Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

حدود الدول.. رسم سياسي بأسلاك شائكة وكرات من لهب

تتعلق بخلافات وحروب وصراعات وملايين البشر الذين يسعون إلى الهجرة والفرار من أوطانهم

قضية فلسطين هي أم القضايا الحدودية (أ ف ب)

ملخص

الحدود بين الدول ترسمها السياسة، ويرتبط تطبيقها بخلافات وحروب وصراعات تدفع ملايين إلى الهجرة والفرار من أوطانهم

لعلها من الأمور القليلة التي لا تتغير صورتها الذهنية بحسب سنوات العمر والنضج، تبقى الحدود في العقل الباطن والصور الذهنية المحفورة للكبار والصغار هي تلك الخطوط المتقطعة على الخرائط التي درسها المتعلمون في المدارس وعرف عنها غيرهم من أحاديث الإعلام وإشارات في الأفلام والمسلسلات، وما زالت فكرة وصول أحدهم عند هذا الخط المتقطع حاملاً حقيبته، فيرفع رجلاً يخطو بها من دولة "أ" إلى دولة "ب" لاحقاً بها القدم الأخرى ليعبر الحدود.

المسيطر والمهيمن على أخبار الكوكب هذه الآونة أمور وأحداث وحوادث تتعلق بالحدود، لكنها لا تتوقف عند مرحلة الخط المقطع والمسافر وحقيبته وخطوته منتقلاً من هنا إلى هناك، لكنها تتعلق بحروب وصراعات تعصف بدول وتضطر آلافاً وملايين إلى التحرك صوب الحدود، وخلافات واختلافات تتراكم بين أخرى حول خط متقطع انعرج هنا قليلاً أو انحرف هناك بعض الشيء، وخطط وأحلام تقابلها جهود لإجهاضها وتحركات لإفشالها، حيث العالم على صفيح حدودي ساخن.

سخونة العالم هذه الأيام مكامنها كثيرة، أحدث حلقاتها ما يجري عند الحدود السودانية حيث موجات هرب آلاف – المرشحة أعدادهم لتصل إلى ملايين – نحو كل من مصر وتشاد وإثيوبيا وجنوب السودان وأفريقيا الوسطى، ناهيك عن محاولات اجتياز الحدود المباشرة للاتجاه صوب دول أخرى مثل السعودية وغيرها من دول الخليج.

لم تعد الحدود الدولية خطوطاً فاصلة بين الدول فقط، كما لم تعد قاصرة على ما يدرسه الصغار في المدارس من أنها نقطة أو خط يحدد انتهاء مساحة من الأرض تابعة لسلطة دولة ما وبدء سلطة أخرى على أرض متاخمة، أو كونها موضعاً جغرافياً تلتقي عنده قوى دولتين حيث ينتهي نفوذ واحدة ويبدأ نفوذ أخرى، لكنها وهمية.

الفصل والوصل

آخر ما يتوقعه الصغار أن تكون الحدود وهمية، لا وجود لها إلا على الورق الذي درسوه، وحديثاً على شاشات المنصات التعليمية، الأكاديمي بكلية الآداب قسم الجغرافيا في جامعة دمياط محمد الهنداوي، يعرفها في دراسة عنوانها "الحدود السياسية" بأنها خطوط وهمية يمكن توقيعها على الخرائط، وأن الهدف الأصلي منها ضمان الحماية العسكرية والاقتصادية والإنسانية، "وعلى رغم أن وظيفتها الفصل إلا أنها تقوم بدور الوصل".

 

 

الوصل الدائرة رحاه على مدار العقد الماضي، وقبله في موجات الحروب والصراع والدمار والكوارث الطبيعية، يثير موجات أخرى من البحث عن هذا الاختراع الغريب الذي تتعامل معه الأغلبية وكأنه خلق مع الكون، لكن الكون منه بريء.

براءة الكون

هذه البراءة لا علاقة لها بفتاوى عجيبة يصدرها بعضهم بين الحين والآخر، قوامها أن الحدود بين بلاد الكفر وبلاد الإسلام حلال، لكن الحدود بين الدول الإسلامية حرام، إنها براءة السماء من فكرة الحدود التي يتقاتل عندها أو بسببها البشر، أو يمنع دخولهم منها هرباً من الكوارث، أو تقام عندها المخيمات موقتاً وبعضها يتحول مزمناً.

البابا فرانسيس دعا قبل سنوات قليلة إلى بناء الجسور بديلاً عن الحدود، لكن ما يجري بناؤه طوال الوقت هو الحدود التي تحولت عبر العقود من منافذ للدخول والخروج، ووسيلة دفاع وتأمين وحماية للأرض، وتأمين الشعب من الأمراض والأوبئة وغيرها، وحفظ الموارد الاقتصادية والبشرية إلى شاهد عيان على أحوال الكوكب، عدلة وظلماً، حراكاً وجموداً واستقراراً، وكذلك هرباً ونزوحاً وبحثاً عن ملجأ.

في السنوات القليلة الماضية، صارت منظومة الحدود وثيقة الصلة بكارثة الهجرة واللجوء هرباً من الصراعات، ويمكن القول إنه لولا الصراعات أو الكوارث الطبيعية من جفاف وفيضانات ومجاعات، لظلت الحدود في العرف البشري أمراً مسلماً به لا يحتاج إلى بحث أو يستحق تنقيباً.   

 البحث عن أصل الحدود يسفر عن ارتباط وثيق بالحدود والهجرة وانتقال البشر من مكان إلى آخر، ومنذ فجر التاريخ والبشر يصنعون حدوداً بين بعضهم بعضاً لأسباب وعوامل تتعلق بفرض القوة وبسط السلطة وإشهار الهيمنة أو لتأمين الموارد الطبيعية، أو للحفاظ على معيشة وإقامة المجموعات البشرية المتشابهة بالقرب من بعضها بعضاً.

هذه الحدود التي تعرفها البشرية اليوم صنعها إما الاحتلال أو الحروب، أو تم سنها بالمعاهدات والاتفاقات بين الدول وبعضها بعضاً، وبينما يعتقد بعضهم أن الحدود ثابتة لا تتغير، فإن المختصين في التاريخ والجغرافيا يؤكدون أنها تتغير حتى لو كان ذلك نادر الحدوث في العصر الحديث.

صناعة الحدود وفكها

"صناعة الحدود وفكها" عبارة تبدو هزلية أو أشبه بلعب المكعبات التي يحبها الصغار، يشكلون دولاً وأمماً ثم يفكونها ويعيدون تركيبها بشكل جديد، لكنها أمر واقع للكبار أيضاً، ويشير كتاب "أمم ودول وحدود: أخلاقيات صناعة الحدود" (2009) إلى أنه حتى في عصر العولمة حيث تنقل رؤوس الأموال ووسائل النقل والاتصال فائقة السرعة وانتشار الشركات متعددة الجنسيات في أرجاء العالم، تبقى الحدود محتفظة بأهميتها القصوى، فهي مسألة محورية للأشخاص الذين يعيشون داخل هذه الحدود التي تحدد نوعية وجودة الخدمات الصحية والتعليمية والاقتصادية والفرص التي يحصلون عليها، إضافة إلى اختلاف منظومة الحريات والحقوق بين حدود دولة وأخرى، هذه الحدود تحميها الدول بكل ما تملك من مال وعتاد وأفراد، وهي الحدود أيضاً التي تمثل تحدياً بالغ الخطورة أمام بعض من البشر ممن يقررون أو يجبرون على اجتيازها – أو محاولة اجتيازها - هرباً من أوضاع صعبة على الجانب الآخر منها.

