Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

لسع الدبابير... حين تكون المعرفة أجمل

قد يفيدنا الوصول الفوري إلى المعلومات في حياتنا اليومية لكن ألا يثير إعجابنا أولئك القادرون على أداء المهام بثقة وجمال وحيوية؟

الحكمة! ليس مرجحاً أن تظهر هذه الكلمة اليوم إلا متبوعة بعلامات تعجب (أ ف ب)

ملخص

ماذا عن بؤس الإبداع حين تحوله آلة إلى محض اجترار لما سبق من معارف دونما إضافة من خيال أو إلهام أو عبقرية، ألا يجدر بنا أن نخاف ذلك العقم الأكيد بدلاً من خطر موهوم؟

كنا على مدار التاريخ الإنساني نطور أدوات من قبيل الإزميل والحجر والورق والقلم والحبر والمطبعة والكمبيوتر والإنترنت، لتساعدنا في حفظ معارفنا ونقلها بهدف أن نقوم نحن بترتيبها ومعالجتها للاستنتاج أو للنقض والتفنيد، والبناء في كل الحالات عليها إنتاجاً لمعارف جديدة. وأخيراً، بدأ بعضنا يغيرون رأيهم، ويعملون للانتقال إلى مرحلة جديدة يعهدون فيها بإبداع المعرفة إلى غير البشر، من الآلات ذات الذكاء الاصطناعي.

أغلب من يخشون هذه النقلة يرجعون خوفهم إلى واقع كابوسي خيالي تسود فيه الآلات البشر، لكن ماذا عن الإبداع نفسه، ماذا عن الخسارة الفادحة التي سيمنى بها الإنسان حين يستبعد نفسه من عملية الإبداع، ماذا عن بؤس الإبداع حين تحوله آلة إلى محض اجترار لما سبق من معارف دونما إضافة من خيال أو إلهام أو عبقرية، ألا يجدر بنا أن نخاف ذلك العقم الأكيد بدلاً من خطر موهوم؟

مستقبل بلا بشر

لعل كتاب سيمون ويشستر الجديد الصادر بعنوان "معرفة ما نعرفه منذ الحكمة القديمة وحتى السحر الحديث" لا يناقش هذه الأسئلة مباشرة، لكنه يثيرها في ذهن قارئه. فالكتاب الذي يرصد في أكثر من 400 صفحة تاريخ الإنسانية في علاقتها بالمعرفة، إنتاجاً وتخزيناً وإذاعة وتوريثاً، يرغم القارئ على المقارنة لا بواقعه المعيش، فهذا أيضاً يعرض له الكتاب، وإنما بمستقبل يبدو في ما يتعلق بالمعرفة أقرب إلى الخالي من حضور البشر، وعبثاً يحاول خيالي فلا يجد أبناءنا في هذا المستقبل إلا حيث يجد الحيوانات ترعى في غفلة غير مكلفة شيئاً إلا أن تعيش إلى أن تموت.

يكتب جيمس مكوناتشي مستعرضاً الكتاب -"تايمز"، السابع من مايو (أيار) 2023- فيبدأ أول ما يبدأ بنفيه القاطع لأن يكون هذا الكتاب ذا طبيعة سيرية، وهو بالطبع ليس كذلك وإن استلهم كاتبه طرفاً من حياته، لكن من الممكن وصفه قطعاً بأنه سيرة ذاتية للمعرفة. وحتى ما يحكيه وينشستر عن نفسه إنما ينطبق على علاقة كل إنسان بـ"ما يعرفه". وهو يستهل الكتاب بحكاية دالة من طفولته "إذ كانت كتب المعارف العامة موضوعة دائماً في المقعد الخلفي من سيارة "فورد" العائلية. فكان وينشستر الأب يطلب منه أن ينتقي كتاباً ثم يقول له "اختر صفحة، أي صفحة"، وإذا بالابن ينخرط في أسئلة من قبيل "ما العامل المشترك بين وطواط حدوة الحصان وثعلب الماء والفراشة اللؤلؤية؟ أو ماذا تعرف عن لعبة تراكو؟". ويعلق مكوناتشي بأن وينشستر "في كتابه الجديد يستثمر تلك الروح فيشعر القارئ طوال الوقت بأنه في عالم يألفه".

 

 

قد تكون هذه الحكاية دالة على دفء كان يسم تلقي المعارف حتى عهد قريب وهو اليوم نادر بعض الشيء، لكن ثمة حكاية أدل على اكتساب البشر المعرفة، ربما منذ ما قبل اكتشاف النار، وإلى ما بعد الذكاء الاصطناعي، إذ يكتب بيتر ساغال في استعراضه –"نيويورك تايمز"، 26 أبريل (نيسان) 2023- عن "حكاية تجري أحداثها في أواخر صيف عام 1947 حين كان [وينشستر] في الثالثة من العمر تقريباً. وكيف أنه تعلم، بأكثر طرق التعلم إيلاماً، أن في العالم شيئاً اسمه الدبور، وأن هذا الشيء يلسع لسعة مؤلمة". فمن منا لم يعش أحداث هذه القصة، لكن وينشستر يحكي من خلالها كيف "تنتقل المعرفة من معينها الشاسع إلى تنويعة شاسعة بالقدر نفسه من العقول البشرية، وكيف تطورت سبل النقل هذه على مدار آلاف السنين من الوجود البشري".

يكتب ساغال أن "هذه الحكاية تنطوي على ثيمة أخرى، إذ إن الطفل الذي استخلص هذه المعرفة من معينها المباشر سنة 1947 هو الآن في عام 2023 على مشارف الـ80، وقد قضى ما بين السنتين في نقل المعرفة نقلاً أنيقاً دقيقاً واسع الاهتمامات، فكأن هذا الكتاب كله تعليق على حياة مؤلفه".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

والحق أن وينشستر عاش حياته فعلاً خادماً للمعرفة، إلى حد أن ناقد "واشنطن بوست" المخضرم ماكل ديردا يصفه في عرضه للكتاب – الرابع من مايو 2023- بأنه أقرب إلى (جمعية) منه إلى فرد. يكتب ديردا أن سيمون وينشستر "قرب منتصف كتابه الجديد يخصص صفحات لمنظمة بريطانية تأسست عام 1826 باسم (جمعية نشر المعرفة النافعة) واستهدفت، بنشر كتيبات في مواضيع عديدة، توسيع الآفاق الفكرية للطبقة العاملة المتعلمة الجديدة في تلك الحقبة. ومن أوجه كثيرة يستحق وينشستر، بكتبه عن قاموس أكسفورد للغة الإنجليزية، وانفجار كاركاتاو البركاني، ونهري يانجتزي والميسيسيبي، والخرائط الجيولوجية، وزلزال سان فرانسيسكو سنة 1906، والمحيطين الأطلنطي والهادئ، وكثير للغاية غير ذلك، أن يوصف في زماننا بـ"جمعية الرجل الواحد لنشر المعرفة النافعة".

يكتب ديردا أن وينشستر في تناوله لأي موضوع "يمزج البحث العميق بالكتابة المعلوماتية الواضحة اللائقة بصحافي، إذ عمل لسنين كثيرة مراسلاً أجنبياً لصحيفة (غارديان) البريطانية، مع وفرة من النوادر المثيرة والهوامش والاستطرادات، في نثر واضح دائماً لكنه أيضاً مشحون بأسلوب أنيق بليغ، فضلاً عن إثرائه جمله بإحالات أدبية ماكرة كأن يصف عقول الرقباء الصينيين بأنها "شاسعة، باردة، يعوزها التعاطف"، وهذا هو الوصف نفسه الذي خص به أتش جي ويلز عقول المريخيين في رواية له".

دهشة المألوف

بهذا النثر وهذا النهج إذن يستعرض الكتاب كيف جرى على مر العصور إبداع المعرفة، وتصنيفها وتنظيمها وتخزينها وتوزيعها وإشاعتها ونشرها. منذ الحكي الشفوي، مروراً بظهور الكتابة، ثم نشوء المكتبات في العصور العتيقة واكتشاف كاي لون للورق في الصين ثم مطبعة غوتنبرغ، وصولاً إلى عصر الموسوعات وصعود الصحف والإذاعة والتلفزيون وتقنيات الدعاية والعلاقات العامة، وأخيراً ثورة الذكاء الرقمي والاصطناعي في زماننا.

ليس في تلك المواضيع ما هو جديد، بل كلها مألوف في كتب مختلفة، وهو ما ينتبه إليه ديردا ويفسره بقوله إن "في تذييل الكتاب القصير، يوضح وينشستر أنه عمل على كتابه هذا منكفئاً في غرفة مكتبه في غربي ماساتشوستس خلال جائحة فيروس كورونا، عاجزاً عن السفر والتنقل لإجراء البحث المناسب. فترتب على ذلك أن جاء كتاب (معرفة ما نعرفه) مختلفاً عن كتبه السابقة من قبيل (البروفيسور والمجنون)، الذي كتب فيه عن مدان بجريمة قتل محتجز في مصحة عقلية أصبح من مؤلفي قاموس أكسفورد للغة الإنجليزية، أو كتابه (الرجل الذي وقع في غرام الصين) وهو سيرة ذاتية آسرة لحياة جوزيف نيدهام عالم الأحياء الذي تحول إلى عالم في الصينيات. أما (معرفة ما نعرفه) في المقابل فمؤلف إلى حد كبير من قراءات وينشستر الواسعة والمركزة أيضاً، وقد تضخم حجماً بسبب الاقتباس بين الحين والآخر من مقالاته في المجلات وكتاباته المبكرة". وإذن فقد ألف وينشستر كتابه هذا بطريقة أقرب إلى التي اتبعها البشر على مدار أجيال سابقة، فهو أشبه ما يكون بالموسوعيين الذي يبدو واقعاً في غرامهم.

يكتب ديردا أن "نصف الكتاب الأول خلفية تاريخية لسؤال فلسفي يحتل صدارة بقية الكتاب هو "كيف سيكون مصير البشرية في عالم تزداد الآلات فيه نيابة عنا في التذكر والتفكير والإبداع؟". يتخوف وينشستر من أن "مخزون المعلومات المتاح للجميع اليوم سيؤدي إلى انخفاض الحاجة إلى الاحتفاظ بالمعرفة، وتضاؤل التفكير، والتقلص بالتبعية لحجم الحكمة في المجتمع".

 

 

الحكمة! ليس مرجحاً أن تظهر هذه الكلمة اليوم إلا متبوعة بعلامات تعجب، بل متبوعة بما بات ينوب عن علامات التعجب في زماننا، من وجوه صفراء قد يختار أحدنا منها المحمر خجلاً، أو الباكي، أو الضاحك إلى حد انفجار الدموع. فالحكمة التي يجعلها وينشستر غاية قصوى لمعرفة كل ما نعرفه، لم تعد أكثر من كلمة بائدة لا يدهشنا أن نصادفها في كتب مثل هاري بوتر، جنباً إلى جنب مع كلمات السحر والجن والخرافة، لكننا نعجب من ورودها في مقالة تستعرض كتاباً جاداً حديث الصدور.

لعل الحكمة هي سر غرام وينشستر بالموسوعيين الذين كانوا على مدار التاريخ يتطلعون إلى الإلمام بطرف من كل شيء، أو الذين قدموا إسهامات نافعة في عديد من المجالات. فهذا الغرام هو سر توقفه في الكتاب طويلاً أمام أرسطو، الذي يعد في الثقافة الغربية المثال الأكبر للموسوعيين، لكن الكتاب يتماس أيضاً مع آخرين فضلاً عن أرسطو، فيذكر منهم جيمس مكوناتشي "شين غوا في القرن الـ11 في الصين، والأفريقي الأسود متعدد اللغات جيمس بيل (الذي سمى نفسه أفريقانوس هورتن)، وقديسي الرياضيات سرينيفاسا رامانوجان وفرانك رامزي (وكلاهما مات في ريعان الشباب)، وعالم الكلاسيكيات المثقف بنيامين جوفيت تشارلز باباغ ابن القرن الـ19 البصير الذي وضع خططاً لـ"محرك تحليلي"، وتيم بيرنرز لي مخترع شبكة الويب العالمية، وجون مكارثي الأب المؤسس للذكاء الاصطناعي. وفي حين تخلو هذه القائمة من النساء، وذلك إلى حد كبير بسبب القيود التي كانت مفروضة عليهن في الماضي، فإن اتساع نطاقها يشهد بسعة نظرة وينشستر العالمية".

ومن آيات سعة اطلاع وينشستر أيضاً أنه يخصص قسماً من الكتاب لنظم الامتحان الوطنية المختلفة التي تختبر بها مشاعر النشء، ابتداء بامتحان القدرات الدراسية "SAT" الذي بات الآن موضع استخفاف متزايد، وإن لم يكن ذلك للسبب الذي يورده وينشستر، وهو أنه "في نظر كل بلد متعلم في العالم تقريباً، بات نظام (سات) الأميركي يعد سهلاً إلى درجة السخافة". أما معادله الصيني، أي امتحان "غاوكاو" الرهيب، فنجد أن الامتحان التمهيدي للأطفال البالغين من العمر 11 عاماً قد احتوى عام 2018 هذا السؤال "سفينة تحمل 26 نعجة و10 تيوس. كم يبلغ عمر قبطانها؟". ثمة طفل لم يكتف بحساب الوزن التقديري للقطيع مقدراً إياه بما لا يقل عن 7700 كجم، لكنه كان يعرف أيضاً أن القارب الذي يحمل شحنة تزن أكثر من خمة آلاف كيلوغرام يتطلب أن تكون لقبطانه رخصة خمس سنوات على الأقل، ولا يمكن التقديم لهذه الرخصة إلا في سن الـ23، فلا بد أن يكون عمر القبطان على الأقل 28 عاماً".

تكثر في الكتاب أمثال هذه الطرائف التي تجعل بيتر ساغال يصفه بالمسلي من دون أن يقصد بذلك الانتقاص، لكن الحقيقة أن وينشستر لا يورد النوادر بقصد التسلية فقط، أو لملء الصفحات، بل إنه يحاول بين الحين والآخر أن يستخلص منها ما هو أكثر من ذلك، ففي ما يتعلق بنظام امتحان "غاوكاو" وسؤال عمر القبطان يتساءل عن كم المعارف "التي أعملها ذلك الطفل لحل ذلك السؤال الذي يبدو غير قابل للحل"، ويقارن ذلك بـ"أجهزة الكمبيوتر القادرة الآن على إجابة أسئلتنا بضغطة على زر، فهي لا محالة تشجع على الكسل والضمور الفكري".

"وإذا كان رواد صالات التدريب الرياضية يقولون عن بناء العضلات إنه "لا نجاح بلا ألم"، فقد يكون الوصول الفوري إلى المعلومات المرقمنة عاملاً مساعداً مفيداً في حياتنا اليومية، لكنه لا يضاهى بالمتعة البشرية العميقة الناجمة عن اكتساب الكفاءة وتعلم كيفية القيام بشيء صعب جيداً بمفردك. ألا يثير إعجابنا أولئك الناس القادرون على أداء المهام المعقدة، سواء المادي منها أم العقلي، في ثقة وجمال وحيوية؟".

الحكمة مرة أخرى

لقد قال شرلوك هولمز في قصة "دراسة للقرمزي"، إن عقولنا لا يمكن أن تحتفظ إلا بقدر محدود من المعلومات، ومثل ذلك يقوله وينشستر أيضاً إذ يكتب أننا "بسماحنا لأجهزة الكمبيوتر أن تكون بمثابة المخازن لعقولنا، قد نكسب مساحة ذهنية ومجالاً للافتراض والتأمل والاجترار والتقدير والتقييم والعجب والتفكر والتخيل والحلم، فنصبح بذلك أعمق وأدق وأصبر وأحكم". ومرة أخرى، تظهر الحكمة.

يكتب بيتر ساغال أن كتاب وينشستر لا يحقق هدفه المعلن في عنوانه، فهو "يتماس مع جميع المواضيع التي ينطوي عليها العنوان، أي المواقع العصبية للتعلم والذاكرة وطرق التدريس والمكتبات والموسوعات وطرق نقل البيانات من الطقوس الدينية القديمة وحتى "ويكيبيديا"، وتعريف المعرفة، وأفضل طريقة لقياسها وتقييمها، لكنه لا يقدم إجابة شاملة لأي من الأسئلة الأعمق، من قبيل: لماذا يتذكر لدغة الدبور بكل ذلك الوضوح؟ (فهو لم يزل يعرف في أي شارع كانوا يسيرون، وفي أي نوع من عربات الأطفال كان يركبها) في حين أن كثيراً من طفولته، كما هي الحال مع الجميع، قد طواه النسيان منذ أمد بعيد؟ فهل ذلك لأن "الخبرات المرتبطة بالصدمات تبقى حبيسة في الحصين أو قرن آمون [في المخ البشري]؟ هل الثقل العاطفي يؤثر على نوعية معارفنا وما نعتقد بصحته؟ هذا ما لا يقال لنا في الكتاب الذي يمنحنا بدلاً من ذلك مزيداً من النوادر وشذرات السرديات من شتى مراحل التاريخ وأرجاء الكوكب، والتي يمثل كل منها انحرافاً عن هدف وينتشستر المعلن".

الحقيقة أن ساغال لا يطالب الكتاب بأن يكون كتاباً آخر، بقدر ما يمثل مأخذه هذا إثباتاً لطبيعة الكتاب التحريضية على التفكير في ما وراءه. فساغال نفسه انطلق من حكاية الدبور ليتساءل عن القوانين الحاكمة لاصطفاء المعارف الجديرة في نظر كل فرد بالبقاء في الحصين أو قرن آمون. ولعل هذه الحكاية نفسها تقود قارئاً آخر إلى التفكير في أنه مثلما تعلم وينشستر بأكثر الطرق إيلاماً أن في العالم شيئاً اسمه الدبور، فإننا قد نتعلم عما قريب، بعد لسعة قاتلة من الذكاء الاصطناعي، أن في العالم شيئاً اسمه الحماقة، وأن هذه الحماقة تقتل.

العنوان: Knowing What We Know

From Ancient Wisdom to Modern Magic

تأليف: Simon Winchester

الناشر: Harper

اقرأ المزيد

المزيد من كتب