Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

البطل ممدوح يعيش حياتين متناقضين بين واقع وحلم

عمّار علي حسن يصور أكثر من حياة في "احتياج خاص"

لوحة "الهوس" للرسام ماغريت (متحف ماغريت)

ملخص

عمّار علي حسن يصور أكثر من حياة في روايته الجديدة "احتياج خاص"

على رغم أنه أصدر حتى الآن أربع عشرة رواية، فإن المصري عمار علي حسن، حرص على أن يقدم عوالم مختلفة، فنجد بعضها يتناص مع التراث الصوفي مثل "خبيئة العارف"، و"جبل الطيْر"، وبعضها يقوم على توظيف التاريخ القريب نسبياً مثل "بيت السناري"، أو التوقف عند أجواء اجتماعية وسياسية في الواقع المصري كما في "جدران المدى"، و"سقوط الصمت". وها هو في روايته الجديدة "احتياج خاص" (الدار المصرية اللبنانية) يوظف تقنية جديدة على إنتاجه الروائي يمكن أن نسميها "الرواية داخل الرواية"، ربما تأثراً بتقنية "المسرح داخل المسرح" عند بيراندللو في أعمال عدة له، أو لدى بريخت في نصه الدرامي الشهير "دائرة الطباشير القوقازية"، وصلاح عبد الصبور في مسرحية "ليلى والمجنون". ولا شك أن هذه التقنية تضرب الإيهام الذي يعده كتاب المسرح أسمى ما يمكن أن تبلغه مسرحياتهم، مؤكدين أن ما يعرض أمام المشاهد مجرد مسرحية وأن أحداثها قابلة للنقاش والتغيير، وهي موضع بحث وإعادة نظر، وليست سنناً كونية وقدراً حتمياً. وهذا يمثل إحدى غايات رواية "احتياج خاص" التي تجعل من أحداث ثورة 25 يناير (كانون الثاني) 2011 محورها الرئيسي، فالكاتب لا يلقي إجابات ناجزة أو تصورات نهائية بقدر ما يطرح أسئلة مثيرة للوعي.

اليقظة والحلم

ويظهر ذلك من خلال "اليقظة والحلم" وحياة "ممدوح علم الدين" بينهما. ففي اليقظة يكون "ممدوح علم الدين" مفتش التموين المحدود الدخل، بسبب نظافة يده وتمسكه بالمبادئ التي تبعده عن زمرة الزملاء المرتشين الذين أثروا من خلال وظائفهم وبيع ضمائرهم. و"ممدوح" لا يعاني من العوز فقط بل يعاني من زوجته "سهام" – ولنلاحظ دلالة الاسم – التي تقذفه بألفاظها الجارحة وتعايره بفقره وتوبخه لأنه لا يفعل مثل زملائه الذين راكموا الثروات، فيما ظلّ هو في مكانه. وفي "الحلم" نجدنا أمام شخص آخر يحمل الاسم نفسه ويعمل أستاذ علم النفس وتكون "سهى" – ولنلاحظ أيضاً دلالة الاسم المأخوذ من اسم النجوم – هي معشوقته في هذا الحلم. ولا يفصل بين هذين الشخصين اللذين يعيش حياتهما سوى "غمضة عين وانتباهتها، لحظة تنقله من موت صغير – يقصد النوم وما يراه فيه من حلم – إلى حياته القاسية التي اعتادها". والحقيقة أن الموت بهذه المواصفات التي تنتشله من بؤسه لا يمكن وصفه بالموت الأصغر، ولهذا يقول الراوي العليم: "ربما يكون كذلك لأولئك الذين يغطسون في كوابيس مقبضة ومزعجة أو من تتناثر أحلامهم شظايا فلا يمسكون منها شيئاً بل يهيمون على وجوههم بينما هي تمضي".

وكما تتوزع الحياة على شخصين مختلفين، تتوزع أيضاً قدرة "ممدوح علم الدين" بين عجزه الجنسي مع زوجته "سهام"، وفحولته مع المعشوقة/ الحلم "سهى"، فقد كان – بسبب تكرار الحلم – "واثقاً من قدرته على أن يلعب دور الذكر حين تلامسه تلك الأخرى الفاتنة الوديعة في أحلامه المتوالية"، حتى أصبح يتمنى أن "تتبدل الأحوال، فيصير الحلم واقعاً، والواقع كابوساً، يمكن أن يتدرب على نسيانه حين يفتح عينيه في الصباح". والحقيقة أن "سهى" لم تعد مجرد طيف أنثى مشتهاة بل أصبحت رمزاً لكل ما يحلم به ممدوح من تغيير واقعه والارتقاء به، فقد كانت "مختلفة سكنت ولم تبرح، وصارت حبيبة كل السنين".

وفي هذه الحالة يأخذ "الحلم" رمزيته على ولادة واقع جديد فهو "آت في أي لحظة، حين يشاء الله". بينما تمثل "سهام" الواقع بكل فظاظته ورعونته، الأمر الذي تسبّب في عجز "ممدوح" عن التعامل معها. وليس أدلَّ على عمومية هذين الرمزين – سهام وسهى – أكثر من ربط الثنائية بانتفاضة الشباب في "ميدان التحرير"، حيث كان "ممدوح" يخرج آملاً فى التغيير مع هؤلاء المنتفضين منذ اليوم الأول ويرابط معهم في الميدان، و"كان يرى صورة الرجل الذي هتف بإسقاطه مجرد وجه باهت لزوجته السليطة. كان يتقدم نحو اللافتات التي تحمل اسمه ويصرخ فيها: ارحل". واللافت – وهو من قبيل المفارقة – أن يتمكن من مضاجعة زوجته "بعد أن تبدَّلت الصور، وحضر في جسده كل الغاضبين هناك". فالجنس هنا رغبة في التغلب والترويض، بينما "سهى" رغبة في استحضار حلم غائب بعيد.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لا يضع الكاتب عناوين لفصول الرواية ولا أرقاماً كما هو معتاد، لكنه يبدأ بفصل أقرب إلى الافتتاحية العامة باسم "قبل الصحو والمنام"، ثم تتراوح الفصول بين "غشاوة"، و"صحو"، و"منام"، مع تكرارها. في الصحو يرى "سهام" ويعيش واقعه، وفي "المنام" يعيش حلمه مع "سهى". واللافت أن "الغشاوة" أقرب إلى الحالة البرزخية، فهي آخر الصحو وأول المنام، ولهذا يكون من الطبيعي أن تجمع هذه الحالة بين "سهام"، و"سهى" التي تزوره طيفاً عابراً في أوقات شجاره مع زوجته كما يبدو في قوله: "أضناه ما سمع منها – سهام – وطفرت من عينيه دموع رأى في المرآة قطرتين معلّقتين على رموشه، ثم سقطتا على خديه وحين مدَّ أصابعه ليمسحهما لمح طيف التي يراها في المنام".

شخصيات وهمية

يمكن القول إن شخصية "الدكتور علي النادي"، أستاذ التاريخ الوسيط، شخصية وهمية لا وجود لها في الواقع، لكنها حاضرة – فحسب – في وعي "ممدوح علم الدين" حيث يعاني هو الآخر من العجز الجنسي بدلالته التي أشرتُ إليها. غير أن "علي النادي" على درجة من الوعي تجعله يربط بين عجزه الشخصي وعجز الواقع كله، لهذا يتساءل بمرارة: "كيف أستطيع أن أفصل حالي التعيسة عن الهموم التي تسكنني وأنا أرى كل شىء يتدهور حولي؟". وكما كانت انتفاضة الميدان ذات تأثير إيجابي على حالة "ممدوح علم الدين"، مفتش التموين، فإنها قد فعلت التأثير ذاته في "الدكتور علي النادي". يقول "النادي" في ما يدل على تداخل العام والخاص: "أيام الغضب النبيل استعدتُ شبابي. كنتُ أعود من الشارع لأغرق فراشي باللذة. والآن تخنقني الجدران ويعجزني الأسى". ولنلاحظ التقابل بين الشارع بفضائه الواسع المفتوح الدال على الانطلاق والجدران الخانقة داخل البيت الذي أصبح شبيهاً بالسجن. ثم يكتشف "ممدوح علم الدين" – بعد عناء البحث عنه في الجامعة – أن قسم التاريخ ليس فيه أستاذ بهذا الاسم، مما يعني أنه مجرد قناع لوجه "ممدوح" الحقيقي العاجز على المستوى الخاص والعام بعد إجهاض انتفاضة الميدان.  

جمع بصيغة المفرد

ومن الأمور اللافتة حقاً هو تحول شخصية "ممدوح علم الدين" الفرد الذي يحيا حياتين متناقضتين، إلى شخصية عامة، وكأننا أمام "جمع بصيغة المفرد". يقول ضابط الشرطة لمدرس اللغة العربية "سمير عبيد" الذي قرر أن يكتب رواية عن حياة "ممدوح علم الدين"، بتقنية الرواية داخل الرواية التي أشرنا إليها: "أعتقد أن لدينا صوراً عدة لهذا الشخص، كان من الفاعلين في الميدان لم يصعد إلى منصة ولم يتصدر أي مشهد، لكنه كان بارعاً في ارتجال الهتافات، والأهم أنه كان يتجول بين المحتشدين ويحدثهم عن الأحلام التي يجب أن تتحقق". ولهذا ظل يذهب إلى "ميدان التحرير"، وكأنه مساق برغبة لا واعية بحيث يجد قدميه تقودانه إلى ذلك الميدان من دون ترتيب منه، متوقفاً بحسرة أمامه، وبما يشبه النوستالجيا كما يبدو في قوله: "يااااه أيها الميدان أين أنت الآن؟ عدتَ مجرد مكان تدور فيه السيارات والمارة وأنا معهم مجرد ضائع يبحث عن موطئ قدم في هذه المدينة المتوحشة". ويتراوح السرد الذي يتسم بالتدفق والوصل اللغوي بين الفصول، بين ضميري الغائب، وهو الضمير الغالب، وضمير المتكلم، بخاصة عندما يتولى "سمير عبيد" (المؤلف الضمني) ناصية السرد. وأخيراً يمكن القول إن هذه الرواية هي رواية الثنائيات الضدية المتصارعة والتي تتمثل في اليقظة والحلم، والواقع والخيال، والحقيقة والوهم، وغير ذلك من ثنائيات، مما أكسب بنيتها السردية طابعاً درامياً واضحاً.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة