ملخص
تستخدم فاغنر الأفريقية خطاباً إعلامياً في مختلف دول القارة يعتمد على مهاجمة القوى الاستعمارية والإمبريالية الغربية وتقديم عروض الأمن في مقابل استغلال الموارد الطبيعية.
مع بداية يوم السبت الـ24 يونيو (حزيران) قامت قيامة فاغنر في روسيا الاتحادية، أو هكذا حسبها العالم، وما إن شارف اليوم على نهايته إلا وانحسرت المجموعة تاركة وراءها مشهد انهزام التمرد على مركز الدولة الروسية، من دون عناء يذكر. وربما يعيد بعضهم فهم ما جرى ودار في الجبهة الشرقية الأوكرانية، وفي قيادة عمليات الجيش الروسي في روستوف، وعلى مشارف العاصمة الروسية، إلى شخص رجل الاستخبارات العتيد فلاديمير بوتين الذي خرج منتصراً وحيّد خصومه، وحافظ على بعض تماسك الجيش، كما حافظ على استثماراته الأفريقية الخاصة التي تديرها فاغنر.
وربما يقول بعض منهم عكس ذلك، ويؤكدون أن تجربة يوم السبت العصيب، ما هي إلا إرهاصات أولى لانهيار روسيا الاتحادية، وأنها كانت الطلقة المدوية التي لا يمكن إسكاتها. ما جرى ودار في ذلك اليوم الشؤم، تتكشف حلقاته تباعاً مع مرور الأيام، في حكاية طباخ الرئيس، ومصير استثمارات بوتين الخاصة في أفريقيا في جمهورية أفريقيا الوسطى ومالي والسودان وليبيا وموزمبيق وزيمبابوي وأنغولا ومدغشقر وغينيا وغينيا بيساو وجمهورية الكونغو الديمقراطية، والقائمة تتوسع مع مرور الوقت، ذلك أن وزير الخارجية الروسي لافروف اعتبر أن نشاط ميليشيات فاغنر في أفريقيا لحماية المصالح الحيوية العليا الروسية مع الدول الأفريقية، من خلال "ضمان سلامة قيادات تلك الدول"، وأكد أن عملها سيستمر على رغم ما جرى.
وتقر مجمل مراكز البحث في الغرب بأن مشروع التوسع الروسي في أفريقيا حقق تقدماً كبيراً وتحدياً في غرب أفريقيا، بعد انحسار الوجود العسكري الفرنسي التقليدي. وتستخدم فاغنر الأفريقية خطاباً إعلامياً في مختلف دول القارة يعتمد على مهاجمة القوى الاستعمارية والإمبريالية الغربية، وتقديم عروض الأمن في مقابل استغلال الموارد الطبيعية، ولذا فإن فاغنر الأفريقية هي مصدر دخل مهم لروسيا لا يمكن الاستغناء عنه، وعوائده مثمرة للطرفين الروسي ممثلاً في بوتين ووكيله حتى يوم السبت الماضي بريغوجين، وقيادات الدول الاستبدادية في أفريقيا التي لم تعد تثق بأجهزة أمنها الوطني.
والوجود الروسي في أفريقيا ليس بالجديد، إذ كان للاتحاد السوفياتي نفوذ قوي في القارة السوداء، لخصته أخيراً إحدى أبرز الدول الحليفة من خلال زيارة الرئيس الجزائري عبدالعزيز تبون لموسكو منتصف الشهر الماضي وتقديمه التعهدات غير المعلنة لدعم الانتشار الروسي في أفريقيا، وتحديداً في منطقة الساحل مثل مالي والنيجر، وغرب أفريقيا حيث ينشط مرتزقة فاغنر، وذلك في مقابل مزيد من الدعم الروسي في ملفات مثل الانضمام إلى مجموعة البريكس، والتعاون العلمي خارج المجال العسكري التقليدي الكبير، مع بلوغ مشتريات الجزائر من الأسلحة الروسية ما قيمته 7 مليارات دولار أخيراً.
