Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"سقراط" لروبرتو روسليني: الفلسفة على الشاشة الصغيرة

حكاية إعدام أثينا للفيلسوف توحّد السينما والتلفزيون

مشهد من شريط "سقراط" لروبرتو روسلليني

في العام 1959 كان التلفزيون موجودا بالطبع وكان بشاشته "المضحكة" قد دخل البيوت ولكن دون أن يبالي به أحد. كانت السينما لا تزال سيدة الساحة ولم يكن السينمائيون، والكبار منهم بصورة خاصة، قد فكروا بأن عليهم أن يخافوا من تلك الوسيلة الجديدة، ولا حتى بأن يهتموا بتحقيق أعمال لها. لم يكن فيها ما يغريهم فلا تقنياتها ترضيهم ولا جمهورها يهمّم... وهي نفسها لم يكن يبدو عليها أن في مقدورها أن تقدم أكثر من بعض الأخبار والمنوعات، فإن قدمت فيلما سينمائيا، كانت صورته من التشويه بحيث لا تثير أكثر من ابتسامة شفقة.

يومها كان السينمائي الوحيد الذي رأى في ذلك الجهاز المكعّب الشاحب ما لم يره الآخرون: رأى المستقبل، مستقبل الفن والمجتمع بل مستقبل الحياة أيضا، هو الإيطالي نفسه الذي لم يكن قد انتهى بعد من اختراعه للواقعية الإيطالية الجديدة، ولا استكمل ذالك الربط الأبدي الذي أقامه بين السينما الروائية والوثائقية: روبرتو روسلليني. فهو في ذلك العام، وإذ كان يحضّر لتحقيق فيلم عن الهند عنوانه "الهند، الأرض الأم"، انطلق ليستخدم مئات المشاهد واللقطات والصور التي التقطها خلال جولته الهندية، ليحقق انظلاقاً منها عشر حلقات تلفزيزنية كانت فريدة من نوعها في ذلك الحين، بثّت عبر التلفزة الإيطالية لتسجّل أول دخول كبير لسينمائي في عالم التلفزة.

ترابط حتمي

لكن روسيلليني لن يتوقف هنا طبعا. فتلك كانت البداية لنشاط سينمائي سيغلب عليه بعد حين طابع تعليمي لن يقلل من قيمة معظم الأعمال التي أنتجها روسيلليني مذّاك والتي دنت حينا من التاريخ (كالفيلم عن "العصر الحجري" أو ذاك عن "استيلاء لويس الرابع على السلطة") أو من التحقيق التلفزيوني الوسع (كما في "نابولي 43" أ "أوروبا 52"...)، ثم خاصة من الفكر والفلسفة والدين (كالشرائط التي حققها عن "اعمال الرسل" و"المسيح" ثم خاصة ثلاثيته الفلسفية الفريدة في تاريخ هذا الفن: "سقرط"، "باسكال" و"ديكارت"). صحيح أنها أعمال حُقّقت للتلفزيون بإمكانات تلفزيونية ولغة فنية تكاد تكون خطّية، لكنها كانت من القوة والدنو من الكمال إلى درجة أن عروضها السينمائية في المهرجانات ونوادي السينما والمناسبات جعلت لها نكهة وقوة مرجعية سينمائية لا تضاهى.

ولئن كانت قيمة كل هذه الأفلام لا تزال كبيرة وذات دلالة حتى الآن، لا شك أن الفيلم المخصص لسقراط يبقى أشهرها وربما واحدا من أهم الأفلام التي حققت عن أي فيلسوف على الإطلاق. حتى وإن أُخذ على العمل كون شخصياته لا تتوقف ولو لحظة عن الكلام!

أتى الفيلم روائيا تحركت فيه على الشاشة طوال ساعتين شخصيات عديدة من حول سقراط وتلميذه أفلاطون، لتحكي للمتفرجين الحكاية من أولها: حكاية أثينا بقدر ما هي حكاية الفيلسوف الإنسانيّ الأول: فروى لنا كيف أن أثينا وقعت تحت حكم الثلاثين طاغية ولم يعد المواطنون المعتادون على الحرية يشعرون أنهم في أمان. غير أن سقراط لم يخف بل واصل تجواله في الساحات والأزقة يجمع الشبيبة من حوله ويخطب بينهم معلّمهم دروس الحرية والفضيلة والشرف والحياة مصارعاً السوفسطائيين ولا مباليا بالخصوم الساخرين منه وعلى رأسهم اريستوفان. وكان أفلاطون طوال الشريط يسجل ليترك لنا كل الحكاية وكل فلسفة سقراط في حواراته التي ستبقى قيّمة وشهيرة حتى يومنا هذا. وفي النهاية كان من المنطقي أن يصل نفاد صبر السلطات إلى أوجه فراحت توجه إليه اتهامات التجديف ومحاولات إفساد الشبيبة لينتهي بها الأمر إلى محاكمته والحكم عليه بالإعدام.

هذه هي الحكاية التي قدمها روسيلليني في هذا الفيلم الذي فاجأ السينما من حيث لا تتوقع كما أسند للتلفزين وظيفة جديدة لم يكن يتوقعها أوائل السبعينات حين حّقق الشريط بألوان مدهشة، وعرض تلفزيونيا أولا ثم سينمائيا.

