Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

عدسة فاليري بولان تحدث صدمة في التصوير الفوتوغرافي

معرضها الفرنسي الحالي تجربة بصرية فريدة تثير الخيال وتجعل الحواس مجرد ديكور

طبيعة فوتوغرافية صامتة (خدمة المعرض)

ملخص

معرضها الفرنسي الحالي تجربة بصرية فريدة تثير الخيال وتجعل الحواس مجرد ديكور

التصوير الفوتوغرافي ليس مجرّد وسيلة لاستنساخ الواقع، كما ما زال يظن كثيرون، بل فن قادر على مساءلة تمثلاتنا لذاتنا وللآخر، وعلى بلبلة الحدود بين حقيقة وخيال. هذا ما يتجلى بقوة في المعرض الذي ينظمه حالياً متحف الفنون الجميلة لمدينة "توركوان" (شمال فرنسا) للفنانة الفرنسية فاليري بولان، تحت عنوان "جمال العالم المريب". معرض لا يفوّت لإعادة خطّه، من خلال مئة صورة فوتوغرافية، مسيرة هذه المصوّرة الموهوبة، من مطلع التسعينيات حتى اليوم، وتشكيله بذلك تجربة بصرية فريدة تثير الخيال والحواس على حد السواء.

لمن يجهل بولان، نشير بدايةً إلى أن هذه الفنانة، التي عُرضت أعمالها في أهم متاحف العالم، تبدو مسكونة ببحث دؤوب عن جمالية آنية بقدر ما هي مبلبلة. فهل أن مواضيع صورها كائنات حية أم جامدة؟ طبيعية أم اصطناعية؟ واقعية أم استيهامية؟ ومن الكليشيهات التقليدية إلى الصور الرقمية، من الأسود والأبيض إلى الألوان، ومن العضوي إلى الافتراضي، تحضر هذه الكائنات كمظاهر حيث السطح يقول الداخل ويعرّي مكنوناته.

ولا عجب بالتالي في الاضطراب الذي تخلّفه صور بولان لدى المتأمل فيها، والنابع من مشاعره المتضاربة أمامها، والتي تتراوح بين انجذاب ورفض، بداهة وتضليل. فهي تصمم كل واحدة منها على شكل طِباق: إغراء مقلِق، فخامة رخيصة، سعادة سوداء، سطح عميق، سطحية وجودية، حياة معلّقة، صورة ناطقة، رسم فوتوغرافي... باختصار، عالم متناقض وملتبس دائماً، ومعجون بتوترات غير قابلة للاختزال، يدفعنا إلى طرح أسئلة كثيرة، أولها: ما الذي تريدنا الفنانة أن نراه؟

جمال تشكيلي

في معرضها الحالي، نلاحظ بسرعة أن معظم الموضوعات التي تختار بولان تصويرها يتحلى بجمال تشكيلي: قطع كريستال، مرايا فينيسية، سيارات قديمة، أجساد مثالية، باقات زهور نادرة... موضوعات إن دلت على شيء، فعلى ارتهان مجتمعاتنا المعاصرة لما هو كامل وفاخر. لكن بعض أعمالها يرتقي بأشياء لا قيمة لها، سريعة الزوال، متلفة أو متجاهَلة، كسيارات محطمة، أكياس رقائق البطاطس، أقنعة كرنفال. وفي سلسلة "طبيعة جامدة" (2014)، كل شيء مزيّف، كالجمجمة المصنوعة من شمع، الزهور البلاستيكية، المجوهرات التقليد. قطع لا قيمة لها ولا فائدة سوى زخرفية، وترمز إلى حمّى الاستهلاك التي تتحكم بحيواتنا.

في عمل بولان، الالتباس كلي الحضور. ففي صورها الأولى، نشاهد مرايا وكأنها بورتريهات، عارضات ملابس بلاستيكية وكأنها شابات حقيقيات، ومحرّكات ميكانيكية وكأنها أعضاء حية. هكذا تعبر الفنانة باستمرار من الشيء إلى البشري، أو العكس، فتمنح الحياة للمادة أو تجمّد الجسد. ويظهر ذلك بقوة في سلسلة "فساتين" (1996) التي يمنحنا كل فستان فيها الشعور بحضور الجسد فيه، نظراً إلى امتلائه بورق حريري ناعم يمدّه بالحياة، أو في سلسلة "عرائس مغربيات" (2000) التي تحوّل فساتين العرس الشابات اللواتي يرتدينها إلى مجرد ديكور. وبالنتيجة، تتلاقى الأضداد في هذه الصور، عند حدود تماسها، فيتحول الفارغ إلى ممتلئ، أو الحضور إلى عدم.