ولأهمية استثمارات فاغنر الأفريقية سارع الرئيس بوتين بإرسال موفد خاص عنه إلى الدول الأفريقية لطمأنتها حول استمرار الالتزام الروسي بالاتفاقات والعقود المبرمة لتقديم الخدمات المتنوعة في ما عرف بـ"الأمن في مقابل الموارد"، وأن فاغنر باقية كرمز للوجود الروسي ومستمرة في التوسع والانتشار في أفريقيا، بوجود بريغوجين أو من دونه، لأن التعاقد الذي تم مع الشركة كان تعاقداً بالباطن مع روسيا الاتحادية على رغم إنكار المتحدث الرسمي للكرملين وجود صلة بين شركة مرتزقة والدولة الروسية رداً على العقوبات الأميركية التي استهدفتها قبل أيام.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويتوقع كثيرون أن يتم خلال زيارة القادة الأفارقة لموسكو في إطار القمة الروسية الأفريقية الثانية في سان بطرسبورغ في الـ27 من يوليو (تموز) المقبل تجديد العهود وزيادة في العقود التوسعية الروسية باسم فاغنر أو أي مسمى آخر، فعلاقة الاعتماد المتبادل بين بعض الدول الأفريقية وروسيا - فاغنر قوية إلى درجة أن القطيعة غير واردة من حيث إنها ستؤدي حتماً إلى زعزعة عميقة لأمن واستقرار بعض الدول الأفريقية مثل جمهورية أفريقيا الوسطى، إذ يعتمد النظام بشكل مباشر على مرتزقة فاغنر بما في ذلك أمن الرئيس الشخصي.
ويتضح من البيان الصادر في موسكو خلال الأيام الماضية حول عمل فاغنر في أفريقيا أن موسكو لا تريد إحداث أي ذعر في أفريقيا قد يؤدي إلى اضطرابات في النظم السياسية، وإضاعة المكاسب التي تحققت لروسيا خلال العقدين الماضيين في القارة الأفريقية، وربما اكتفى بوتين في خطوته المقبلة في أفريقيا بشطب اسم بريغوجين فهو في الأخير أحد ابتكارات بوتين وصنيعته.
موت إيكاروس وبقاء الفكرة
في الميثولوجيا اليونانية عندما حاول إيكاروس الهرب من جزيرة "كريت" ومن مينوس الظالم، استعان بأجنحة ثبتها على ظهره بالشمع وحلق بها هرباً من الجزيرة، إلا أنه ارتفع عالياً واقترب من قرص الشمس التي أذابت الشمع المثبت لجناحيه فهوى صريعاً ليلقى حتفه. هكذا هو حال بريغوجين الذي اعتقد أن كل الخدمات التي قدمها لبوتين، والملايين التي ضخها إلى الكرملين، وعنف مرتزقته المنفلت ستشفع له عند بوتين، فكان تقديره لمعزته الشخصية عند القيصر مبالغاً فيه، ودفع ثمناً باهظاً لحماقته.
على رغم أن بعضاً منهم يعيد فكرة صناعة بريغوجين إلى بريماكوف، السياسي الداهية، والمستشرق، ووزير الخارجية الروسي الأسبق، الذي وضع تصور إنشاء فاغنر لتوطيد السياسة الخارجية الروسية في أفريقيا والبلقان والشرق الأوسط. ومع ذلك فالرجل في الحقيقة ما هو إلا صنيعة بوتين، إلا أنه بنى خط سير استراتيجي لحياته من سجين سابق في العهد السوفياتي إلى بائع عربة نقانق في الشارع إلى طباخ معروف، وصولاً إلى طباخ الرئيس والصديق المقرب، حتى بلوغ مشروع عمره شركة فاغنر متعددة المهمات المشبوهة.
كان عمل بريغوجين يتسم بالسرية المطلقة، وما أن تورطت مجموعته في الانتخابات الأميركية حتى خرج الرجل من الظل في نهاية 2022، ليقر بتورط للمجموعة التي أسسها في 2014 فيها، مؤكداً وجود فاغنر في أفريقيا والشرق الأوسط وأميركا اللاتينية.
