ملخص
كل ما كان يريده هتشكوك في فيلم "سايكو" هو "دفع الجمهور المرتعب إلى صراخ فزع حقيقي
ربما من خصائص فيلم "سايكو" للسينمائي الكبير ألفريد هتشكوك، أنه لا يكاد يغيب عن الواجهة السينمائية حتى يعود إليها، مرة لمناسبة الحديث عن علاقة السينما بالتحليل النفسي ومرة لمناسبة معرض أو حدث يتعلق بفن الرسام إدوارد هوبر. بل مرة – وكانت تلك استثناءً كبيرا – بناسبة فيلم معاصر كان عنوانه بالتحديد "هتشكوك" عرض قبل نحو عقد من الآن وأثار اهتماما كبيرا لكونه يتحدث تحديداً عن الأسابيع التي اشتغل فيها المخرج الكبير على تحقيق ذلك الفيلم. قلنا إن "سايكو" عاد إلى الواجهة، بيد أن هذا الكلام ليس دقيقاً. فالحقيقة إن هذا الفيلم لا يغيب أبداً عن ذاكرة المتفرجين ولا عن استشهادات الباحثين طالما نعرف أنه يعتبر فيلم الرعب السينمائي بامتياز، حيث لا يفوت أية قائمة توضع لأقوى أفلام الرعب في تاريخ الفن السابع، أن تضعه في مكانة متقدمة، حتى وإن كان هذا لا يعني أنه، بين أفلام هتشكوك نفسه، يحتل المكانة الأولى بين أفلام هذا الأخير ولا سيما في قوائم أفضل الأفلام في تاريخ السينما... فهذه المكانة محفوظة دائماً لفيلم آخر من هتشكوك هو "فرتيغو" الذي قفز خلال العقدين الأخيرين ليحتل المكانة الأولى ليس في سينما صاحبه فقط، بل في مجمل الإنتاج السينمائي العالمي وفق استفتاء مجلة "سايت أند صاوند" الإنجليزية المرموقة.
مكانة مختلفة
أما "سايكو" فله مكانة أخرى في تاريخ سينما الرعب ولكن أيضاً في مسيرة هتشكوك نفسه. وربما لا نكون مبالغين إن نحن قلنا إنه الفيلم الذي دُرس وكُتب عنه أكثر من أي فيلم آخر في تاريخ هذا الفن. والكتابة عنه تتناوله عادة من جوانب عدة قد تبدأ بسبر تعبيره عن العلاقة بين التحليل السيكولوجي والسينما، ولا تنتهي بدراسة علاقة الفيلم بالفن التشكيلي ولا سيما ببعض لوحات إدوارد هوبر كما أشرنا أول هذا الكلام. أما السؤال الذي يشغل البال عادة فهو يتعلق بمعرفة ما إذا كان هتشكوك مدركاً وهو يحقق فيلمه هذا، جوهر تلك العلاقات التي تربطه بأبعاد فرويدية أو تشكيلية إلى آخر ما هنالك؟ وفي الحقيقة، إن الذين يراجعون ما قاله هتشكوك دائماً في أحاديثه حول سينماه في شكل عام وحول هذا الفيلم في شكل خاص – ولا سيما في إجاباته المستفيضة عن الأسئلة التي طرحها عليه زميله الفرنسي فرانسوا تروفو والتي أسفرت عن كتاب حوارات بين الإثنين يعتبر من أشهر الكتب في تاريخ الكتابة عن السينما -، سيقعون في حيرة بالنظر إلى أن هتشكوك يبدو دائماً في إجاباته، غير مهتم كثيراً بالتحليلات العميقة التي اشتغل عليها النقاد والباحثون في ما يتعلق بسينماه...
التحليل مهمة الآخرين
ومن البديهي أن نقول هنا إن هذا الأمر طبيعي طالما أننا نعرف عادة أن مهمة الفنان الحقيقي أن ينتج فنه وعلى الآخرين عبء التحليل ولهم ربما لذّته أيضاً. وفي مجال هذا التحليل، كان نصيب "سايكو" كبيراً كما أشرنا. فما هو هذا الفيلم الذي حققه هتشكوك في عام 1960 واضطر إلى أن يموله بنفسه على رغم أن تلك المرحلة من مساره المهني كانت من أنجح مراحله؟ الواقع أن "سايكو" أتى مباشرة بعد "شمالاً بشمال غرب" وقبل "الطيور"، ونعرف أن هذين الفيلمين كانا ولا يزالان من أنجح ما حققه هتشكوك، جماهيرياً على الأقل.. ومع هذا، فإن الأستديوات رفضت المراهنة على تلك الحكاية الإجرامية النفسية التي أراد معلم الرعب تحقيقها منذ اللحظة التي وقع فيها بين يديه كتاب الروائي روبرت بلوك المعروف برواياته البوليسية العنيفة... وهو كتاب وضعه هذا الأخير اقتباساً من واقعة حقيقية كانت حدثت قبل سنوات و"بطلها" مجرم قتل الكثير من الأشخاص.