مؤسس سينما الحياة

يقينا أن "سقراط" كان وبقي عملا نخبويا. أما مخرجه فلئن كان جمهور السينما العريض قد عرفه فهو لم يعرفه في الحقيقة إلا بوصفه واحدا من أزواج الفاتنة انغريد برغمان، وفي المقابل عرفه هواة السينما ومثقفوها ونقادها بكونه الرجل الذي لم يكف، منذ بداياته عن اختراع السينما وإعادة تأسيسها.

فروسليني كان هو، دون غيره، مؤسس السينما الإيطالية الجديدة، السينما الواقعية المرتبطة بصلب الحياة إلى درجة أن أفلامه الروائية الأولى نفسها، مثل «السفينة البيضاء» (1941)، و«رغبة» (1943 - 1946) وخاصة «روما مدينة مفتوحة» (1945) و«المانيا، العام صفر» (1947 - 1948) و«باييزا» (1946)، بدت وكأنها أفلام تسجيلية. لكن روسليني كان أيضاً في الخمسينات وراء موجة سينما «الموجة الجديدة» الفرنسية وذلك عبر فيلمه «رحلة في إيطاليا»، الذي كتب عنه جاك ريفيت أحد أقطاب ذلك التيار الفرنسي الذي ساد بعد ذلك قائلاً: «إنه الفيلم الذي وجه كل خطواتنا وجعلنا نعيد اكتشاف إمكانيات السـينما من جديد». عندما حقق روسليني «رحلة في إيطاليا» (1953 - 1954) كان قد غدا ذا شهرة كبيرة كما كان قد آلى على نفسه أن يخرج سينماه، وربما السينما الإيطالية كلها من هوة الواقعية المطلقة التي كان قد استرخى فيها وزملاؤه قبل ذلك.

وفي ذلك الحين كان قد تزوج من الفاتنة إنغريد برغمان، الذي راح يحقق فيلماً بعد الآخر من بطولتها إنما دون أن يقع في الفخ السهل الذي يقوم في جعل فيلمه يدور من حول نجوميتها. لقد استغل روسليني إمكانيات زوجته، التعبيرية فتمكن في أفلام مثل «سترومبولي» و«أين الحرية؟» و«أوروبا 51» وكلها أفلام حققت أواسط الخمسينات، تمكن من أن يعيد للنجمة اعتبارها كممثلة.

الفضول أصل الإبداع

كان روسليني، في الدرجة الأولى، فضولياً. وكان يشعر أن السينما وعاء كبير يمكن فيه وضع كل شيء: الدين والتاريخ والفلسفة والاستعراض والفن التشكيلي، وهذا ما جعله، كأفلاطون معاصر، يتجه في أفلام مراحله التالية نحو استخدام للسينما كان وسيظل فريد نوعه. فهو، بعد أن قرر الاستغناء عن السرد الروائي في أفلامه، وبعد أن زار الهند وحقق فيها وعنها أفلاماً تجاورت فيها صنوف الفكر مع صنوف التاريخ، وبعد أن خاض تجربة استثنائية، في الفهم الميتافيزيقي للسينما عبر فيلم صور فيه، ودائماً من تمثيل إنغريد برغمان، عذاب جان دارك وهي على المحرقة، انطلاقاً من نص مسرحي لبول كلوديل. وبعد أن خاض في سينما العواطف عبر اقتباسه رواية «الخوف» لستيفان تسفايغ، في فيلم مشترك مع المانيا، ثم اتبع ذلك بفيلم استثنائي - يعتبره الكثيرون أحد أهم أفلامه على الإطلاق - عنوانه «جنرال ديلا روفيري»، بدأ سلسلة الأفلام التاريخية الفلسفية التي كان إرهاصها، أولاً موجوداً في «كان ليل في روما» (1960).

ولقد تضمنت تلك السلسلة التي اختلط فيها التاريخ بالفلسفة بالسياسة، -إلى جانب الثلاثية الفلسفية"- أفلاماً مثل «تعيش ايطاليا» (1961)، ثم خاصة «فانينو فانيني» (1961) و«الروح السوداء» (1962) و«فتاة طيبة» (1962 - 1963)، ثم تلتها سلسلة أخرى أكثر «أدبية» و«تاريخية» وابتعاداً عن السرد الروائي، أولها «عصر الحديد» (1964) ثم «استيلاء لويس الرابع عشر على السلطة» (1967) الذي لايزال يعتبر حتى اليوم النموذج الذي يمكن احتذاؤه في مجال صنع الفيلم التاريخي.

على أي حال كان هذا الفيلم بداية علاقة سينما روسليني بالتلفزيون فينتج له أفضل افلامه منذ ذلك الحين، حتى وإن كانت تلك الأفلام سينمائية خالصة. وبعد ذلك حقق روسليني أفلاماً يغلب عليها الطابع الفلسفي مثل «نضال الانسان في سبيل البقاء» (1971) ثم «بليز باسكا» و«سقراط» و«ديكارت» وهو ثلاثي عالج فيه حياة وأعمال الفلاسفة الذي كان منذ بداياته مولعاً بأعمالهم.

وإلى جانب تلك الثلاثية الفلسفية، حقق روسليني ثلاثية دينية لم يكن من قبيل الصدفة أن يختمها بفيلم عن السيد المسيح كان آخر الأفلام الكبيرة التي حققها في حياته. وكان من بينها فيلمه المهم عن «أعمال الرسل» وهو فيلم صور جزءاً منه في مصر حيث تعرف عليه شادي عبدالسلام وتأثر به إلى درجة أنه لم يكف عن نسب سينماه إليه قائلاً أنه لولا تعرفه بروسليني لما كان فيلم «المومياء» أبداً.

 

المزيد من ثقافة