كانت الروائية الأميركية توني موريسون التي رحلت صباح الثلثاء 6 من الشهر الجاري، أول كاتبة سوداء وأفرو- أميركية تفوز بجائزة نوبل عام 1993. ولعلها لم تفز بهذه الجائزة بصفتها امرأة سوداء بل بصفتها روائية كبيرة، صاحبة تجربة فريدة في الأدب الأميركي عموماً، وفي الأدب الأميركي الأسود. وهي نجحت كل النجاح في إضافة لون جديد ونفَس غير مألوف، إلى هذا الأدب وإلى الأدب الأنغلوفوني، بدءاً من منتصف القرن العشرين. وكانت الأكاديمية السويدية مصيبة عندما أصدرت بيان الفوز قائلة: "فن توني موريسون الروائي يتسم بمخيلة قوية وأداء تعبيري غني، وهو يرسم لوحات حية لإحدى النواحي الأساسية من الواقع الأميركي".
رحلت موريسون، عن 88 سنة وعدد كبير من الروايات التي حازت غالباً صفة "الأكثر مبيعاً"، عطفاً على المجموعات القصصية وكتب الأطفال والمقالات التي كتبتها في الصحف والمجلات. ولئن بدأت موريسون الكتابة القصصية والروائية باكراً، والجةً عالم النشر في التاسعة والثلاثين من عمرها عبر روايتها الأولى "العين الأشد زرقة"، فهي قضت الردح الكبير من مسيرتها، منذ الطفولة التعسة فالمراهقة فالشباب، تعاني معاناة أهلها السود وتناضل ضد العنصرية والظلم اللذين هيمنا طويلاً على العلاقة بين البيض والسود. وعانت الكثير أيضاً من "سواد" بشرتها كما تعبر، فهي كانت ممنوعة في فتوتها مثل كل السود، من دخول بعض المنتزهات والمطاعم ومعظم المحال التي يقصدها البيض، وحتى من ركوب بعض الباصات.
قصص الأب
وعلى غرار أبناء جلدتها كابدت توني موريسون قسوة العيش، واضطرت إلى العمل طفلة في أحد المطابخ لتتمكن من مواصلة دراستها وإعانة أبيها الفقير الذي ترك فيها أثراً بيّناً. فهو كان يروي لها قصص آبائه وأجداده السود، شاحذاً مخيلتها، وكان يكره علناً البيض الذين بالغوا في استغلال الشعب الأسود القادم من أفريقيا. لكنّ هذه الفتاة تمكنت من النجاح في الدراسة وبلغت الجامعة وكانت أطروحتها الأولى في جامعة كورنال عن "الانتحار في أدب وليام فوكنر وفيرجينا وولف". وقد يطرح اختيارها هذا سؤالاً: لماذا اختارت هذه الطالبة السوداء موضوعة الانتحار، هي التي عُرفت منذ فتوتها بالصلابة والتحدي؟ ولا بد من الإشارة هنا إلى أن موريسون تعلقت بروايات كاتبين كبيرين هما البريطانية جاين أوستن والروسي تولستوي، البعيدين نسبياً عن مضارب ذاكرتها ومخيلتها. تنقلت موريسون من ثم بين جامعات عدة دارسةً ومدرّسة، إلى أن حظيت بوظيفة مهمة في دار راندوم هاوس الشهيرة، فأوكلت إليها مهمة إدارة قسم الأدب الأسود فنشرت كتباً مهمة في هذا الحقل، وأعدّت أنتولوجيا ضخمة عن الأدب الأفرو- أميركي عنوانها "الكتاب الأسود". وشجعت الملاكم الشهير محمد علي كلاي والكاتبة والمناضلة الأميركية أنجيلا دافيس على كتابة سيرتهما الذاتية ومذكراتهما.
في طليعة التأسيس
كانت توني موريسون في طليعة الأدباء الأميركيين الذي أسسوا الأدب الأفرو- أميركي. قبلها كان الأدب الأسود مقصوراً على ما يسمى أدب الأقليات التي تضمها أميركا. كان ضرباً من الأدب الإكزوتيكي والفولكلوري الذي يسعى الأميركيون إلى تشجيعه وتهميشه في وقت واحد. جاءت موريسون من منطقة شبه خالية، وباشرت العمل على تأسيس أدب السود، وتجذير أصوله في أديم الحداثة الأميركية، وهدفها إحياء الذاكرة والحفاظ على الهوية وبلورة الانتماء وإنقاذه من التهميش والعنصرية. راحت موريسون توظف في آن واحد ميراث الذاكرة الذي أخذته عن أبيها وأمها والأهل، والمخيلة التي كانت وسيلتها في التحرر من ربقة الواقع المأسوي. فاجتمعت لديها نزعتان شبه متناقضتين: نزعة السرد الواقعي الذي يشمل التاريخ والسياسة، ونزعة التخييل الذي يقارب الفانتازيا والواقعية السحرية التي عرفت بها الرواية الأميركية – اللاتينية، لا سيما مع غابريال غارسيا ماركيز. وخير شاهد على هذه النزعة روايتها "حلم سالومون" التي تواجه شخصياتها أحداثاً خارقة تفوق التصور.
امرأة وسوداء
نجحت توني موريسون أيضاً في الجمع بين كينونتها الأنثوية وكينونتها السوداء، فكانت في وقت واحد امرأة تكتب ولكن بعيداً من النسوية والعصبية النسوية، وامرأة سوداء تكتب. وكثيراً ما ركزت على هذه الطبيعة المزدوجة لديها، قائلة إنها شخص أسود وامرأة. أي كان عليها أن تنهل من عمق المأساة التي يكابدها السود، وتدخل تفاصيل حياتهم، وتعيد بناء ذاكرتهم قطعة قطعة، مرسخة الهوية السوداء في ما تحمل من خصائص فريدة، وغارقة في اللاوعي الجماعي بحثاً عن أسرار خبيئة. ثم كان عليها أيضاً أن تواجه الواقع والسياسة والحياة اليومية التي يعيشها السود. لكنها لم تتجاهل مرة أنها امرأة، ذات مشاعر وأحاسيس، وأنها ابنة وأنها أم فقدت أحد ولديها.
ليس مستغرباً أن يضج عالم توني موريسون بالمآسي اليومية والقدرية والأزمات الفردية والجماعية والقصص المؤلمة والحزينة والقاسية والصراعات بين البيض والسود وبين السود والسود. في رواية "العين الأشد زرقة" (1970) تعاني البطلة السوداء الشابة حالاً من الضياع جراء كراهية أمها واغتصاب أبيها لها. في رواية "سولا" (1973) تتحول الفتاة اللطيفة والهادئة ضحية مدينة بكاملها. في رواية "حب" (2003) يعيش شاب وشابة سوداوان قصة حب عاصف ومضطرب نتيجة انتمائهما إلى طبقتين مختلفتين، غنية وفقيرة. في رواية "بيت" (2012) تقود موريسون قارئها في رحلة إلى أعماق المأساة العنصرية الأميركية وصلافة البيض وازدرائهم إنسانية الإنسان الأسود. في رواية "جاز" (1992) تدخل موريسون عالم هارلم أو الأحياء السوداء دخولاً عاطفياً ووجدانياً متخذة من موسيقى الجاز حالاً غنائية وروحية عاصفة. وفي روايتها الرائعة "محبوبة" (بيلوفد) التي فازت بجائزة بوليتزر عام 1988 تحكي مأساة امرأة تدعى سيث يسكنها شبح ابنتها التي ذبحتها بيدها لتنقذها من مصير العبودية الوحشي. هذه الرواية حوّلها المخرج الأميركي جوناثان ديم عام 1998 فيلماً سينمائياً من بطولة أوبرا ونفري وداني غلوفر. في عام 2006 اعتبرها ملحق نيويورك تايمز الأدبي "أفضل رواية في الربع قرن الأخير".
ولعل أطرف ما قامت به موريسون في حياتها "السياسية" هو تشبيهها الرئيس الأميركي السابق بل كلينتون بُعيد فضيحة السيكار الشهيرة في تصريح لها بأنه "أول رئيس أسود"، وأضافت: "يمثل كلينتون كل خصائص المواطن الأسود: منزل نصف أبوي، أصول متواضعة، طفولة في الطبقة العاملة، معرفة بآلة الساكسوفون وغرام بالفاست فود مثل فتى من أركانساس".
ترجمت معظم أعمال توني موريسون الروائية إلى العربية وبات لها قراء كثر، وترجمت أيضاً كتب تناولت عالمها الروائي ومسيرتها، عطفاً على المقالات والدراسات التي كتبها عنها نقاد وصحافيون عرب.