Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أهالي حلفا السودانية يحاولون التكيف مع الواقع الجديد... زحمة وطوابير

احتجاجات "مكتومة" من المواطنين بسبب انتظار صفوف الرغيف بصورة لم يعهدوها من قبل

وادي حلفا تستقبل موجة كبيرة من الفارين الذين فرضوا واقع عيش جديداً (أ ف ب)

ملخص

العربات الوافدة أكسبت شوارع حلفا التي تعج بالدراجات النارية ثلاثية العجلات (التكتك) صبغة حضارية جديدة

لعل استيعابها لصدمة التدفقات المهولة للفارين من حرب الخرطوم في أسابيع الحرب الأولى أعاد إلى مدينة وادي حلفا الصغيرة الثقة  بقدراتها ومكنها من اكتشاف نفسها كمدينة قابلة للحياة والتطور والانتعاش من جديد.

 فعلى نحو مفاجئ تحركت كل مفاصل المدينة الاجتماعية والاقتصادية والتجارية غصت الطرقات بالوافدين وامتلأت البيوت والساحات، ثم سرعان ما استوت وهدأت الأمور ولو على واقع غير مرض بالنسبة إلى الفارين، لكنه نمط قسوة حياة الفرار والنزوح.

قلة المساكن

ليس حكراً على وادي حلفا الناشئة، وريثة حلفا القديمة التي هجر سكانها في ستينيات القرن الماضي، وحدها، إذ كشفت أعداد الفارين عن أن معظم الولايات بالكاد تكفي بناها التحتية في مجال الخدمات العامة سكانها. فمعظم الفارين ضاقت بهم مراكز الإيواء ومساكن الإيجار وشهدت مدينة ود مدني عاصمة ولاية الجزيرة الأقرب إلى الخرطوم ارتفاعاً جنونياً في أسعار الفنادق وإيجارات الشقق والمنازل، مما اضطر الوالي إلى إصدار مرسوم ولائي وأمر طوارئ حدد بموجبه أسعار الفنادق وإيجارات الشقق والمنازل بحسب الدرجات والمساحة والنوعية، وأجاز بعقوبات صارمة بحق كل من يتجاوز تلك الأسعار بالغرامة والسجن أو بالعقوبتين معاً.

كما وجهت انتقادات لبعض الولايات بسبب تعنت حكوماتها في فتح الدور والمراكز الحكومية لإيواء الفارين من جحيم الخرطوم وتقديم التسهيلات لهم.

على رغم أن وادي حلفا احتوت الفارين واحتضنتهم بقدرات مجتمعها ومنظماتها المحدودة، لكن العالقين يشكون غياب تفقد أحوالهم أو تلمس مشكلاتهم وأوجه معاناتهم والنظر في معالجتها، بخاصة أن بينهم أسراً وأطفالاً وشيوخاً ونساء يحتاجون إلى المساعدة والمواساة.

ازدحام مروري

تسبب هروب كثيرين بعرباتهم من الخرطوم بعد موجة السرقة والنهب والاستيلاء القسري على سيارات المواطنين، وصول أعداد كبيرة من العربات إلى حلفا بغرض حفظها وحمايتها، مما أدى إلى تكدس مروري على الطرقات بشكل لم تعهده المدينة من قبل ولا يتناسب مع حجم شوارعها الداخلية.

وانتعشت بشكل لافت الحركة التجارية وحركة إيجارات المنازل والفنادق مما شكل ضغطاً كبيراً ودفعت زيادة الطلب على الشقق أصحاب العقارات والمنازل إلى رفع أسعار الإيجارات بشكل غير مسبوق، لكن العربات الوافدة أكسبت شوارع حلفا التي تعج بالدراجات النارية ثلاثية العجلات (التكتك) صبغة حضارية جديدة.

على رغم العدد الكبير الذي تدفق إلى المدينة، لكن معدلات الجريمة لم ترتفع، بحسب مسؤولين أمنيين، باستثناء المشادات والمشكلات الشخصية الصغيرة، فظل مستوى الأمن في المدينة جيداً ومطمئناً، لا سيما أنه بعد موجات التدفق بقيت أسواق المدينة مفتوحة حتى أوقات متقدمة من الليل بعدما كانت تنام باكراً.

نشاط وحركة تجارية

في المقابل نشطت بشكل ملحوظ حركة المطاعم ومحال بيع المأكولات والوجبات السريعة والساندويشات وارتفع عددها، كما انتشرت محال الخدمات المكتبية مثل تصوير المستندات والتصوير الفوتوغرافي، واللافت ظهور سوق لبيع الدرانيك والاستمارات الرسمية المطلوب تعبئتها لاستكمال إجراءات السفر والحصول على إفادات الرقم الوطني من السجل المدني، كما دخل بعض العالقين في أنشطة صغيرة لتمويل فترة انتظارهم الطويلة.

إلى ذلك، انتشرت أنشطة تجارية أخرى موقتة بكثافة، مما فتح أبواباً للرزق لكثير من المواطنين مثل انتعاش تجارة الأسرّة (السراير) المعروضة بكثافة أمام المؤسسات الحكومية والمدارس وفي الساحات التي تؤوي الفارين مع وفرة تجارة الشاي والقهوة والمشروبات المحلية الباردة كالشعير والكركدي والعرديب وغيرها.

 

 

وأدت الزيادة الكبيرة في الطلب إلى ارتفاع الأسعار بشكل ملحوظ ونشأت سوق موقتة كاملة من الرواكيب الخشبية للمأكولات والمشروبات الساخنة والباردة أمام القنصلية المصرية في حلفا مع انتشار المناضد الصغيرة التي تقدم خدمات تعبئة استمارات التقديم للحصول على التأشيرة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

انفتاح مجتمعي

حدثنا الشيخ محمد صالح، بائع خردوات متنوعة، وسط سوق المدينة، أن حلفا لم تكن تعرف زحمة المرور ولا طوابير وصفوف الرغيف، مما تسبب في كثير من الأحيان في احتجاجات مكتومة من المواطنين على الواقع الجديد الذي فرض عليهم انتظار صفوف الرغيف بصورة لم يعهدوها من قبل.

ويضيف "صحيح أن الفنادق على قلتها وتواضع خدماتها ممتلئة ورفعت أسعارها قليلاً، لكن مساكن المواطنين أيضاً مملوءة تطوعاً، فالمجتمع فتح قلبه والمواطنون فتحوا بيوتهم ولفترات طويلة لصعوبة إجراءات الحصول على التأشيرة، فبعضهم أمضى بينهم قرابة الشهرين ضيفاً".

بحسب صالح، فإن مجتمع حلفا الذي يعيش انفتاحاً ملحوظاً لم يعد مجتمع المدينة هو نفسه ذاك القديم المنغلق على نفسه، فمنذ التسعينيات بدأت الخطة الإسكانية تستوعب غير الحلفاويين، لذلك نرى أن انسجاماً طيباً بين الوافدين ومواطني حلفا وصل إلى درجة التعاطف على رغم بعض الهمهمات من التضييق الذي حدث لهم في الخدمات وعلى أبواب المتاجر والأسواق.

 ومع ذلك، لا يزال كثيرون من الحلفاويين وفق صالح، متمسكين بدرجة كبيرة إلى جانب لهجتهم المميزة، ببعض أنماط حياتهم الخاصة ذات الطابع التراثي، مثل واجهات المساكن وأبوابها ذات طابع العمارة النوبية المتوارثة بألوانها المميزة. وبدا المجتمع أقل انغلاقاً، بخاصة الفئات التي عاشت في المدن وتشعبت علاقاتها وهناك كثيرون ممن تزوجوا من غير حلفاويات والعكس، منهم سفراء وأكاديميون جامعيون وأطباء ممن تغيرت أفكارهم في مجتمع المدينة الناشئة من جديد.

انتعاش وتطور

في المنحى نفسه يقول المعلم مصطفى بشير، "كثيرون يسألون كيف استوعبت حلفا الصغيرة كل هذه التدفقات الهائلة التي شهدتها المدينة الصغيرة الناشئة في أسابيع الحرب الأولى، ما بين 150 -250 ألف وافد، لكن المدينة بمرونتها تمكنت من استيعاب ذلك مع بعض المشقة في لحظات الصدمة الأولى، لكنها سرعان ما تواءمت مع الواقع الجديد".

ويضيف "التدفقات المفاجئة أظهرت أن هذه المدينة قابلة للحياة والتطور من جديد، على رغم تغير الرقعة الجغرافية، فقد كانت حلفا القديمة على جرف نيلي ممتد ومخضر تكسوه أشجار النخيل والخضرة، لكنها الآن تراجعت تحت ضغط مياه بحيرة ناصر إلى مناطق جبلية، فباتت وسط الجبال في منطقة مناخها متطرف، فالصيف حار تصل الحرارة فيه إلى 46 درجة مئوية مع هواء مشبع بالرطوبة مقابل شتاء قارس.

ويوضح بشير أن الانتعاش والانفتاح اللافت الذي شهدته أسواق حلفا يظهر حجم الواردات الكبير من بضائع ومنتجات غذائية سودانية ومصرية لتلبية حاجات أعداد الفارين الذين تستضيفهم المدينة، إذ إن المدينة لا تملك بنية صناعية سوى مصنع الثلج وتجميد الأسماك وبعض المنتجات الصغيرة، ورأى أن ضيوف حلفا من الفارين معظمهم عابرين غير مستقرين بخلاف الولايات الأخرى.

تباطؤ حركة السفر

وشهدت حركة الباصات التجارية تباطؤاً ملحوظاً عن الأيام الأولى للحرب بسبب الارتفاع الجنوني لأسعار التذاكر، لكن الحال تبدلت الآن، فأكثر الذين رفضوا الهجرة وتمسكوا بالبقاء في حلفا القديمة ما زالوا يستذكرون مشاهد ابتلاع مياه بحيرة السد العالي لأرض النوبيين بكل تاريخها الممتد لأكثر من 5 آلاف سنة قبل الميلاد ويختزنون في مخيلتهم مشاهد الرحيل الحزين الموشى بالدموع لمغادرة أحبابهم على نحو إجباري لديار الميلاد والأجداد في روايات تتبادلها الأجيال عن تراجيديا عملية التهجير.

وثّقت مذكرات المسؤول الإداري في مدينة حلفا القديمة آنذاك محمد دفع الله تلك التجربة النادرة والمثيرة لتهجير شعب نوبي إلى منطقة مغايرة في مناخها وبيئتها، تنفيذاً  لقرار حكومي بإخلائها بغرض إنشاء السد العالي.

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير