Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"اقتصاد الديون"… طريق الدول إلى الهاوية يبدأ بـ"قرض"

46 بلداً مهدداً بالتخلف عن سداد المستحقات بينها مصر وتونس والمغرب والأردن والسودان

تعد سريلانكا صاحبة أعلى مدفوعات للديون الخارجية خلال العام الحالي (اندبندنت عربية)

ملخص

الدول التي تسقط في دائرة الاستدانة هي من ترتكب الخطأ الجوهري الأول الذي يكون سبباً في دخولها دوامة الاقتراض ثم العجز عن السداد

مع تدهور الوضع الاقتصادي العالمي وارتفاع معدلات التضخم وتوقعات تراجع معدلات النمو في عديد من البلدان خلال السنوات التالية لجائحة كورونا، تجددت التحذيرات من تعثر كثير من الدول النامية عن سداد المديونيات المستحقة عليها.

تلك الدول التي سقطت في دوامة الاقتراض من المؤسسات الدولية، وفي مقدمتها صندوق النقد الدولي والدائنين من القطاع الخاص، بهدف سد عجز ميزان مدفوعاتها، ارتفع عددها لقرابة 46 دولة خلفت ديوناً عامة بلغت 782 مليار دولار في عام 2020 من أصل 54 دولة، وفقاً لتقرير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) الصادر في نوفمبر (تشرين الثاني) 2022، فيما بلغ الدين الكلي العالمي إلى 303 تريليونات دولار بنهاية عام 2021 بحسب تقارير معهد التمويل الدولي "IIF".

التحذير الأحدث، أطلقه رئيس إدارة أفريقيا في صندوق النقد الدولي أبي سيلاسي خلال الشهر الحالي، على هامش اجتماعات الربيع لصندوق النقد والبنك الدوليين، مطالباً بزيادة الدعم الدولي لمساعدة البلدان في التغلب على أزمة التمويل، لافتاً إلى أن عدداً من البلدان الأفريقية الأخرى مثل مصر وتونس معرضة لخطر التخلف عن السداد، فيما تحتل خمس دول عربية قائمة الأكثر عرضة للتعثر.

ووفقاً للبنك الدولي، فإن 46 في المئة من مدفوعات الديون عالمياً هي لمقرضين من القطاع الخاص، باستثناء الصين، ونحو 30 في المئة للمؤسسات متعددة الأطراف، و12 في المئة للحكومات الأخرى و12 في المئة للمؤسسات الصينية العامة والخاصة.

"اندبندنت عربية" استطلعت آراء محللين حول أسباب تحول اقتصادات الدول النامية إلى "اقتصاد الديون"، وذهاب أغلب مواردها لسداد ديونها الخارجية من دون بارقة أمل تشير إلى خروج وشيك من تلك الأزمة.

بداية السقوط: سداد الدين بالدين

يؤكد المحلل الاقتصادي محمد رضا أن الدول التي تسقط في دائرة الاستدانة هي من ترتكب الخطأ الجوهري الأول الذي يكون سبباً في دخولها دوامة الاقتراض ثم العجز عن السداد، موضحاً أن القروض التي يمنحها صندوق النقد الدولي لأي دولة يكون الهدف منها إجراء إصلاحات هيكلية في الاقتصاد ليكون قادراً على الإنتاج وسداد القروض، وأن ما يحدث في الواقع الفعلي هو قيام الدول المقترضة باستخدام تلك الأموال في سداد ديون أخرى، أو ضخها في مشروعات غير إنتاجية لن تسفر عن جلب عوائد دولاريه لتبدأ رحلة السقوط في فخ الديون التي تحول كل إيرادات الدولة لسداد ديونها.

وأضاف رضا، في حديثه لـ"اندبندنت عربية"، أن توجيه أموال القروض لخلق مصادر إيرادات جديدة بالدولار مثل التصنيع أو السياحة أو التعدين هو أول الحلول، بجانب إمكان استخدام أدوات الدين مثل السندات في تحويل الديون قصيرة الأجل لديون طويلة الأجل بشكل يخفف العبء عن ميزان المدفوعات في السنوات القريبة، وبهدف توزيع الديون على فترات أطول بالتزامن مع البحث عن زيادة مصادر الدخل بالعملات الأجنبية، أو زيادة الاستثمارات الأجنبية المباشرة لتوفير العملة الأجنبية، مع ترشيد الإنفاق، سواء في الاستيراد واستبداله بمنتجات محلية أو الوقف الفوري للمشروعات غير الضرورية.