ويشير الكتاب إلى أن مفهوم الحدود في التاريخ المعاصر صار مرتبطاً بموت من يحاولون اجتيازها بشكل غير قانوني، كما أنه مرتب باستخدام الدول القوة القسرية لمنع هذه المحاولات. وتنفق الدول مبالغ ضخمة على التجهيزات العسكرية والتقنية لتأمين الحدود، وربما يموت جنود دفاعاً عنها، أو تشهد حروباً ضارية وتسفر عن الحروب زحزحة لها بضعة أمتار أو كيلومترات، أو ميل في استقامة الخط، وربما إلغاء لها ودمج دولة "أ" مع دولة "ب"، وكل ما سبق يؤدي إلى عودة للاقتتال أو تجدد للصراع بعدها بأشهر أو سنوات أو عقود.

خطوط متفجرة

وما أكثر الحدود المتفجرة والساخنة والملتهبة في العالم، قوائم أسخن وأخطر 10 حدود في العالم التي يتم سنها وتحديدها كثيرة، منها على سبيل المثال لا الحصر، الحدود الأميركية - المكسيكية إحدى أكثر الحدود ازدحاماً التي تعج بحركة ذهاب وإياب مستمرة، لكن لا الزحام أو الذهاب أو الإياب يعتد بها دلائل أو قرائن على الأمن والأمان، وكثيراً ما تتحول محاولات العبور، لا سيما من الجنوب صوب الشمال إلى معركة مستعرة حال اكتشاف محاولات عبور غير شرعية كثيفة، لكن العبور غير الشرعي من الجنوب صوب أميركا وما يترتب عليه من اللجوء للقوة ليس السبب الوحيد للخطورة، إذ تعرف هذه الحدود بكثافة محاولات تهريب المخدرات بكميات كبيرة، وتحول مدن مكسيكية على الحدود إلى ما يشبه مناطق حرب مستدامة.  

خط دورند

حرب مستدامة أخرى، لا تكاد تكمن حتى تتفجر مجدداً، تدور رحاها عند الحدود بين باكستان وأفغانستان، وتحديداً عند "خط دورند" القاتل الساخن حيث التداخل القبلي سريع الاشتعال، ولا تمر بضعة أشهر إلا ويأتي خبر نشوب اقتتال على الخط ووقوع قتلى ومصابين حتى أنه تم تصنيفه غير مرة باعتباره الخط الأخطر في العالم، القادمون من أفغانستان يعبرون إلى باكستان إما بطرق غير شرعية، أو بحثاً عن علاج مستعص في أفغانستان، والذاهبون من باكستان إلى أفغانستان إما تجار أو سائق شاحنات، وما يضاعف حجم السخونة ويفاقم مقدراً الخطورة، فهو حركة تهريب المخدرات والأسلحة، وهي الحركة التي تتسم بها عشرات الحدود حول العالم.

 

 

ولا يولي العالم اهتماماً كبيراً للحدود المثيرة بين الصين وكوريا الشمالية حيث توتر العلاقات بين الحين والآخر لا يعني أن الحدود بين الدولتين تشهد عبوراً وانتقالاً وكذلك سياحة لا يعرفها كثيرون، مدينة داندونغ الصينية مثلاً الحدودية تشهد انتعاشاً سياحياً بعد رفع قيود كوفيد-19، وذلك عبر "جسر الصداقة" الرابط بين الدولتين، لكن الأمر لا يخلو أيضاً من قصص عن محاولات متفرقة للهرب من كوريا الشمالية واللجوء إلى الصين، وهي المحاولات بالغة الخطورة التي يشبهها بعضهم بمن يهرب من المقلاة إلى النار.

نيران حدودية

نيران حدودية أخرى قريبة تعد "الأسخن" في العالم هي تلك التي يتم إطلاقها بين الحين والآخر على الحدود بين الكوريتين الشمالية والجنوبية، وعلى رغم معاهدات خفض التوتر العسكري بين الكوريتين، إلا أن الحدود تشهد اشتباكات قاتلة بين الحين والآخر، وتشير تقديرات إلى أن هذه الحدود تشهد سنوياً نحو ألف محاولة للهرب من كوريا الشمالية إلى الجنوبية، لكنها محاولات تحمل خطراً قاتلاً من الكوريتين.

ولطالما كانت الحدود بين روسيا وأوكرانيا، وهي الحدود التي تم ترسيمها على وقع الخلاف والعراك، وها هي تتفجر مجدداً ويبقى قوسها مفتوحاً لحين اتضاح نتيجة معركة روسيا الدائرة رحاها في أوكرانيا.

اللافت أن المنطقة العربية تحظى بقدر غير قليل من المكانة في قوائم الحدود الأكثر خطورة وسخونة، حتى قبل تفجر الأوضاع عقب موجات "الربيع العربي" في العقد الأخير، فمثلاً الحدود بين السودان وتشاد كانت توصف بـ"حدود النار" على مدار سنوات طويلة، كذلك الحال بين السودان وجنوب السودان، فعلى رغم الاسم المشترك إلا أن البلدين المنفصلين في 2011 بينهما تاريخ طويل من الخلافات القاتلة والاختلافات المميتة، التي تشهد مع موجة الهرب واللجوء الحالية هدوءاً نسبياً على وقع كارثة السودان.

وتبقى سيدة الحدود الخلافية وملكة الاقتتالات والصراعات المستدامة الحدود بين فلسطين وإسرائيل، وهي الحدود التي ما زالت ملايين، لا سيما من العرب، تؤمن أنه ما كان لها أن تكون موجودة من الأصل.

يبقى صراع الحدود الفلسطينية - الإسرائيلية مصنفاً "أبو الصراعات الحدودية" و"أستاذ الحدود الملتهبة"، لكن يلوح بعض منهم بأن التلميذ أحياناً يتفوق على أستاذه، فعلى سبيل المثال لا الحصر، يقف "الخط الأزرق" بين لبنان وإسرائيل، على رغم إنه ليس حداً سياسياً بالمعنى المعروف للحدود، واقتصاره على أنه موقع الخط الذي يمثل لدى الأمم المتحدة أقرب المسافات للحدود الدولية بينهما، وكذا بين لبنان وسوريا، ليظل خطاً ساخناً وحداً ملتهباً.

هدوء نسبي

وما دام ذكر الالتهاب، فإن الحدود التركية - السورية تبقى ضمن الأكثر التهاباً في العالم، وعلى رغم الخفوت النسبي الحالي، إلا أنه لا يعد انتهاء أو علاجاً للالتهاب، فقط تضميداً لتقيحاته، ويكفي هذا الكم المذهل من البحوث والدراسات التي تنجز حول الحدود السورية - التركية في العقد الماضي، وذلك على خلفية الصراع الدموي الذي دمر سوريا على مدار ما يزيد على 10 أعوام، والغموض الذي يظل يكتنف هذه الحدود.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الباحثان في "مركز مالكوم كير - كارنيغي للشرق الأوسط" في بيروت أرميناك توكماجيان وخضر خضور أشارا في ورقة عنوانها "دولة الحدود: إعادة تصور الأراضي الحدودية السورية – التركية" (2022) إلى إمكانية تقسم هذه الحدود إلى مناطق سيطرة منفصلة تدعم مشاريع سياسية متناقضة، والفصائل السورية المتناحرة والأهداف والمطامع التركية المتناقضة كانت تتجسد بصفة يومية على الحدود، وتفاصيلها الكثيرة وكرات لهبها كانت تنشتر في الداخل السوري، لكن مشهد الحدود ظل رمزياً كاشفاً.

أشارت الورقة إلى أنه منذ إنشاء الجمهوريتين التركية والسورية في النصف الأول من القرن الـ20، شكلت الحدود الفاصلة بينهما مسألة خلافية، لا سيما في الثمانينيات حين أمدت سوريا حزب العمال الكردستاني بالدعم، والاستثناء اللافت الوحيد للقاعدة كان العقد الأول من القرن الـ21، خلال ما وصفه الباحثان "التقارب التاريخي بين تركيا وسوريا"، لكن النزاع السوري الذي اندلع في 2011 حول الحدود إلى نقطة عبور تستخدم بكثرة لدخول اللاجئين الوافدين من سوريا إلى تركيا، وللأموال والأسلحة والمقاتلين الأجانب من تركيا إلى سوريا.

تحولات ديموغرافية

 الحدود الملتهبة لم تكتف بالأحداث المشتعلة، بل وقفت – وما زالت - شاهد عيان على تحولات ديموغرافية جرت رحاها على الحدود، وبحسب الدراسة فإن عدد السكان مثلاً في ناحية سرمدا الواقعة بمنطقة حارم في محافظة إدلب زاد من 15 ألفاً قبل 2011 إلى 130 ألفاً في 2020. كما زاد عدد سكان منطقة حارم التي تضم سرمدا وباب الهوة وبلدات حدودية أخرى من 45 ألفاً قبل 2011 إلى نحو 1,1 مليون سوري في 2019.

دليل آخر على ما أحدثته الحدود الملتهبة هو انتقال – أو تفتت - مكانة حلب كمركز للأعمال والصناعة في شمال سوريا التي كان يساهم اقتصادها بنحو 24 في المئة من إجمالي الناتج المحلي السوري، ظهرت منظومة اجتماعية واقتصادية جديدة عابرة للحدود. ومن خصائص هذه المنظومة – بحسب الباحثين - تشكل مجتمعات ومراكز أعمال في جانبي الحدود السورية – التركية.

تجارة حدودية

"التجارة عبر الحدود" عبارة تستخدمها المؤسسات الدولية والمنظمات المالية والكيانات الرسمية للدلالة على العملية اللوجستية لتصدير واستيراد البضائع عبر الحدود بين الدول والقوانين الحاكمة والجمارك المفروضة والضرائب المنصوص عليها إلى آخر القائمة المعروفة، لكن قائمة أخرى غير معروفة ولكنها راسخة وثابتة، وإن كانت متغيرة بحسب الظروف والصراعات والاحتقانات تحوي التجارة عبر الحدود بمعناها المباشر.

الاتجار بالبشر والسلاح والمخدرات والسلع الممنوعة والمهربة تجارة تنتعش على الحدود الفعلية على الأرض، سلع وبشر ودولار، ومخدرات وذهب وأدوية مغشوشة، مهاجرون وسجائر مقلدة وقطع أثرية، وكذلك هواتف محمولة وأجهزة كهربائية وأطفال، وملابس مقلدة، إضافة إلى مشروبات كحولية وقوائم منظومة التجارة عبر الحدود بمعناها المباشرة طويلة.

وبحسب "الإنتربول" (المنظمة الدولية للشرطة الجنائية)، فإن الاتجار بالسلع المقلدة والمقرصنة جريمة تنفذها مجموعات إجرامية واسعة النطاق ومتشعبة، وهي ذات صلة واضحة بالاتجار بالبشر والفساد والرشوة وغيرها من الجرائم التي تلحق الضرر بالاقتصاد العالمي والصحة العامة في كل العالم، وتزدهر على الحدود.

يطلق عليها بعضهم "أسواق الحدود" معتبرين إياها مصدراً للرزق، وفي أقوال أخرى للثروة الطائلة، ويعتبرها آخرون، ومنهم الدول والحكومات ومنظمات عديدة، جرائم تجارية واقتصادية واجتماعية تسهلها الحدود، لا سيما الوعرة وغير الخاضعة للرقابة على الجانبين.

فساد على الحدود

منظمة الشفافية الدولية تولي "الفساد على الحدود" اهتماماً كبيراً، لا سيما على الحدود الأفريقية "حيث يقتصر الاهتمام - بحسب المنظمة - بالبحث في الفساد المرتبط بالجمارك، لكن ضعف الرقابة وتراوح مستويات استقلال الدولة والسلطات ومدى امتدادها إلى المناطق الحدودية، والأطر التنظيمية المعقدة التي تعد أرضاً خصبة لـ"حوافز" الرشوة، وضغوط تمارسها شبكات الجريمة المنظمة، وتدني رواتب الأفراد العاملين على الحدود مما يجعلهم أكثر عرضة لقبول "الحوافز" في مقابل تيسير أو إغماض العين جميعها تجعل الفساد على الحدود منتعشاً.

ليست كل حدود العالم منتعشة بفساد أنشطتها أو وعورة أراضيها أو ضعف الرقابة عليها، أو وفرة نصيبها من القتال والصراع ومن ثم حركة اللجوء والهرب، فمنها ما يعد في حد ذاته مصدر جذب سياحي، سواء لروعة المعالم أو غرابة الملامح وسهولة العبور جيئة وذهاباً.

مدينة في دولتين

مدينة "شيشين" تقع في دولتي التشيك وبولندا فعلياً، وفي أعقاب الحرب العالمية الأولى، تم تقسيم المدينة التاريخية بين الدولتين الوليدتين بولندا وتشيكوسلوفاكيا اعتماداً على خط فاصل متمثلاً في النهر الذي يمر فيها، وإن بقيت الجسور رابطة بين الجزئين، وفي عام 2004 انضمت كل من بولندا والتشيك إلى الاتحاد الأوروبي، فتم إلغاء الإجراءات المتعلقة بالهجرة والجمارك بين شقي المدينة.

وفي سياق مشابه تقع مدينة كركراده في كل من هولندا وألمانيا، وهي المدينة التي تحول منتصفها إلى ثكنة عسكرية ألمانية مكثفة في أثناء الحرب العالمية الثانية التي شيدت جداراً فاصلاً، وعلى رغم أن الجدار تحول إلى "شبه جدار" بعد انتهاء الحرب، إذ كان المارة يعبرونه بأقدامهم، إلا أن الاتحاد الأوروبي ألغى القيود الإجرائية تماماً، وأصبحت المدينة "ثنائية الهوية".

إذاً يحدث أحياناً أن يمر الخط الحدودي الفاصل في داخل مدينة، أما أن يمر في داخل بيت فهذا هو العجيب والغريب، ويظل الخط أو الحد الأغرب على الإطلاق هو ذلك الذي يمر في داخل بيت على الحدود بين هولندا وبلجيكا، بحسب "أطلس أوبسكيور" أو "أطلس الأمور الغامضة"، فإن مدنية بارل تحوي بيتاً يحمل عنوانين، الأول في هولندا والثاني في بلجيكا، حيث يقع المطبخ وغرفة الجلوس في دولة وغرف النوم والحمام في دولة أخرى.

 

 

ومنعاً للصداع الإداري، فقط تقرر أن يكون البيت تابعاً للدولة التي يقع فيها باب البيت الأمامي، وهو ما تسبب في صداع إضافي، إذ اتضح أن باب البيت يقع بالضبط على الحد الفاصل بين هولندا وبلجيكا، لذلك أعطي سكان البيت حق اختيار أي الدولتين يتبعون وذلك للحصول على الخدمات، وأغلب من يسكن هذا البيت اختار أن يتبع بلجيكا حيث الخدمات أرخص.

مفارقات دولية

داخل إيطاليا جغرافياً، تقع دولة سان مارينو، وهي دولة متناهية الصغر تبلغ مساحتها الكلية 61 كيلومتراً مربعاً، وكذلك الفاتيكان التي يمكن للزائر أو المواطن أن يمر بها من دون أن يعي أنه مر على الحدود.

وفي قلب أوروبا نقطة حدودية ثلاثية تمثلها طاولة خشبية تستخدم لتناول الطعام في الرحلات مثبتة في النقطة التي تلتقي فيها حدود الدول الثلاث، ويجلس الزائر لتناول الطعام في ثلاث دول في الوقت نفسه ثم يختار وجهته عابراً الحدود بخطوة واحدة.

مكتبة في دولتين

خطوة أخرى تنقل صاحبها من دولة إلى أخرى بمجرد أن يدخل مبنى من الباب الأمامي ويخرج من الباب الخلفي، يدخل الشخص المكتبة من الولايات المتحدة الأميركية ويخرج من باب آخر ليجد نفسه في كندا أو العكس، حيث نصف "مكتبة هاسكل" التاريخية يقع في كندا والنصف الآخر في أميركا، وعلى أرضية المكتبة شريط أسود لاصق يمر عبر أرضية المكتبة مشيراً إلى الخط الحدودي الفاصل بين مدينتي ديربي لاين في ولاية فيرمونت الأميركية وسانستيد في مقاطعة كيبيك الكندية، والباب الأمامي ولوحة الإعلانات وقسم الأطفال يقع في أميركا، أما سائر الكتب وغرفة القراءة فتقع في كندا.

ويمكن عبور الحدود بين البرتغال وإسبانيا، ليس براً أو جواً فقط، ولكن عبر الإمساك بحبل والانزلاق عليه لمن يستطيع إليه سبيلاً ورباطة جأش ولياقة بدن.

وعلى ظهر هذا الكوكب من ينظر إلى حدوده وقيوده وما يجري عليها من أنشطة، سواء مقاه ومطاعم ومشاهد تأخذ الألباب، أو كوارث ومصائب ومشاهد تدمي القلوب وتخرب العقول، ويتخيل لو أنه تمكن من ورقة وقلم أو من تطبيق رقمي ليعيد رسم الحدود بشكل أفضل لخرج العالم بشكل أحسن وتقاطعت خطوطه الوهمية بطريقة أنسب.

خرائط "غوغل"

الطريف أن "غوغل" قامت بعمل مشابه قبل سنوات قليلة، فقد اتضح أن خرائطها تتغير حدودها بحسب من يطلع عليها، سبعة عقود وأكثر من النزاع المميت بين الهند وباكستان بسبب إقليم كشمير تنتهي بفتح خرائط "غوغل" في الهند حيث يبدو إقليم كشمير تحت السلطة الهندية تماماً، لكن المتصفحين خارج الهند يرون خطوط الإقليم المتعرجة كالثعبان متقطعة كما هي، في إشارة إلى أن الإقليم محل نزاع.

الخرائط نفسها حذفت اسم "فلسطين" في 2020 وهو ما أثار غضبة فلسطينية وعربية مطالبة "غوغل" بإعادتها، وفي عام 2014 أصبحت شبه جزيرة القرم جزءاً من روسيا في النسخة الروسية من الخرائط.

تغيير الحدود، أو زحزحتها إلى اليمين قليلاً أو اليسار بعض الشيء، وكذلك إلغاؤها أو إعادة ترسيمها أو إضافة مزيد منها لإقامة دولة داخل دولة، جميعها أمور واردة حتى وإن كانت نادرة، وتظل فكرة الحدود بالغة الإثارة والتعقيد، تفتقت عنها أذهان البشر قبل قرون، وبذلوا الغالي والنفيس من أجل الحفاظ عليها، ويطالبون طوال الوقت بإلغائها، وفي الوقت نفسه يحذرون من مغبة التساهل في إجراءات المرور والعبور.

ويظل الفيلم السوري "الحدود" الذي كتب قصته محمد الماغوط وقام ببطولته كل من دريد لحام ورغدة نموذجاً رائعاً يمثل جدلية الحدود، لا سيما عربياً، فحين يصل السائق إلى النقطة الحدودية بين دولتي غربستان وشرقستان، تشاء الأقدار أن تضيع أوراقه الثبوتية، فيقف حائراً، لا هو قادر على العودة ولا استكمال الرحلة، فيضطر أن يقيم على الخط الحدودي لحين إشعار آخر، إنها الحدود "الوهمية" التي تحكم واقع السياسة والتاريخ والجغرافيا والاقتصاد والأمن والتجارة ومصائر البشر.

المزيد من تحقيقات ومطولات