الحكاية الأساسية
الحال إننا إذا راجعنا اليوم حكاية ذلك المجرم الحقيقي، إد غين، وحكاية جرائمه، لن نجد الكثير يجمع بينها وبين حكاية الفيلم، حتى وإن كان الأساس واحداً... ذلك أن هتشكوك وكاتب السيناريو الذي اشتغل معه على الفيلم جوزف ستيفانو، استحوذا تماماً على الحبكة الحقيقية ليحوّلاها شيئاً آخر. وهتشكوك عبّر عن هذا مرات عدة قائلاً: "في "سايكو"، لم أهتم كثيراً بالموضوع ولا بالشخصيات، كان ما اهتممت به في شكل خاص، ذلك التجميع لعناصر الفيلم: التصوير، شريط الصوت وكل ما هو تقني... أي كل تلك العناصر التي كانت، في نظري، قادرة على دفع الجمهور إلى الصراخ. فأنا اعتقد دائماً أن من المفرح جداً لنا، نحن معشر السينمائيين، استخدام فننا لخلق إثارة لدى الجمهور... وقد حققنا هذا في "سايكو" الذي لم نحمّله أية رسالة ولم نخبئ فيه تفسيراً كان من شأنه أن يحدث هزة ما... بل ولم يكن حتى رواية كبيرة تأسر هذا الجمهور. في يقيني أن ما هزّ الجمهور إنما هو كون الفيلم سينمائياً خالصاً ومتكاملاً".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
حكاية ما...
ومع هذا، ثمة حكاية في الفيلم طبعاً. والحكاية حكاية ماريون الحسناء التي تختلس من مكان عملها أربعين ألف دولار وتهرب بها لتصل إلى نزل تستريح فيه على طريق هربها. في النزل لا نرى نزلاء غيرها. بل ليس هناك من عمال فيه سوى نورمان الشاب صاحب النزل الذي يستقبلها بلطف سرعان ما نكتشف أنه لطف مزيف ولا سيما حين يتلصص عليها وهي تتعرى في غرفتها... غير أن الأسوأ سيحدث لاحقاً حين يقتل نورمان ماريون فيما كانت تستحم بطعنات سكين وزعها هتشكوك على عشرات اللقطات المرعبة المقطعة التي ستصبح الأشهر في تاريخ الفن السابع... إثر هذا وبالتوازي مع انشغال بال حبيب ماريون وشقيقتها بسبب غيابها غير المبرر ما يوصلهما إلى النزل، سنجدنا في قلب مشاهد تجمع نورمان بأمه العجوز في غرفة جانبية حيث سنفاجأ به وهو يلوم الأم على قتلها العنيف للنزيلة الشابة. وهذا كله إن كان يشغل النصف الأول من الفيلم، سيخلي المكان في النصف الثاني لسلسلة مشاهد تتضمن جرائم أخرى ولحظات رعب وتحقيق ومواجهات ستنتهي بنا كما نعرف إلى ادراك أن ليس ثمة وجود فعلي لأم نورمان. فالأم ميتة، أما القاتل – والذي سنعرف أخيراً أن قَتْلَ ماريون لم يكن جريمته الأولى -، فهو نورمان الذي اعتاد أن يتزيا بثياب أمه لارتكاب جرائمه... وهي أولاً وأخيراً جرائم سيكولوجية الدوافع – ومن هنا عنوان الفيلم -... وكما يحدث عادة في مثل هذا النوع من الأفلام سوف لن ينكشف هذا كله سوى في الدقائق الأخيرة وبعد أن يكون المشاهد قد وصل إلى أقصى درجات الرعب...
أما الرعب فلا ينتج عن عدم معرفتنا بالقاتل. فالمتفرج يدرك هوية القاتل باكراً أو يخمّنها، غير أن المشكلة تبقى في غموض دور الأم،... بالتوازي مع عنصر آخر أوصله هتشكوك إلى ذروته، وهو ما ينعكس خلال المشاهد التالية لوصول ماريون إلى النزل في ذلك التماهي الغامض بين المشاهد ونورمان. وهو تماهٍ سيظل قائماً يُشعر المتفرج بتعب ضميره إزاء ما يفعل حتى اللحظة التي ينكشف فيها نورمان بوصفه هو، لا أمه، القاتل الحقيقي... إذ في تلك اللحظة بالذات، وكما أراد هتشكوك تماماً، يتمكن المشاهد من أن يتحرر من ذلك العقاب الداخلي الذي فرضه عليه المخرج مقابل جريمة التلصص التي كان شارك نورمان في ارتكابها.
عنصر رئيسي
والحال أن هذا الاشتغال الهتشكوكي على ذهنية المتفرج كما على أعصابه، يمكن اعتباره من أهم العناصر التي أعطت هذا الفيلم قوته. بل إنه أدى في طريقه إلى إعادة النظر في الكثير من المسلّمات التي كانت قد ترسخت إزاء سينما هتشكوك قبل ذلك. باختصار: منذ "سايكو" لم تعد العلاقة بين سينما هتشكوك وجمهور هذه السينما هي نفسها... لينكشف هتشكوك ساحراً سينمائياً يهمه أكثر ما يهمه في أفلامه أن يتلاعب بمتفرجيه وفي شكل لم يكن ثمة سابق له في تاريخ الفن السابع. ونعرف أن ألفريد هتشكوك (1899-1980) إنجليزي الأصل حقق أول أفلامه في بلده قبل أن ينتقل إلى هوليوود حيث استكمل مساراً سينمائياً حفل بنحو خمسين فيلماً يعتبر بعضها من أروع ما قدمته الشاشة الكبيرة إلى جمهورها. وهو يعتبر حتى اليوم، واحداً من أعظم المخرجين في تاريخ السينما، ناهيك بإنجازاته المبدعة للشاشات الصغيرة. ومن بين روائعه، إلى ما ذكرنا، "مارني"، "النافذة الخلفية"، "غريبان في قطار"، "إني أعترف"، "خابر م. للجريمة" و"ريبيكا" وعشرات غيرها...