Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"ويلهلم ميستر" لغوته بين الرواية الرومانطيقية والدراسة السيكولوجية

الحبيبة ماريان والمسرح في تجلياته والقصور والغابات في بوتقة البحث عن المستحيل

يوهان وولفغانغ فون غوته  (1749 - 1812) (غيتي)

ملخص

عندما كتب الشاعر الألماني غوته عن الحبيبة ماريان والمسرح في تجلياته والقصور والغابات خلال بحثه عن المستحيل

كان من عادة كاتب الألمان الأكبر وشاعرهم المبجل غوته أن يبتسم بشيء من المرارة وهو يروي لمن يحب أن يسمعه كيف أن حماقة القابلة القانونية التي أشرفت على ولادته كان من شأنها في اللحظة الحرجة أن تميته في مهده وتحرم اللغة الألمانية من كبير كتابها والإنسانية من واحد من أدبائها ومفكريها العظام، لكنه نجا فقرر جده الذي كان عمدة فرانكفورت آم ماين، مسقط رأسه، أن يعين مذاك وصاعداً طبيباً كبيراً يشرف بنفسه على الولادات بدلاً من تركها في عهدة القابلات قانونيات كن أو غير قانونيات. وبهذا يكشف غوته كم أنه كان نافعاً للألمان حتى في يومه الأول. صحيح أن الألمان لم يتوقفوا حينها طويلاً عند تلك الحكاية، فالوليد لم يكن أكثر من مجرد حفيد لعمدتهم، لكنهم لاحقاً سيرتعدون لمجرد التفكير فيها. ففي نهاية الأمر بات غوته كاتب لغتهم المفضل ومفكرهم الأكثر حكمة وشاعرهم الذي عرف كيف يربط بين الشعر والعقل، إلى درجة أن كل استفتاءات الرأي تضعه دائماً في المرتبة الأولى بين مفضلي قومه كما حال هوغو في فرنسا، وشكسبير في بريطانيا. ومع ذلك لا شك أن غوته كان أكبر بكثير مما يعتقد عادة، وذلك لأن تنويعة اهتماماته الإبداعية كانت واسعة إلى حد غير معقول. فمن الرواية إلى الشعر ومن نظريات الأدب إلى البحوث العلمية والدراسات النباتية مروراً بالمسرح ونظريات الألوان تطول لائحة ممارسات هذا المبدع وليس فقط اهتماماته، من دون أن ننسى السياسة وشؤون الشرقين الأقصى والأدنى.

دروب معاكسة

ومع هذا يبقى الغريب الأغرب في إبداعات غوته أمراً يستغلق على الفهم. فهو سلك في شعره دروب العقلانية المطلقة على عكس خلق الله من الكتاب جميعاً فبدا فيه غير رومانطيقي على الإطلاق، في الوقت الذي عبر عن عواطفه ورومانطيقيته الجزلة في رواياته الاجتماعية. وكان ذلك مغايراً تماماً لما اعتاده القراء من كتابهم المفضلين حيث غلبت العواطفية على الشعر بينما غلبت العقلانية على ذلك النوع من الروايات الاجتماعية. والحقيقة أننا نقول هذا وفي ذهننا بصورة خاصة ثلاث أو أربع من روايات غوته الكبرى، والتي من المؤكد أنه كتبها مستنداً إلى حياته الشخصية أو إلى ما كان يمكن لحياته أن تكونه لو أنه أفلت العقال للمشاعر تعيث فيها. ولربما في وسعنا هنا أن نذكر بخاصة روايته الأشهر "آلام الشاب فرتر" التي تقول الحكاية إنها لم تكتف بإسالة أطنان من دموع القراء من الشبان حول العالم، بل دفعت كثراً منهم إلى الانتحار. وما يمكن قوله عن تلك الرواية يمكن أن نقوله ولو مخففاً عن "الأنساب المختارة" وعن "لوت في فايمار" ثم بخاصة عن تلك الرواية الضخمة (بأجزائها المتتالية وصفحاتها الكثيفة) التي تتناول حياة بطل رومانطيقي آخر هو فيلهلم ميستر قد يمكن المساجلة طويلاً حول ما إذا كان كفرتر أنا/آخر بدوره للكاتب، لكن من المؤكد أن هذا الأخير وضع فيه كثيراً من صفاته ومسالكه وأحلامه الإبداعية، فبدا معبراً عن جزء من شخصيته إن لم يكن عن مصائر مطابقة لمصائره.

قمة إبداعية

كثر من النقاد والمؤرخين ينظرون على أية حال إلى "سنوات تعلم فيلهلم ميستر" و"سنوات حج فيلهلم ميستر" وتوابعهما مثل "حج الفنان في هذا العالم" وغيرها من نصوص قد تخلط بين الرواية والبحث النظري والشعر وما شابه ذلك، باعتبارها قمة إبداع غوته في هذا المجال كما - إلى حد ما - نوعاً من التعبير الموارب عن حياة ذاتية ابتكرتها مخيلته ولكن مستندة إلى وقائع وشخصيات منتزعة من حياته. ومع ذلك سيدهشنا الكاتب نفسه حين سيعلن بعد سنوات من ترسخ مكانة هذه النصوص في تاريخه الإبداعي فإذا به يفيدنا أنه حين شرع يخط أول فصول القسم الأول وهو "حج فيلهلم ميستر" إنما كان هدفه وضع دراسة عن المسرح لا تلك الحكاية البيكارية التي تتابع حياة بطله فيلهلم ومغامراته وغرامياته وتقلباته في الحياة الطويلة التي عاشها، بالتالي لم يكن من أهدافه أن يقدم عبر شخصية هذا البطل ما ينم عن تعبير عن الذات.

