تشتعل ويلات الحروب في أماكن متفرقة من العالم ويتوالى الدمار والانفجارات وينتقل الجنود من بلد إلى ثان وربما من قارة لأخرى.
هؤلاء الجنود لا يتنقلون مدججين بالسلاح والعتاد فقط، بل محملين بأفكار وأحلام وخبرات تخص حياتهم الأولى قبل أن يتم دفعهم إلى أتون الحرب.
وتعد الحرب العالمية هي النموذج الأكثر شهرة في التاريخ الحديث لتأثير الحروب وانعكاساتها على البشر اجتماعياً وعسكرياً واقتصادياً.
من بين أعداد مهولة من البشر تم تجنيدهم خلال فترة الحرب العالمية الثانية وإرسالهم إلى دول في عالم آخر يختلف عن حياتهم الأصلية كان هناك أربعة شباب بولنديين احترفوا الفن في بلدهم الأم، لكن شاء القدر أن يتم تجنيدهم وإرسالهم إلى مصر، وتحديداً إلى مدينة الإسكندرية ليمضوا فيها فترة النصف الأول من حقبة الأربعينيات.
إلى جانب دورهم العسكري (الأساس) مارس هؤلاء الأربعة هوايتهم الأصلية وأبدعوا لوحات من وحي المدينة المطلة على شاطئ المتوسط، سنوات وانتهت الحرب ورحل الجنود وبقيت الأعمال في مصر منسية لعشرات السنوات.
أخيراً وفي حكاية مثيرة عثر مصادفة على لوحات الفنانين الأربعة، التي ظلت مخفية بقبو لمتحف سكندري شهير لعشرات السنوات ليتم إعادة إحيائها وعرضها للمرة الأولى مع حكايات الجنود في معرض يمثل تعاوناً بين وزارة الثقافة المصرية متمثلة في متحف الفنون الجميلة بالإسكندرية ووزارة الثقافة البولندية متمثلة في سفارة جمهورية بولندا لدى القاهرة.
فما الظروف التي جاءت بالأعمال إلى داخل متحف الإسكندرية؟ وما الأحداث التي صاحبت ذلك؟ من هم هؤلاء الجنود الفنانون في الأساس؟
مصادفة ورحلة بحث
الفنان التشكيلي ومدير متحف الفنون الجميلة بالإسكندرية علي سعيد قال "كانت البداية بالتواكب مع مشروع لتطوير المتحف ورفع كفاءته وتغيير سيناريو العرض المتحفي منذ سنوات، ووقتها تم العثور على هذه اللوحات مصادفة من دون معرفة تفاصيل كاملة عنها".
وأضاف سعيد لـ"اندبندنت عربية"، "بدأت رحلة البحث والتوثيق بين الجانبين المصري والبولندي ونتج عنها أن هذه اللوحات تخص أربعة فنانين كانوا مجندين بمصر خلال فترة الحرب العالمية الثانية، وهم يوزيف ياريما وييجي مودنيتسكي وإدوارد ماتوشتشاك ويوزيف زامورسكي".
وأشار إلى أنه "في فبراير (شباط) العام الماضي حضر البروفيسور يان ڤيكتور، وهو مؤرخ فن بولندي مهتم بتاريخ فناني بولندا بالمهجر إلى متحف الإسكندرية ليتحقق من نسب الأعمال وأصليتها، ثم بعدها حضرت المرممتان البولنديتان بمتحف وارسو الوطني دوروتا إجناتوفيتش ودوروتا نوفاك إلى متحف الإسكندرية لترميم الأعمال وإعادتها إلى رونقها، وهو ما تم بالفعل لتصبح اللوحات جاهزة للعرض ويفتتح المعرض أخيراً بعد 80 عاماً من فترة وجودهم في مصر وقت الحرب العالمية الثانية".
الطابع العام للوحات
رسم الفنانون هذه اللوحات في أوج اشتعال الحرب العالمية الثانية، فكيف جاءت وإلى أي مدرسة فنية تميل وعن ماذا حاول هؤلاء الفنانون (المجندون) التعبير من خلالها؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
قال سعيد "تحمل بعض اللوحات طابعاً توثيقياً لبعض أحياء الإسكندرية في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، وبرؤيتي الخاصة كفنان أراها أقرب إلى المدرسة التأثيرية من حيث استخدام الكتل اللونية وطريقة استخدام الفرشاة، ولا يتناول المعرض فقط اللوحات، لكنه يدعمها بقصة وتاريخ الفنانين وصورهم وتاريخ الحرب، وبمجموعة من الفعاليات، فهو يقدم للمتلقي قصة متكاملة من وحي الحدث تناسب الجمهور المصري الذي يمثل الجمهور الرئيس للمعرض".
وأضاف "حتى في أصعب الأوقات والظروف التي شهدها العالم مثل الحرب العالمية يكون هناك جانب خير أو جميل للعالم، وهذا ما يقدمه الفنانون بشكل عام في أعمالهم، فليس بالضرورة أن تنعكس الحرب بكل مفرداتها على أعمال الفنان".
ولفت إلى أن "الفنان قد يتأثر بطابع المكان الذي شاءت الظروف أن يوجد فيه، والذي قد يختلف عن حياته في بلده الذي عاش فيه وجاء منه، ففي مثل هذه الحالة نقل هؤلاء المجندون (الفنانون) مناظر طبيعية من الإسكندرية التي وجدوا فيها، وهناك من ضمن المعرض لوحة تم رسمها في فلسطين حيث وجد واحد من الفنانين في خلال رحلته فترة الحرب".
التواصل الثقافي
واحد من أهم أدوار الفنون هو أنها تشكل جسراً بين الشعوب للتلاقي والتواصل، خصوصاً في حال وجود شيء مشترك مثل حالة هؤلاء الفنانين البولنديين الذين أمضوا فترة بمصر.
وقال مدير متحف الفنون الجميلة "التواصل الثقافي هو من أهم التعاونات التي يمكن أن تحدث بين الدول، فهو يمس الشعوب بشكل مباشر، وكل دولة تكون متمسكة بأصولها وحضارتها وتاريخها، فالسياسة والاقتصاد هما أمور عابرة ومتغيرة".
وأضاف "فعلى سبيل المثال الحرب العالمية انتهت وفاز من فاز وخسر من خسر لكن الإبداعات الناتجة عنها هي الباقية، سواء في مجال الفنون التشكيلية أو الروايات أو أي شكل من أشكال الإبداع نتجت من وحي هذه الفترة".