وخلال فترة وجيزة أسهمت فاغنر في تكتيكات القوة الناعمة الروسية، مثل الحرب الإعلامية ونشر المعلومات الخاطئة وعمليات النصب والاعتداءات الإلكترونية وتجارة العملات المشفرة والأمن السيبراني، وممارسة أشكال متطورة من الحرب الهجينة في مناطق النزاع في أفريقيا، إذ تعمل أيضاً على حماية كبار الشخصيات ومكافحة الإرهاب وحراسة مناجم الذهب والألماس واليورانيوم في القارة السوداء.
وتعمل الشركة في 10 دول أفريقية بعدد من عناصرها الذي يفوق 6 آلاف مرتزق من روسيا وشرق أوكرانيا وصربيا وسوريا، في ليبيا ينتشر مرتزقة فاغنر في قواعد تتبع الجيش الليبي بقيادة خليفة حفتر، وتشير بعض التقارير الأمنية إلى إمكان قيام المجموعة بتأسيس قواعد عسكرية روسية هناك. وفي جمهورية أفريقيا الوسطى تمكنت المجموعة من إزاحة الوجود الفرنسي في الدولة المضطربة، وهي تعمل على حماية رئيس الدولة وموجودة في القصر الرئاسي، وفي حماية مناجم الذهب والألماس في البلاد.
وفي السودان فالمجموعة تنشط منذ 2017 تحت غطاء مجموعة من الشركات مثل "ميروغولد" و"أم إنفست" للتنقيب عن الذهب، وهي تشرف على مناجم الذهب في إقليم دارفور الذي يسيطر عليه قائد الدعم السريع الفريق حميدتي. وفي موزمبيق تعمل الشركة في مقاطعة "كابوديلغادو" الغنية بأكبر حقول الغاز الطبيعي، وفي مواجهة الوجود المتزايد لتنظيم داعش منذ عام 2018.
سلاح العقوبات في وجه فاغنر
وتواجه فاغنر عقوبات من الاتحاد الأوروبي وبريطانيا وكندا والولايات المتحدة التي فرض مكتب مراقبة الأصول التابع لوزارة الخزانة فيها قبل يومين عقوبات مشددة على أربع شركات وشخص واحد مرتبط بشركة المرتزقة الروسية، بتهمة استغلال المجموعة لانعدام الأمن في أفريقيا والعالم ولارتكابها فظائع وأعمالاً إجرامية تهدد السلامة والحكم الرشيد والازدهار وحقوق الإنسان للدول، فضلاً عن سرقة مواردها الطبيعية لتمويل عملياتها الوحشية. ومن بين الشركات التي تستهدفها إجراءات العقوبات الأخيرة شركة "ميداس" للتعدين في كل من أفريقيا الوسطى ومدغشقر، وشركة "ديامفيل" لمشتريات الذهب والألماس في أفريقيا الوسطى وارتباطاتها بدولة عربية ودول أوروبية.
كما استهدفت العقوبات شركة "الموارد الصناعية للتجارة العامة" التي تعمل في إحدى الدول العربية وعلاقتها المشبوهة بالمؤسسات المالية الروسية، وشركة "دي أم" الروسية التي تعمل في بيع الذهب الذي يهرب من أفريقيا بوسائل غير مشروعة، واستهدفت العقوبات أيضاً أندريه أيفانوف المستشار السياسي لمجموعة فاغنر في أفريقيا.
رد الفعل الرسمي من موسكو على حزمة العقوبات الأميركية جاء على لسان المستشار الإعلامي للكرملين، الذي أكد على عدم صلة الدولة الروسية بأعمال فاغنر في أفريقيا، فيما سبقه الرئيس بوتين قبل أيام بتأكيد أن المجموعة تتلقى دعماً مالياً كاملاً من الدولة الروسية، وعزز ذلك وزير الخارجية حينما أكد على استمرار نشاط فاغنر الأفريقي من دون تغيير. هذه بعض مؤشرات التناقض والاضطراب لما صنعه وسيصنعه بريغوجين بالكرملين، التي ترجح أن تكون أيامه في هذه الدنيا معدودات، والله العالم.