ويكشف تقرير صادر عن منظمة "Debt Justice" مطلع الشهر الحالي، أن 91 دولة على مستوى العالم ستنفق في المتوسط 16.3 في المئة من إيراداتها على الديون الخارجية هذا العام، بزيادة تقارب 150 في المئة عن 2011 وهو أعلى معدل يسجل في 25 سنة.

وتعد سريلانكا التي تخلفت عن سداد ديونها في مايو (أيار) 2022 لأول مرة في تاريخها بعد أزمات اقتصادية وسياسية واحتجاجات على نقص الكهرباء والوقود والأدوية، صاحبة أعلى مدفوعات للديون الخارجية خلال العام الحالي، إذ بلغت 75 في المئة من الإيرادات الحكومية، تليها جمهورية لاوس بـ65.6 في المئة، ودومينيكا بـ57.8 في المئة ، وباكستان بـ46.7 في المئة.

ديون الدول العربية: مصر في المقدمة

تضم قائمة الدول المدينة لصندوق النقد الدولي عديداً من الدول العربية التي تختلف من حيث حجم المديونية، إذ تتصدر القائمة خمس دول هي "مصر وتونس والمغرب والأردن والسودان" باعتبارها الأكبر مديونية والمعرضة لخطر التعثر، تليهم دول أخرى منها "الصومال وموريتانيا واليمن وجزر القمر، بقيمة قروض أقل من نصف مليار دولار لكل بلد".

تحتل مصر المرتبة الأولى عربياً والثانية عالمياً في قائمة الدول الأكثر مديونية لصندوق النقد الدولي، بإجمالي ديون نحو 20 مليار دولار بإجمالي ديون خارجية تتجاوز 160 مليار دولار، تستحق السداد على مدى السنوات الخمس المقبلة، بما في ذلك سندات بقيمة 3.3 مليار دولار تستحق في 2024.

وتشهد مصر أزمة اقتصادية غير مسبوقة، في ظل تراجع المستويات المعيشية للمواطنين والارتفاع الجنوني بأسعار السلع والخدمات بسبب انخفاض قيمة العملة المحلية مع انتقال البنك المركزي المصري إلى نظام صرف أكثر مرونة تطبيقاً لتعليمات صندوق النقد الدولي، إذ فقد الجنيه نحو 300 في المئة من قيمته مقابل الدولار منذ 2016، في بلد يعيش ثلث سكانه البالغ عددهم 104 ملايين تحت خط الفقر، في حين أن ثلثاً آخر معرض للدخول في دائرة الفقر بحسب تقديرات البنك الدولي.

وخفضت وكالة التصنيف الائتماني "ستاندرد أند بورز" هذ الشهر، تقديراتها لدرجة قدرة مصر على سداد ديونها من "مستقر" إلى "سلبي" مبررة الخفض بحاجة الدولة الكبيرة للحصول على تمويلات خارجية جديدة، إذ تعاني مصر من مستويات دين عام مرتفعة تساوي 95 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي.

وتأتي في المرتبة الثانية عربياً من حيث أعلى الدول العربية مديونية لصندوق النقد الدولي، الجمهورية التونسية بنحو 2.1 مليار دولار، حيث تعاني نقصاً حاداً في السلع الغذائية وارتفاعاً كبيراً في الأسعار، وأزمة مالية عامة تثير مخاوف من تعثر محتمل عن سداد ديونها، إذ بلغت معدلات التضخم 10.1 في المئة وهي الأعلى منذ أربعة عقود مضت.

ويضع الارتفاع الكبير في نسب التضخم الذي سجل 6.6 في المئة، المغرب على حافة الخطر، وفي ظل احتلالها المرتبة الثالثة عربياً ضمن قائمة الدول الأكثر اقتراضاً من صندوق النقد الدولي بنحو ملياري دولار، وهو ما يمثل ثمانية في المئة من الديون العربية للصندوق. ولجأ المغرب إلى رفع الفائدة الرئيسة إلى 2.5 في المئة لمواجهة التضخم بعد ارتفاع تكلفة الغذاء والوقود.

وفي المملكة الأردنية تشكل أزمة ارتفاع البطالة بين الشباب إلى 50 في المئة مشكلة كبرى، إذ بلغ معدل البطالة 22.6 في المئة خلال العام الماضي وفقاً لتقديرات صندوق النقد الدولي، فيما احتل الأردن المرتبة الرابعة في قائمة الدول العربية الأكثر مديونية لصندوق النقد بقيمة 1.6 مليار دولار.

وعلى الصعيد السوداني تعيش البلاد أزمات ضخمة بسبب اندلاع الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، وسط تدهور اقتصادي جراء استمرار ارتفاع أسعار السلع وتفاقم أزمة أسعار الصرف، إذ تحتل البلاد المرتبة الخامسة للدول العربية الأكثر اقتراضاً من صندوق النقد الدولي بإجمالي ديون بلغت 1.3 مليار دولار.

إسقاط الديون: هل ينقذ الدول المدينة؟

من جانبه، قال المتخصص الاقتصادي وأستاذ التمويل ومستشار وزير التموين المصري مدحت نافع إن تضخم الدين العام العالمي لما يزيد على ثلاثة أضعاف الناتج المحلي العالمي "أمر مقلق للغاية"، ويتطلب أن تتخذ الدول الدائنة بعض الإجراءات الاستثنائية على غرار ما حدث في اتفاقية لندن الشهيرة عام 1954، التي جرى بموجبها إسقاط ديون ألمانيا الغربية.

وأشار إلى أن هذا الإجراء ضروري في ظل تفاقم أوضاع ديون الدول وفي ظل استحالة استمرار واستدامة الدين في عدد كبير من الدول في وقت واحد، لافتاً إلى أنه من العجيب أن ألمانيا الاتحادية التي هي الوريث الشرعي لألمانيا الغربية والتي استفادت من قرار إسقاط الديون عام 1954 هي التي تعارض الآن بشدة أي محاولات لإسقاط الديون الخاصة بدول الاتحاد الأوروبي.

وأكد نافع لـ"اندبندنت عربية" أن الحديث عن إسقاط الديون أو تخفيضها هو الخطوة الأولى لإنقاذ الدول المدينة، خصوصاً أن تفاقم حجم الديون سببه الأساسي هو السياسات النقدية المتشددة التي فرضتها الدول الدائنة على المدينين، فضلاً عن وجود ممارسات في النظام المالي تسببت بارتفاع أسعار الفائدة فوق المعدلات الطبيعية والمعتادة منذ الحرب العالمية الثانية، وهي المشكلات التي تدفع الدولة المتعثرة والنامية ثمنها بشكل كبير.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

واستبعد المحلل الاقتصادي أستاذ التمويل خروج الدول المدينة من دائرة الديون ما دام صندوق النقد يعاقب الدول المتعثرة عن السداد بفرض مزيد من الغرامات عليها وهو ما يزيد من حجم الأزمة.

في 27 فبراير (شباط) 1953، صدقت الولايات المتحدة وفرنسا والمملكة المتحدة على "اتفاقية لندن للديون" التي أسقطت بمقتضاها معظم ديون ألمانيا الغربية تلك التي كانت قبل الحرب العالمية الثانية وبعدها، بعد أن توقفت ألمانيا عن سداد ديونها الخارجية منذ عام 1933، وهو ما مكن اقتصاد ألمانيا من استعادة مكانتها كقوة اقتصادية رئيسة في القارة الأوروبية.

جرى التفاوض على ديون بقيمة 16 مليار مارك من الديون الناتجة من معاهدة فرساي بعد الحرب العالمية الأولى التي لم يتم سدادها في الثلاثينيات، وكانت هذه الأموال مستحقة للبنوك الحكومية والخاصة في الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا.

ديون جلبت الفوضى

تؤثر الديون الخارجية للدول في النمو الاقتصادي بشكل مباشر، حيث إن الإفراط في الاستدانة يدفع المستثمرين لتقليل توقعاتهم في الحصول على عوائد استثماراتهم كاملة بسبب توجه الدول المدينة لفرض مزيد من الضرائب لسداد ما عليها من ديون، وفقاً لدراسة أجرتها كلية الاقتصاد بجامعة بني سويف (جنوب القاهرة) حول "أثر الدين الخارجي في النمو الاقتصادي".

كما تدفع تلك الديون المستثمرين للتراجع عن قراراتهم الاستثمارية التوسعية، وهو ما يؤثر بشكل مباشر في الإنتاج، فيما تتأثر النفقات العامة التي تشمل الخدمات الاجتماعية والصحية والتعليمية سلباً بسبب توجيه الإيرادات لسداد الديون.

وفي أبريل (نيسان) 2022، أعلنت سريلانكا عجزها عن خدمة ديونها الخارجية، وأنها سعت للحصول على مساعدات من الهند وروسيا لدفع ثمن الواردات الأساسية، حيث أعقب ذلك حالة من الفوضى وخرج آلاف من السريلانكيين إلى الشوارع للتعبير عن إحباطهم من الأزمة الاقتصادية في البلاد، واقتحموا مقر إقامة الرئيس غوتابايا راجاباكسا، حيث قاموا بالطهي والتقاط الصور والسباحة في المسبح الخاص به، ليعلن رسمياً فرار الرئيس خارج البلاد وتقدمه باستقالته.

وتسبب التدهور الاقتصادي الحاد والسريع في البرازيل منذ عام 2011، وتراجع الفائض الأولي الذي بلغ 3.1 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي إلى أن تحول إلى عجز تجاوز 2.7 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، في خلق أزمة مجتمعية كبرى تجلت 2014 وانتهت بعزل رئيسة البرازيل ديلما روسيف مطلع 2015، حيث تسبب سوء الإدارة الاقتصادية للبلاد وانتشار الفساد والتلاعب المالي في حالة استياء شعبي جماهيري من النظام السياسي، بعد أن ارتفعت أسعار السلع وتراجعت الصادرات التي تعتمد عليها البرازيل بشكل أساسي وتراجع رأس المال الأجنبي وارتفاع معدلات البطالة.

وتعد الأرجنتين أبرز نموذج للانهيار الاقتصادي، فقد ارتفع معدل التضخم في الأرجنتين إلى ما يزيد على 100 في المئة للمرة الأولى منذ نهاية التضخم الهائل في أوائل التسعينيات، وقالت وكالة الإحصاء في البلاد إن التضخم بلغ 102.5 في المئة خلال فبراير الماضي، ما أدى إلى ارتفاع أسعار السلع الاستهلاكية لأكثر من الضعف منذ عام 2022.

وتسببت الأوضاع الاقتصادية المتدهورة في خروج المتظاهرين إلى الشوارع للمطالبة باتخاذ إجراءات لمواجهة ارتفاع تكاليف المعيشة بعد أن أصبحت غالبية الشعب تحت خط الفقر.

زيادة رقعة الفقر

في السادس من ديسمبر (كانون الأول) 2022، كشف تقرير "الديون الدولية" الصادر عن البنك الدولي، أن البلدان الأشد فقراً المؤهلة للاقتراض من المؤسسة الدولية للتنمية تنفق حالياً أكثر من عشر عائدات صادراتها لخدمة الديون العامة طويلة الأجل والديون الخارجية المضمونة من الحكومة، وهي أعلى نسبة يتم تسجيلها منذ عام 2000، وذلك بعد وقت قصير من بدء تنفيذ المبادرة المتعلقة بالبلدان الفقيرة المثقلة بالديون "هيبيك" (مبادرة وضعت بالتعاون بين صندوق النقد والبنك الدولي عام 1996 بهدف تخفيض عبء الدين الخارجي القائم على البلدان الفقيرة المثقلة بالديون إلى مستويات يمكن استمرار تحملها، شريطة تحقيق هذه الدول أداءً إيجابياً على مستوى السياسات الاقتصادية).

التقرير رصد المخاطر المرتبطة بتزايد الديون لجميع الاقتصادات النامية، حيث بلغ إجمالي الدين الخارجي لهذه الاقتصادات 9.2 تريليون دولار بنهاية 2021، أي أكثر من ضعف قيمته المسجلة قبل 10 سنوات، وخلال الفترة نفسها تضاعف إجمالي الدين الخارجي للبلدان المؤهلة للاقتراض من المؤسسة الدولية للتنمية ثلاث مرات تقريباً ليصل إلى تريليون دولار.

ويتسبب ارتفاع أسعار الفائدة وتباطؤ وتيرة النمو العالمي في دفع عدد كبير من البلدان إلى أزمات الديون، لتصبح 60 في المئة من البلدان الأشد فقراً إما معرضة لخطر كبير يهدد ببلوغها مرحلة المديونية الحرجة أو أنها بلغت هذه المرحلة بالفعل.

وفي يونيو (تموز) 2022 قال رئيس مجموعة البنك الدولي ديفيد مالباس "لقد استفحلت أزمة الديون التي تواجه البلدان النامية، ومن الضروري اتباع نهج شامل لتخفيضها وإعادة هيكلتها حتى تتمكن البلدان من التركيز على الإنفاق الذي يدعم جهود النمو ويقلص رقعة الفقر، وبغير ذلك ستواجه عديد من البلدان وحكوماتها أزمة على صعيد المالية العامة وعدم استقرار سياسي، وما يقترن بذلك من وقوع ملايين الأشخاص في هوة الفقر".

الشعوب تدفع الثمن

أستاذ العلوم السياسية بجامعة قناة السويس والعضو السابق بالبرلمان المصري جمال زهران يقول، إن أي نظام حاكم في أي دولة يستدين بالصورة التي يعجز معها عن السداد أو تذهب أغلب إيرادات الدولة لسداد ديونها الخارجية، وفي ظل عدم وجود إنتاج محلي لسداد هذه الديون فهو يرتكب "جريمة في حق الشعب".

وأشار زهران إلى أن هذه الجريمة تصبح أكثر فداحة إذا ما كانت الدولة لا تملك من الأساس موارد ذاتية وقدرة على الإنتاج تمكنها من سداد جزء من هذه الديون، لافتاً إلى أنه في نهاية الثمانينيات كانت هناك صرخة عالمية من خلال عقد مؤتمرات دولية تحت شعار "أزمة الديون العالمية" لبحث أزمة الديون التي أغرقت عديداً من الدول ومحاولة إسقاطها، لافتاً إلى أن ديون مصر الخارجية تصل تقريباً إلى 200 مليار دولار حالياً.

وأشار في تصريح لـ"اندبندنت عربية" إلى أن تلك الديون عبء كبير على كاهل الشعوب، إذ يدفع الشعب ثمن مغامرات حكامه، وتعجز الدول عن سداد هذه الديون خصوصاً مع إنفاقها في مشروعات غير إنتاجية وتحت سمع وبصر حكومات لا تسعى إلى الخروج من مأزق الديون، بل تعالج الأزمة بمزيد من الاستدانة لتدخل في حلقة مفرغه من الديون تنتهي بانهيار العملة والخضوع لشروط صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والتفريط في المشروعات الكبرى وبيعها بأبخس الأثمان وما يشوب ذلك من جرائم فساد، وبداية العلاج هي برحيل الحكومات المتسببة في هذه الأزمة، فالديون في حد ذاتها كارثة وتكون أم الكوارث في حالة العجز عن السداد.

وحول قبول الدول الدائنة لمطالب الدول المدينة بإسقاط الديون أو جدولتها على مدد سداد أطول، أكد زهران أن ذلك ممكن شرط أن تتجمع الدول المدينة على مستوى العالم، سواء في أفريقيا أو آسيا، وتعقد مؤتمراً دولياً أو إقليمياً تعرض فيه مطالبها على الدول الدائنة وقتها ستكون لها قوة وتأثير أكبر في الدائنين.

وفي ديسمبر 2022 حذرت الأمين العام لمؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد) ربيكيا غرينسبان من أن تصاعد الديون في البلدان ذات الدخل المنخفض والمتوسط قد أضر بفرصها في التنمية المستدامة.

وأشارت في كلمتها خلال مؤتمر "الأونكتاد الثالث عشر لإدارة الديون" إلى أن ما بين 70 و85 في المئة من الديون التي تتحملها البلدان الناشئة ذات الدخل المنخفض هي بعملة أجنبية، وهو ما جعلها عرضة بشكل كبير للهزات في العملات الكبيرة في وقت يحتاج فيه السكان إلى الدعم المالي من حكوماتهم.

تمرد المدينين

قبل سنوات عدة، دفعت أزمة الديون الخانقة عديداً من الدول المدينة لمحاولة التمرد على الدائنين والتوقف عن السداد، وكانت المحاولة الأبرز في الإكوادور عام 2008 حيث أعلن الرئيس الإكوادوري آنذاك "رفاييل كوريا"، امتناع بلاده عن دفع 30 مليون دولار للمقرضين الدوليين كفائدة على دين قدره 510 ملايين دولار.

وجاء القرار على خلفية توصية صادرة عن لجنة أنشأتها الإكوادور قبل ذلك التاريخ، نصحت فيها الرئيس بالامتناع عن سداد 40 في المئة من ديون البلاد البالغة في ذلك الوقت نحو 10 مليارات دولار، لكن القرار لم يدم طويلاً، حين لم تستطع الأكوادور الامتناع عن سداد القروض.

خلال الفترة ما بين عامي 1973 و1982، ارتفعت الديون الخارجية للمكسيك بمعدل 30 في المئة سنوياً من أربعة مليارات دولار فقط إلى أكثر من 80 مليار دولار، واتجهت الحكومة لدراسة فكرة وقف سداد أقساط الديون، لكن المسؤولين أدركوا أن هذا الخيار لم يعد ممكناً وأن الإقدام على تلك الخطوة ستكون له عواقب كارثية، أبرزها امتناع القطاع المالي العالمي عن توفير خدمات الائتمان لها، واهتزاز الثقة بالقطاع الخاص المكسيكي الذي يعتمد بشكل كبير على الواردات، وقيام الدائنين الدوليين برفض منح أي قروض أخرى للحكومة المكسيكية وللقطاع الخاص ما سيكون صدمة اقتصادية واجتماعية لها عواقب سياسية لا يمكن تداركها.

روشتة الخروج

يقول زهران إن خروج الدول من فخ الديون يبدأ بإعادة هيكلة تلك الديون والتشاور مع الدائنين حول إسقاط بعضها، وإعادة جدولتها بحيث تسدد على عدد سنوات أطول، مع التوقف الفوري عن القروض الجديدة، ووقف المشروعات غير المجدية أو التي نفذت من دون دراسات جدوى وسرعة عرضها للبيع والتخلص من منها، وتوجيه ما تبقى من أموال القروض للمشروعات الإنتاجية، مشيراً إلى أن ما يحدث في مصر من مشروعات غير إنتاجيه هو نموذج فج للدول التي سقطت في فخ الديون.

وطالب أستاذ العلوم السياسية بضرورة إعادة ترتيب الأولويات والمشروعات بطرح المشروعات الجديدة التي نفذت للبيع، والتوقف عن استكمال أي مشروعات جديدة لن تدر أي عائد على الدولة في الوقت القريب.

ويتفق معه المتخصص الاقتصادي وأستاذ التمويل مدحت نافع، مشدداً على ضرورة إلزام الدول المدينة تشكيل مجلس لحوكمة الديون الخارجية على الأقل ووضع معايير لا يمكن تجاوزها في الحصول على مزيد من القروض، ووضع أولويات للمشروعات التنموية الكبرى بحيث لا تتجاوز حدوداً معينة تحدد بحسب إمكانات كل دولة ومواردها من النقد الأجنبي، بالتزامن مع ترشيد الإنفاق والتركيز على الاقتصاد العيني وتحقيق فائض في الإنتاج بدلاً من التركيز على الاقتصاد النقدي السياسات النقدية فقط.

فيما يرى المحلل الاقتصادي مصطفى بدرة أنه لا يوجد نموذج في العالم لدولة مدينة تمكنت من الخروج كلياً من فخ الديون، مشيراً إلى أن ذلك يحتاج إلى زيادة الناتج المحلي بما يعادل الضعف لسداد ما على أي دولة من ديون.

ولفت إلى أن التعثر عن السداد سببه التوسع غير المدروس في الاقتراض بجانب أزمات طارئة مثل الحرب الروسية - الأوكرانية أو انتشار جائحة كورونا، وكذلك ارتفاع مستويات التضخم عالمياً، وجميعها ظروف تصعب من قدرة الدول على سداد ديونها.