ملخص
فيلم يروي المآسي التي يعيشها السوريون والخراب الأخلاقي والمعيشي الذي أحدثته المعارك
تجاوز المخرج باسل الخطيب موجة أفلام الحرب السورية في فيلمه الجديد "الحكيم"، متكئاً على مقترح نصي لافت للكاتبة ديانا جبور التي ذهبت هي الأخرى إلى حياكة سيناريو متعدد الخطوط، سردت عبره قصصاً صغيرة، نسجتها حول بطل الشريط الروائي الطويل جابر عبدالودود (دريد لحام). حاولت الكاتبة مناقشة التناقضات الحادة التي أصابت شرائح واسعة من السوريين، وإلقاء الضوء على ما خلفته سنوات النزاع الطويلة من آثار نفسية واقتصادية على البلاد، ولكن بنبرة خافتة بعيدة من اللهجة الدعائية الخطرة، في معظم أفلام المؤسسة العامة للسينما (جهة رسمية)، وبالتعويل أكثر فأكثر على مستوى رمزي للمعالجة الفنية.
وللتعريف أكثر بالفيلم الذي افتتح عرضه الخاص في دار الأوبرا السورية، يقدم "الحكيم" شخصية طبيب الفقراء الذي يخصص معظم أيام الأسبوع لمعالجة أهالي بلدته الريفية مجاناً، حتى إنه يقوم بشراء الدواء من مصروفه الشخصي لمن لا قبل لهم بشرائه. ولعل جابر يذكرنا طوال زمن الفيلم (95 دقيقة) بالنموذج الأقرب له، وهو شخصية "جابر عثرات الكرام" الاسم الحركي لعكرمة الفياض الذي كان والياً على الجزيرة العربية، أيام حكم الخليفة الأموي سليمان بن عبدالملك (675-717)، إذ كان عكرمة هذا يغيث فقراء القوم، ويقدم لهم المساعدة المالية من دون أن يكشف عن شخصيته الحقيقية.
"الحكيم" جابر يبدو هنا نسخة معاصرة عن والي الجزيرة العربية الذي ذاع صيته في صدر الإسلام، وصار في عصره مأثرة لإغاثة الناس والتفريج عن كروبهم. إلا أن جابر عبدالودود، في أداء منضبط للنجم دريد لحام، حقق تعاطفاً سريعاً منذ المشهد الافتتاحي للفيلم، عندما تغوص عجلات سيارته القديمة في الوحل أثناء عيادته طفلاً مريضاً، فتنبري مجموعة من أهالي البلدة لمساعدة طبيبهم المحبوب. ومع أن هؤلاء كانوا على عجلة من أمرهم، وعلى وشك أن يزفوا عروساً لعريسها على ظهر جرار زراعي، إلا أن ذلك لم يمنعهم من تقديم المساعدة لمن لم يبخل عليهم يوماً في علاج أطفالهم وتوليد نسائهم ومداواة كبارهم في السن. مشهد قدم تعريفاً رشيقاً للشخصية الرئيسة، ووضع المتلقي مباشرة في قلب الأحداث من غير عناء.
الطبيب الإنساني
عمد مخرج الفيلم وكاتبته إلى إدخال أكثر من خط للأحداث، بغية تطوير شخصيات ثانوية إلى جانب الشخصية الرئيسة في الفيلم، من دون أن يسيطر الخط الرئيس للقصة على مجريات الفيلم. فمن خلال زيارات "الحكيم" جابر لمرضاه في بيوتهم، نتعرف بروية على قصص هؤلاء على التوالي، وننبش في ماضي كل واحد منهم. فها هو ذا "الحكيم" يعالج سيدة (ربى الحلبي) دخلت في غيبوبة بعد أن افتدتها ابنتها الصغيرة بجسدها من شظايا قذيفة كادت تقتلها، فماتت الطفلة وعاشت والدتها التي سوف تصحو بعد أشهر طويلة من عناية الحكيم لها، واصطحابه معه حفيدته ياسمين (ليا مباردي) لتدليك عضلات أطرافها ووجهها. تعمد الحفيدة في لحظة استثنائية بالنقر على الدف الذي كانت تعزف عليه الطفلة المتوفاة، مما ينعش ذاكرة الأم، فتختلج وتنهض من غيبوبتها الطويلة.