وفي صور بولان التالية، يأخذ الالتباس ملامح بشرية، فيعكس حالة انتقالية وغير كاملة، كما في سلسلة "متحولون جنسياً" (2001) التي اختارت فيها تصوير نماذج من هؤلاء الأشخاص في المرحلة الأولى من تحوّلهم، حيث العناصر الذكورية والأنثوية تبدو حاضرة في الوقت نفسه على وجوههم، والمصوَّرة بطريقة عيادية تعزّز البلبلة الجنسية. وفي سلسلة "موديلات" (2001)، نشاهد شابات يقعن بين سن المراهقة وسن الرشد، ويحملن إذاً على وجوههن ملامح من السنَّين.

بين الحقيقي والإصطناعي

وأحياناُ، يقع الالتباس بين الحقيقي والاصطناعي، كما بين المرأة الحية والتمثال لعرض الملابس، وبين الزهور أو الثمار الحية ونسختها الزخرفية، وبين الرتوش (أو التنقيح) الرقمي والرتوش بواسطة المكياج. وفي هذا السياق، ينبع ضيقنا أمام صور سلسلة "ماثلات" (2003) من حالة ارتياب، من شعور حدده الطبيب النفساني الألماني إرنست جينتش بمفهوم "الغرابة المقلِقة" الذي طوّره سيغموند فرويد لاحقاً وتبنّاه السورّياليون كجمالية لفنهم. فما تضعه الفنانة أمام أعيننا في هذه السلسلة يتعذّر الجزم بهويته، ويشكّل بالتالي خير شهادة على سذاجة تقليص التصوير الفوتوغرافي إلى مجرد استنساخ للواقع.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ولإحلال هذه الالتباسات داخل صورها وتفكيك واقع موضوعها، تستخدم بولان إمكانيات تقنية مختلفة، لدى التقاطها، كخيار البعد البؤري، الإنارة، التأطير، اعتماد الدقة أو الغبش، ثم لدى تظهيرها، كإشباعها بالضوء أو تظليلها أو التلاعب بالألوان وبتناقض النور والعتمة داخلها، وهو ما يعزز غربتها عن الواقع. وحين تعبر من التصوير بأفلام عادية (argentique) إلى التصوير الرقمي، يحصل التلاعب أيضاً بواسطة التقنيات الكثيرة التي يوفّرها الحاسوب وتطبيقاته، مما يقود إلى صور شفافة، ملساء، تتجلى فيها رؤى باهرة ذات دقة مرهفة. ففي سلسلة "سلال فاكهة" (2007)، تشبع الفنانة صورها بالألوان، شاحنةً سطح كل ثمرة ببريق شبه كهربائي. وفي سلسلة "باقات" (2008)، تمدّ الزهور بألق يفقدها واقعها النباتي ويدخلها إلى عالم الحلم. وفي سلسلة "طبيعة جامدة"، تحوّل التدرّجات والمسطّحات اللونية صورها إلى لوحات، وبالتالي فعل التصوير إلى رسم بالريشة.

لكن أكثر ما يفتننا في معرض بولان الحالي هو سلسلة "كل النجوم" (2016) التي نضّدت فيها صوراً التقطتها لعارضات أزياء بمقتطفات من مجلات الـ "كوميكس" المصوَّرة الأميركية. أعمال يبدو كل نموذج أنثوي فيها مجمّداً داخل طبقة زجاجية ذات لون رمادي أزرق، معزولاً، وفي الوقت نفسه، مندمجاً داخل حركة الألوان والأشكال التي تحيط به، كما لو أن أبطال (وبطلات) الشرائط المصوّرة يتسلّطون على أفكاره، والديكور الذي ينشطون فيه هو مشهد ذهني يشكلّ تجسيداً لحاله.

تفتننا أيضاً سلسلة "ملكات حديثات" (2020) التي لجأت الفنانة فيها أيضاً إلى عارضات أزياء يحضرن في وضعيات وثياب وتصميمات شعر مختلفة، وتبدو كل واحدة منهن وكأنها تؤدي عدة أدوار خرافية. إخراج يستحضر الملصقات الدعائية، كما يستحضر عالم السينما، خصوصاً وأن بولان تنضد هذه الصور بملصقات أفلام. وأكثر من مجرد بورتريهات جسدية أو سيكولوجية، نتلقى هذه الصور كنماذج بدائية عن جمال أنثوي معياري ومملّ. ومن خلالها، تتمكن الفنانة من توليد شعور بالتباس، يتراوح بين تشابه وفرادة، حضور وغياب، رغبة حية وطبيعة ميتة.

باختصار، تُدخِل فاليري بولان الاضطراب والبلبلة إلى نفوس المتأملين في فنها بترسيخها ثماره داخل واقع مألوف، وفي الوقت نفسه، غرائبي. وباستثمارها المبتكَر مختلف الإمكانيات التعبيرية والتقنية للتصوير الفوتوغرافي، تنجح في جعلنا نلقي على موضوعاتها الراهنة نظرة جديدة، نقدية، وفي إثارة خيالنا.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة