Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ظاهرة "توبة" الفنانين: الفن لا يتاب عنه

ما يتشدقون به هو أكبر خطر يهدد الفن برمته

اعتزلت الفنانة المصرية شادية ولم تهاجم الفن حتى وفاتها (اندبندنت عربية)

ملخص

من حق الفنان أن يتوقف عن العمل، لكن يجب ألا يأخذ هذا الاعتزال صبغة "التوبة" الدينية، فالفن لا يتاب عنه

النفاق ليس مهنة السياسيين فقط، إنه حرفة بعض الفنانين أيضاً، بل هو ملجأ بعض الأدباء الأخير، الشعراء والروائيين، الذين ضاعت بهم سبل الفهم وحسن قراءة الواقع.

ويظل الدين هو السور الواطي، السور الحاني، الذي يقفز عليه الجميع للوصول إلى رضا الجميع، الدين هو المركوب المهم، بل الأهم، الذي يعود إليه السياسي والفنان والشاعر كي يسعد بضمير نائم لا تحركه الأسئلة ولا يقلقه الاختلاف.

كثير من مظاهر التدين هي "لباس" خارجي لقضاء غرض مقصود، وضد الدين الحنيف.

 في ظل مجتمع، كمجتمعنا، مهووس بالدين السياسي، مجتمع يتنفس برئتي الدين السياسي، فبهما يشتري ما يأكل وما يشرب، ويسافر بقراءة دعاء الدين السياسي، ويحارب به الآخر، ويكره جاره انتصاراً لهذا الدين السياسي، أو يحبه لملته السياسية، كما يغرس اعتماداً على رؤيته، ويجوع باسمه، وكذلك يقتل، ويحل المعادلات الرياضية المعقدة بالمنهج نفسه، ويذهب للمدرسة أو يعود منها بالداعي نفسه، ويتزوج باسم الدين السياسي.

في مجتمع هو فريسة الدجل العريق، إذ يقرر فيه مصير الأفراد والجماعات الدجالون والسحرة والرقاة بدلاً من الفلاسفة وعلماء الاجتماع والأطباء والنفسيين، في مجتمع كهذا يعيش الفنان ويكبر في حصار مستمر ربما يعرضه في مرحلة من المراحل إلى الانقلاب على نفسه، على مساره، على قناعاته وأحلامه التي كبر عليها ولها. 

في مجتمع لا يخنق الفرد بثنائية "الحلال والحرام" التي هي قدر مجتمع بمؤسسات تختلط فيها الأحكام والمهمات والقيم، مؤسسات غامضة وهشة، حيث يختلط الديني بالثقافي، والسياسي بالمصلحي، والسياحي بالفاسق، والأجنبي بالعدو، والفني بالتبرج، والاجتهاد بالكفر، والعمل بالقدر، والحب بالزنا، وكذلك القانون بالقهر، والمهندس بالمندس، والتاجر بالسارق، والاستثمار بالفساد، والاستفادة بالنهب، في مؤسسات بلا أخلاق ولا روح ولا اجتهاد يبدو الفنان بكل ما يملكه من هشاشة معرضاً للاختناق الاجتماعي والثقافي والفني، وأمام هذا الوضع المنكسر يبدأ في رحلة مستمرة من التفكير في "الانتحار".

الانتحار، بالنسبة إلى الفنان، ليس عملية وضع حد لحياة فيزيولوجية، إنه الانتحار مع تأجيل الموت، إنه الموت المتواصل.

في ظل مجتمع مهزوز رهن حاضره ومستقبله للماضي وفقط، يكون تكوين الفنان قائماً على أسس غير صلبة، وتكون دعائمه معرضة في كل لحظة للانهيار، ويكون بالتالي نفسه الفني قصيراً ومعرضاً لكل الرياح، ويكون فاقداً الثقة في نفسه، وفي فنه، وفي مساره ومسيرته.

في ظل هذا الوضع السياسي والروحي والديني والمؤسساتي تنمو ظاهرة "التوبة" لدى الفنانين والفنانات.

إن ظاهرة "التوبة" التي يتشدق بها بعض الفنانين والفنانات هي أكبر خطر يهدد الفن برمته، ويهدد صورة "الفنان" وصورة المثقف بشكل عام، لأنها لا تظل حالاً "فردية"، بل يتم "التسويق" لها سياسياً، ويستثمر فيها دعاة الدين السياسي بشكل كبير من أجل محاربة "الفن" الأصيل ومحاربة "الحرية الفردية" ومحاربة "المرأة" وفكرة "المساواة" وقيم الجمال.

"التوبة" كما يقدمها الفنانات والفنانون، المنكسرات والمنكسرون، في غالب الأحيان، هي بطاقة ولاء للدين السياسي ورضوخ للإكراهات الاجتماعية القاسية، وهي في الوقت نفسه فرصة لقوى "الموت" لتعزيز مواقعها من أجل محاربة جمال الحياة والانتصار للموت.

لم تكن يوماً ما صورة الفنان صورة معارضة لصورة للمؤمن، فالفنان يحفر في حقل آخر غير حقل الدين، والفن لا يتعارض مع الإيمان بمفهومه الفلسفي، بل الفن طريق للإيمان، ولكن مع مجيء فقهاء الدين السياسي حُدد الإيمان على هواهم وأهوائهم، إذ فتحوا باب الحرب ضد الفن والفنانين، وحرموا الرسم والموسيقى والفن التشكيلي والشعر وكل ما يمنح الحياة طاقة من السعادة. 

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

إن "التوبة" التي نسمعها على أفواه بعض الفنانين وحتى بعض الشعراء، حين يتقدم ببعضهم العمر، وتطفأ عن بعضهم أضواء الشهرة، وينحدرون إلى النسيان، هي دليل حيرة ثقافية وفنية ومأزق سياسي اجتماعي شامل، يعيشه الفرد والجماعة على حد سواء، حال "الانتكاس النفسي" و"الخيبة الفردية"، إذ لا يتأخر كهنوت الدين السياسي على التقاطها والاستثمار فيها لمهاجمة الفن وتقبيحه للعامة، ويشيطن الفنانين، ويروج لمثل هذه الخطابات إعلام الإثارة والدجل الذي - للأسف - يفلت من المحاسبة والرقابة. 

منذ نهاية السبعينيات مارست النخب المنتمية إلى الإسلام السياسي عقيدة وتنظيماً ولولائها المطلق أيديولوجياً لجماعة "الإخوان المسلمين" أساساً، نخب مشكلة من بعض المحامين وبالتنسيق مع بعض الصحافيين المصريين، ضغطاً كبيراً على الفضاء الفني والإبداعي والفلسفي في مصر، ومنها انتشرت الظاهرة في بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

وأصبحت هذه النخب، التي هي صوت الإسلام السياسي الإخواني، بما تملكه من قوة ضاغطة في الإعلام، تمارس التكفير والتخوين والترهيب ضد الفنانين والفنانات، ولا تتردد في رفع الدعاوى ضدهم وضد المثقفين والمفكرين الذين يختلفون معهم في الرأي الفكري أو التوجه السياسي، يقومون بهذه المهمة بالاستناد إلى أفكار يعثرون عليها في مقابر الكتب، أفكار تذكرنا بمأساة الحلاج وابن المقفع، وكذلك ابن رشد وبشار بن برد وابن الراوندي والمعري وغيرهم ممن وصفوا بأصحاب "الكتب الملعونة"!

وعرفت الساحة السياسية والثقافية مجموعة من المحامين الذين صنعوا مجدهم الرمزي على قضية "رفع الدعاوى ضد مثقفين ومفكرين وفنانين"، وانتشرت هذه الظاهرة في بعض البلدان العربية والمغاربية الأخرى، إذ سارت مجموعة من المحامين فيها على خطى المحامين المصريين، فأصبحت المحاكم منصة لمثل هذه الدعاوى الخطرة.

هل ظاهرة "التوبة" لدى الفنانات والفنانين يمليها الخوف والترهيب؟ إن الخوف ثقافة طاغية وغالبة في المجتمعات التي لا تحترم الحرية الشخصية، ولا يؤمن فيها الفرد ولا الجماعة بحرية المعتقد وباحترام المختلف فكرياً وسياسياً ولغوياً.

هل ظاهرة "التوبة" عند الفنان مظهر من مظاهر النفاق الاجتماعي؟  إن المجتمع الذي "يخاف" لا يمكنه أن يسمح بالعيش بوضوح وشفافية، بالتالي ربما يلجأ الفنان إلى مثل هذا الاحتماء القطيعي حين يشعر بالحصار من كل الجهات.   

هل ظاهرة "التوبة" صورة لحال الإخفاق الفردي؟ في حالات كثيرة الإخفاق في الوصول وعدم تحقيق ما كان مرسوماً في الخيال يجعل الفنان يتقوقع، ينتكس، بل ويفكر في الانتقام من نفسه ومن المؤسسات التي لم تسمح له بالتموقع العالي.

هل ظاهرة "التوبة" نتيجة قناعة فكرية؟ إن الفنان بالأساس شخص يشتغل في مربع القيم الإنسانية العالية، كالحب والحرية والمساواة والسلم والعدالة، وهذه القيم لا يمكن لأحد أن يتأسف على الانتماء إليها والدفاع عنها والترويج لها.    

إن ظاهرة "التوبة" في عمقها البنيوي تعبير عن خلل ثقافي وأخلاقي، في مجتمع تختلط فيه القيم، ويقل فيه الحلم، وتضيع آفاق المستقبل، وهي أيضاً صورة عن خلل في التدين بمفهومه الاجتماعي، إذ يصبح الدين "مظهراً" خارجياً وتصريحاً إعلامياً بدلاً من أن يكون حالاً شخصية حميمية صادقة بين المخلوق والخالق، وهي إلى ذلك صورة عن الجفاف الروحي الذي يضرب العالم المشدود إلى المال والمادة.   

الفن لا يتاب عنه، وحينما يعلن فنان أو فنانة ما "التوبة"، فكأنما يقول إن رفاق البارحة، أصدقاء البارحة، خلان البارحة من الفنانين جميعهم يعيشون داخل الخطأ، داخل الكفر، وهذا الأمر خطر جداً، وأكثر من ذلك فوسائل الإعلام التقليدية التليفزيون والراديو والصحف الورقية الصفراء أو ما تبقى منها وشبكات التواصل الاجتماعي تروج لذلك بشكل محموم.

من حق "فنان" أو فنانة ما أن يعتزل أو تعتزل، من حقها ومن حقه أن تتوقف أو أن يتوقف، لكن يجب ألا يأخذ هذا الاعتزال أو هذا التوقف صبغة "التوبة" الدينية، فالفن لا يتاب عنه.  

اقرأ المزيد

المزيد من آراء