يسهم "الحكيم" أيضاً في توليد امرأة من نساء القرية بعد تعذر ولادتها، وصعوبة نقلها إلى مستشفيات المدينة، فينقذ حياتها وحياة مولودها. وفي غمرة مساعداته يشرف الطبيب جابر على توليد بقرة إحدى الأسر المعدمة، منقذاً عائلة كاملة من الجوع وذل السؤال لو فقدوا مصدر رزقهم الوحيد. كل هذا يحدث بالتوازي مع الحياة الخفية لشخصية "الحكيم" التي نطل عليها من خلال طيف ابنته شمس (روبين عيسى)، الذي يتراءى له بين جدران منزله الريفي، لنكتشف أن شمس قضت هي الأخرى مع زوجها في أحد التفجيرات، تاركة خلفها ابنتها طالبة الفنون الجميلة، والحفيدة التي يرى جدها "الحكيم" فيها أملاً لغد أجمل، غد يشبه لوحاتها الملونة التي ترسمها الفتاة الشابة في أحضان الطبيعة.
لكن الفيلم لم يفصح بعد عن كل شيء، إذ ثمة عائلة مكونة من أرملة (صباح الجزائري) وشابين يقتتلان على تركة أبيهما المتوفى، أحدهما سوف يغير من مسار الأحداث. الشاب يدعى عزيز (رامي أحمر)، يتعاطى حبوب الكبتاغون، ويبحث عن فرصة للسفر بعد أن شح رزقه هو الآخر من عمله كعامل ميكانيك سيارات. نكتشف أن والدته أيضاً مصابة بالسرطان، وأن لها قصة حب قديمة مع "الحكيم" الذي يواظب على زيارتها وتقديم العون الطبي لها، لكن حالة المرأة تزداد سوءاً، وابنها متعاطي المخدرات، يسرق بيت "الحكيم"، ويوثق يدي حفيدته ويكمم فمها، بغية الحصول على المال لشراء الكيف، ولكن من دون أن تتعرف الفتاة إليه بعد وضعه لثاماً على وجهه بغية إخفاء ملامحه.
غياب الشرطة
تمر هذه الحادثة بلا رد فعل، ويعود الطبيب لمزاولة عمله بعد فقدانه الأمل في تقديم بلاغ للشرطة، وهنا إشارة قوية عن غياب أي دور فاعل للسلطات، وأن البشر متروكون لأقدارهم. فالسرقات منتشرة، والنهب والسلب يعم أرجاء الريف المهجور المهمل، فيما تنشط شبكات الدعارة وتجارة الرقيق الأبيض في الجوار. عصابة تقودها امرأة (رهام عزيز) تأمر أحد موردي المخدرات (محمد قنوع) باختطاف حفيدة "الحكيم"، وسوقها على رغم عنها للعمل في الدعارة المنظمة، وهذه مهمة تسند إلى عزيز أيضاً، لكن هذه المرة تحت الترهيب والترغيب، إذ يختطف الشاب الفتاة، ويضعها مقيدة اليدين والرجلين ومكممة الفم في محل صيانة السيارات الذي يعمل فيه.
هنا يهب أهالي القرية للبحث عن ياسمين، وبعد فقدان الأمل في العثور عليها، يكتشف حبيبها الشاب الذي كان معها أثناء اختطافها أن كاميرا هاتفها النقال قد صورت وجوه الخاطفين. في غمرة هذه الأحداث تموت والدة عزيز بعد صراعها الطويل مع مرضها العضال، ويشارك "الحكيم" في مراسم الدفن، لتلتمع في مخيلته صورة ابن حبيبته، ويخبره حدسه بأن عزيز هو من اختطف حفيدته، ولا سيما عندما يتذكر كلام حفيدته وشكوكها حول هوية اللص الملثم الذي داهم بيتهم. وهنا يدور حوار بين الشاب والطبيب اليائس، فيرجو "الحكيم" الشاب عزيز أن يخبره عن مكان حفيدته، وأنه في ما لو أخبره عن مكان ياسمين لن يتعرض له أحد بسوء، مذكراً إياه بمناقبية والده الراحل، الذي جمعته به صداقة قديمة، لكن عزيز يتهرب من صديق والده، ويشيح وجهه عن كلام الطبيب المغلوب على أمره. وما هي سوى لحظات حتى يطبق أهالي القرية على الخاطفين، فيسدون كل منافذ القرية وطرقها، ويتمكنون أخيراً من إنقاذ ياسمين، وتسليمها لجدها، فيما يفر الخاطفون بلا عقاب.
تشويق وترميز
نهاية لملمت كل خيوط القصة، وأنجزت تطوراً للشخصيات الثانوية مع الشخصية الرئيسة في الفيلم. ومع أن حبكة المواجهة تم تأخيرها، إلا أن حبكة الحل في الفيلم استبدلت عنصر التشويق بالمستوى الرمزي، وحافظ المخرج على ذلك النوع من الأفلام التجريبية التي لا يشغلها تأجيج الصراع البوليسي بقدر ما تعتني بتشريح مجتمعات الحرب، والإطلالة على العالم الداخلي للشخصيات. وهذا كان واضحاً من البنية البصرية المحكمة التي وفرها التصوير (ناصر الركا) مع موسيقى (سمير كويفاتي)، فالصورة والموسيقى والكاميرا جعلت الإخراج متماهياً مع تلك اللقطات الرحبة والعريضة للمكان الريفي، حيث تتناقض المساحات الخضراء الشاسعة مع يباس البشر وقلة حيلتهم في إيجاد عيش كريم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هكذا يصبح "الحكيم" طبيباً في مواجهة أمراض وأوبئة متنوعة، ليس أخطرها الجسدي، بقدر ما هي علل غائرة في الضمائر الجماعية والوجوه المطفأة من قلة الزاد ووحشة الطريق، إضافة إلى لوعة الفقدان في السحنات البشرية المتآكلة من هول ما رأته في سنوات الحرب، وما تعيشه من شظف العيش ومرارة تأمين أبسط متطلبات الحياة، هذا إضافة إلى انتشار كل أنواع السرقات وعمليات الخطف، والخطف المتبادل، وتفشي الجريمة المنظمة. يحدث هذا من دون تدخل فعلي من السلطات، أو قل بالتواطؤ معها، فلا فائدة ترجى من تقديم بلاغ ضد الجناة، فالجميع هنا يريد التهام الجميع، وما شخصية "الحكيم" هنا وحفيدته الرسامة، سوى كوة أمل شحيحة يتركها صناع الفيلم للتنفس خارج ساعات الكابوس.
"الحكيم" بأداء لافت لدريد لحام عبر تعاونه الثاني مع باسل الخطيب بعد فيلم "دمشق حلب"، يحسب له أيضاً أداء لافت لمعظم الممثلين، ولا سيما بطله، فمن يشاهد الفيلم بالكاد يعثر على ملمح من ملامح صاحب شخصية "غوار الطوشة" الشهيرة، مما يشي بإدارة بارعة للممثل، وقدرة على تقديم سينما بمذاق مختلف. فعلى رغم أن الفيلم تطورت أحداثه ببطء، فإن "الحكيم" سجل لحظات من الصدق الفني، وتمكن مخرجه من قرع جرس الإنذار لمجتمع استفحلت فيه الجريمة، وتغلغلت فيه سلطة مافيا السلاح والاتجار بالمخدرات.