رواية كونت نفسها

كانت الغاية إذاً كتاباً علمياً مبتكراً يحاول أن يري القارئ كيف ينمو حب الفن عموماً والمسرح على وجه الخصوص في ذهن شاب وجد الدروب سالكة أمامه لخوض تجربة فنية لم يعده لها لا انتماؤه الطبقي الرفيع، ولا تربيته الصارمة ولا ثروة أبيه المتضخمة. ومع ذلك كانت الرواية تكون نفسها بنفسها منتقلة من عالم السبر السيكولوجي لولادة الرغبات الفنية المسرحية لدى شخصية تكاد تكون نمطاً اجتماعياً معيناً، إلى عالم يقدم هذه الشخصية كشخصية روائية تعيش ذلك التنقل بكل جوارحها وتحت وطأة تلك الأحداث البيكارية التي تطالعنا، وبخاصة في القسم الأول "حج فيلهلم ميستر" وهو حج غير ديني على الإطلاق يأخذ تلك الشخصية من وسط عالمها الاجتماعي إلى دنيا المغامرات والمجازفات متنقلة من مدينة إلى أخرى ومن فرقة مسرحية إلى تالية لها ومن أحضان امرأة إلى حياة أخرى سرعان ما تحل بديلة لها. وكل ذلك في سياق ما سيعترف الكاتب لاحقاً أنه لم يولد كفكرة لديه إلا لاحقاً: غرام فيلهلم في مطلع شبابه بماريان، تلك الحسناء التي ومن دون أن تدري قادت خطاه في حياته وفي تبدلاته وهو يبحث عنها في وجوه وعواطف عدد كبير من نساء سيرتبط بهن ولكن دائماً أو بالأحرى غالباً، في ظلمات المسارح والقصور حيناً وتحت أضوائها المشعة المتلألئة في أحيان أخرى.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الحب والمسرح معاً

بالنسبة إلى فيلهلم من الواضح أن ماريان والحياة المسرحية باتتا لديه شيئاً واحداً وهو لئن كان سيعجز في نهاية الأمر عن العثور على ماريان... الأولى، فإنه سيلتقي خلال السنوات المتعاقبة من "حجه" وخلال مغامراته المسرحية المتعاقبة عدداً كبيراً من نساء يخيل إليه مع كل واحدة منهن أنها تلك التي ستغنيه عن ماريان وتنسيه إياها، وذلك بالتوازي تماماً مع ذلك الغوص في الحياة المسرحية غوصاً لن يكتمل أبداً. فكما أن ماريان الحقيقية ستختفي تماماً - كما تختفي الحبيبة الأولى من حياة كل عاشق - كذلك فإن المسرح المنشود لن يوجد في حياته أبداً. والحقيقة أن ذلك ما سيعتقده هو بنفسه في كل مرة يجد خيبته إما في إفلاس فرقة ينضم إليها ويمولها وإما في مباغتة عصابة من اللصوص له ولفرقته التالية في الغابة مما يصيبه بجرح لا يندمل، سرعان ما سيكتشف أنه جرح أبدي لمجرد أنه لم يلتقط في اللحظة المناسبة تلك الفكرة التي سيعبر عنها الشاعر آراغون بعد عشرات السنين قائلاً "نحن لا نعرف أننا عشنا لحظة السعادة إلا بعد أن تكون تلك اللحظة قد ولت". فالحقيقة أن ماريان الحبيبة الأبدية كانت هناك دائماً شبحاً حقيقياً يحوم من حول فيلهلم، والمسرح كان موجوداً بدوره في حياته حتى ولو اتخذ أشكالاً متعددة، لكن المشكلة كمنت في أن فيلهلم نفسه لم يعرف كيف يلتقط لحظتيهما متنبهاً إلى ما تقدمه له الحياة والأقدار من حضورهما في حياته.

خيبات الفرص الضائعة

ومن المؤكد أن هذه الفكرة بالذات هي التي سيرت هنا قلم يوهان وولفغانغ فون غوته (1749 - 1812) وحرفته عن غايته العلمية الأولى ليتوجه نحو رصد أقل تقنية وأكثر عمقاً للكيفية التي ينبغي أن نتعامل بها مع فرص الحياة، أو الفرص التي تعطينا إياها الحياة ونحن عميان لا نبصرها فندعها تمر متابعين سيرنا باحثين عنها حتى الوصول إلى حدود المستحيل. مهما يكن، سيكون من الظلم لرواية غوته الكبيرة والعميقة هذه أن نجعلها تبدو وكأنها مكتوبة من أجل فكرة. فالحقيقة أن هنا وكما الحال دائماً مع هذا الكاتب الكبير، مئات من الصفحات مقسومة على أجزاء عديدة تغوص في متعة القراءة وعمق المعرفة وتشابك العلاقات الإنسانية وسمو العواطف الشخصية، مما يجعل من هذه الرواية وتوابعها عملاً كبيراً سيدهش المرء إن تذكر أنه لم يكن في نهاية الأمر سوى جزء يسير من إنتاج أدبي وعلمي وفكري وشاعري يزيد عدد عناوينه على 260 نصاً كبيراً، عدا الدراسات والمقالات الأصغر حجماً من دون أن تكون بالتأكيد أضأل قيمة.

المزيد من ثقافة