ملخص
المتشرد الذي لقبه أفلاطون بسقراط المجنون صرخ في وجه الإسكندر المقدوني طالباً منه ألا يحجب عنه ضوء الشمس
يروى عن الفيلسوف أفلاطون أنه حين كان يسأل عن رأيه في معاصره ديوجين الملقب بالكلبي وعما إذا كان يعتبره فيلسوفاً أم مجرد مهرج، كان يقول "بالنسبة إليَّ ديوجين يكاد يكون سقراط، إنما مع قدر كبير من الجنون". طبعاً لا يمكن القول إن هذه الحكاية مؤكدة، ولا إن رأي أفلاطون في ديوجين (ديوجينيس) قاطع، لكن توارد الحكاية في حد ذاته قد يكون دليلاً على الأهمية التي ارتداها ذلك الفيلسوف الذي شابه سقراط، في الأقل، في مجال واحد لا يمكن تنحيته جانباً. بالنظر إلى أنه بدوره لم يخلف نصوصاً مكتوبة، بل مجرد حكايات لا شك أن كثيراً من التوابل قد انهمر عليها مع مرور الزمن، بل إن ثمة في هذا السياق من يقول إن ديوجين لم يوجد أصلاً، لكن هذا ليس رأي ديوجين الآخر (لائرسي) الذي نعرف أنه أفرد عدداً لا بأس به من الصفحات للحديث عن سميه وسابقه بقرون عديدة وعن حياته ضمن إطار كتابه المعتمد "حياة مشاهير الفلاسفة". ولعل اللافت حقاً في نص ديوجين اللائرسي هو أنه إنما يتألف من تلك الطرائف والنوادر المتعلقة بسيرة الكلبي، والتي جرى تناقلها مئات من السنين من دون أن يصحبها شرح وافٍ لأفكار هذا الفيلسوف الذي قد يتجاهله العدد الأكبر من الموسوعات الفلسفية الأكثر جدية، أو حين تذكره تكتفي بطرفتين أو ثلاث هو كل مأثوره.
مدرسة الفأر
ومع ذلك، فإن تلك الطرائف على قلتها كافية لتضعنا في مواجهة عقل صارخ وشخصية غريبة لا شك أنها عرفت كيف تعيش كل هذه الأزمنة، بل حتى كيف تتبدى وفي كل مرحلة من المراحل، معاصرة مشاكسة تكاد تختصر دوراً كبيراً للفلسفة في حياة الناس وفكرهم. ولعل نص اللائرسي يوضح هذا ومنذ مدخله حين يروي لنا أن "ديوجينيس كان مواطناً من مدينة سينوبي وابناً لصراف يدعى هيكيسيوس، وأن المدينة نفته بسبب إقدام أبيه – أو ربما إقدامه هو – على تزييف النقود بعدما كان الأب أميناً لخزينتها العامة وأموالها. والطريف أن اللائرسي نفسه يخبرنا أن ديوجينيس تعلم الحياة التي سيعيشها من "مدرسة" واحدة هي عبارة عن فأر أخذ يرصد سلوكه باكراً في حياته فتيقن "من أن الفأر لا يشغل نفسه بالبحث عن مأوى يركن إليه ولا يخاف من الظلمة ولا يروم أي شيء من تلك الأمور التي يعتبرها الناس ملذات"، ما قاد فيلسوفنا إلى التمسك بالوسائل التي مكنته من أن يكون قادراً على التكيف مع الظروف. وهذا التكيف هو الذي رافق حياة ديوجينيس في فلسفة عيش بالكاد يمكن أن يتمسك بها اليوم مشردو الحثالة في المدن الكبرى: النوم في أية زاوية متاحة، أكل ما يمكن العثور عليه في أي مكان حتى بين القمامة، ولكن دون التخلي عن عادة السير بأثمال بالية أو عريان حتى بين الناس يعظهم ويؤنبهم مشفقاً عليهم مما يفنون عمرهم ساعين إليه، مؤكداً لهم أن جل ما يتعين عليهم البحث عنه إنما هو الحكمة والبساطة.
بين فيلسوفين
ونعرف طبعاً أن هذا يبعدنا كثيراً عما كان عليه سقراط، وكذلك عن القناعة بأن أفلاطون يمكن أن يكون قد وسم ديوجينيس بالجنون الذي "يفتقر إليه سقراط". ومهما يكن من أمر لا يمكن لمثل هذا المكان هنا أن يتسع لكل ما يمكن قوله عن ديوجينيس، ولكنه يتسع لسؤال لا بد من طرحه: هل كان هذا الرجل فيلسوفاً؟ الحقيقة أننا إذا جمعنا ما يتم تناقله من حكايات عن ديوجينيس. وربما خاصة منها تلك التي ينقلها اللائرسي عن لقاءاته وتناحره مع أفلاطون نفسه، وأخضعناها للتحليل والدراسة المعمقة، سنجدنا بالفعل أمام ما يمكن اعتباره فلسفة عيش متكاملة، حتى وإن سلمنا مع كثر من المؤرخين بأن العدد الأكبر من المواقف المعزوة إلى ديوجينيس أتت مستعارة من مواقف وحكايات تخص آخرين وليس في زمن ديوجينيس وحده. فكأنما جسد هو في حياته وشخصه ذلك السلوك الذي كان يناهض سلوكية المجتمع، بشكل يشبه ما أتى به على سبيل المثال، هبيو أواسط القرن العشرين، حين، ودون أن يعرف معظمهم شيئاً عن ديوجينيس وفلسفته، ساروا على منواله في سلوك ارتبط بالطبيعة والتشرد والعزوف عن كل ما ينتمي إلى التنظيم الاجتماعي بصلة، بل ولكي نستخدم تعبيراً معاصراً لنا، على الضد من كل ما قد يعتبر اليوم "صواباً سياسياً". وحسبنا في مضمار الموقف السياسي أن ننقل ما يروى عن لقاء الإسكندر المقدوني به.
المقدوني يحجب الشمس
فحكاية هذا اللقاء تقول إن الملك والفاتح الكبير كان قد سمع بديوجينيس وأراد أن يتعرف عليه فقصده في الخلاء، حيث يعيش ويرقد، ومد يده لمصافحته بتحبب، فما كان من ديوجينيس إلا أن صرخ به غاضباً طالباً منه أن يبتعد عنه "لأنك تحجب ضوء الشمس عني!". ومن ناحية غير بعيدة من ذلك الموقف، يجمع المؤرخون على أن ديوجينيس كان غالباً ما يحمل مصباحاً يدور به بين مكان وآخر يقول لمن يسأله عما تراه يبحث على ضوء المصباح: "إنني أبحث عن رجل... أي رجل!". وكان يؤكد أن كل الذين التقاهم كانوا غلماناً – بالمعنى التحقيري للكلمة – لا رجالاً. أما هو فكان يريد أن يعيش، لاحتقاره كل هؤلاء، كالكلب. ومن هنا كما يخبرنا اللائرسي أتى لقب "الكلبي" الذي التصق باسمه، ولم يرفضه هو. بل سرعان ما تحول إلى مذهب في العيش يجمع بين معانٍ عدة، ربما كانت الكلاب الحقيقية براءً منها على أية حال: التهكم، واللؤم، والعجرفة، والاكتفاء من العيش بأبسطه. ويقال إنه حين سأله أحدهم لماذا يسعى إلى وسم الكلاب بصفات وسمات ليست لهم أجابه ببساطة: "لقد أخفقت في أن أرفع من مستوى البشر، ومن هنا ها أنا أحاول أن أرفع من مستوى الكلاب، وأعتقد أنني سأكون هنا أكثر نجاحاً!".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إنسان أفلاطون!
ويفيدنا ديوجين اللائرسي بأن سميه كان منذ صباه الباكر قد اتخذ لنفسه مهمة لم يحد عنها طوال حياته. وهي المهمة نفسها التي نقلنا عنه قبل سطور أنه يعترف بإخفاقه فيها: أي حث مواطنيه ومعاصريه على سلوك درب الحكمة والبساطة والترفع عن كل ما هو مادي. كان يريد استنهاض أبناء جلدته بأن "يقنعهم" بلا جدوى أن يمضوا حياتهم لاهثين خلف مكتسبات تافهة لا معنى لها، أي تلك المكتسبات التي لا يعبأ الحيوان بها على الإطلاق، بل يزدريها، إذ يشعر – الحيوان - في أعماقه بأنها لا معنى لها على الإطلاق، بل إنها "تكلفه حريته، حيث علينا أن نلاحظ أنه كلما أغدقت على الحيوان زينة إضافية أو بطعام تكرم به سادته عليه، كان استعبادهم له أكبر وأكثر إهانة له..."، كما قال مرة في جمع من الناس، وهو يضرب الحضور بعصاه مندداً بهم وبما يفعلون. ويروي اللائرسي كيف أن ديوجينيس حين قيل له أن أفلاطون قال حين سئل مرة من قبل تلاميذ أكاديميته عن تعريف للإنسان أن هذا الأخير إنما هو حيوان لا ريش له يمشي على قدمين، سارع بأن أتى بديك نزع عنه ريشه ورماه في حديقة الأكاديمية، معلناً أن ذلكم هو إنسان أفلاطون!
قبر على رغم أنف صاحبه
ومن المعروف أن ديوجين قد عمر على نفس الشاكلة والمنهج الحياتي حتى بلغ التسعين ومات. ولما كان يحتضر راح تلامذته ومحبوه يتداولون فيما بينهم وعلى مسمع منه في أفضل الطرق لدفنه وتكريمه عبر إقامة ضريح له. فصرخ بهم أنه يريد أن يترك ميتاً في الخلاء كي تستفيد القوارض والطيور من جثمانه، لكن التلاميذ أبوا ذلك وانتظروه حتى مات ليقيموا له قبراً فخماً من الرخام رفعوا عليه عموداً وضعوا في أعلاه تمثالاً لكلب... ولئن كانت ولادة ديوجين الكلبي عام 413 ق م في سينوبي الواقعة اليوم في تركيا، فإن رحيله كان عام 327 ق م في كورنثيا اليونانية، حيث لا يزال قائماً حتى اليوم.