يحمّض ويطبع" ويرسل الصورة جاهزة إلى المنبر المراد بلمسة إصبع خفيفة.

الحصان والسيارة

التكنولوجيا تهدم حتى تبني، ولا ترحم أحداً، ولا تهمها الخسائر. الثورة الصناعية قطعت الرزق عن أيدي الملايين العاملة. والروبوت صار السيد في حزام الإنتاج، والـMP3 أطاح الأسطوانة، والشريط، وشريط الكاسيت، والقرص المدمج، والحرف الرقمي قضى على القلم، وأزاح ورق الكتب، والمجلات، والصحف إلى رفوف التاريخ... ومثلما اندثرت الكاميرا الفيلمية العجوز أمام تغول "ضرّتها" الرقمية الشابة، يأتي الجوال الآن ليبدأ إزاحة الرقمية نفسها من الساحة، بانتظار ما سيأتي ليسقط الجوال نفسه بالضربة القاضية على الأغلب.

وثمة قصة تحكى هنا، في 1903 تقدم محامي هنري فورد (صانع سيارات "فورد") لمصرف "ميشيغان سيفينغز" بطلب قرض يمكنه من شراء أسهم في شركة مخدمة. فرفض المصرف طلبه، وشرح له المدير الأسباب التجارية لهذا الرفض قائلا، "الحصان باقٍ هنا، والأوتوموبيل الذي تسعى إليه بدعة، وصرعة عابرة لا أكثر".

المزيد من تحقيقات ومطولات