Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الشاعر الروسي المنفي برودسكي يعود إلى دياره بمعجزة الفن

"غرفة ونصف الغرفة" فيلم خرجانوفسكي الذي استعاد سيرة المبدع وزيارته الوهمية إلى مدينة طفولته

متحف جوزف برودسكي في سانت بطرسبرغ (أ ف ب)

ملخص

اشتغال #خرجانوفسكي على أفلمة حياة #برودسكي يعد نموذجاً يحتذى لسينما ندر أن نالها التوفيق حين تدنو من الشعر

 

منذ رحل الشاعر الروسي جوزف برودسكي (1940 – 1996) عن عالمنا وقد بات خلال الجزء الأخير من حياته أميركياً إلى درجة أنه سمي عام 1991 "الشاعر الرسمي لأميركا"، وهو لقب لا يسبغ عادة إلا على غلاة الشعراء المندمجين كلياً في الحياة الأميركية، إذ منذ رحل هو الذي نال جائزة "نوبل" الأدبية بوصفه خامس روسي ينالها وقبل بها، كان ثمة حلم يداعب خيال المخرج الوثائقي الروسي أندريه خرجانوفسكي، وقد زالت الأسباب السياسية والأيديولوجية التي كانت طبعاً تحول دون ذلك بوصف برودسكي "منشقاً وملعوناً".

وكان الحلم في بداية الأمر بسيطاً ومشروعاً من الناحية الفنية ولا يمكن حتى لآل برودسكي أن يعترضوا عليه وفحواه طبعاً تحقيق فيلم وثائقي عن حياة الشاعر الذي ركز كل حياته على كتابة الشعر، هو الذي كانت الشاعرة آنا أخماتوفا قد اكتشفته باكراً وساعدته في لينينغراد على نشر أول أعماله الشعرية.

وهكذا بعد أن اتخذ السينمائي قراره وأمن تمويلاً للفيلم بدأ يجمع الشهادات والوثائق وكل ما هو مصور عن حياة برودسكي ليغرق في تلك المجموعات كما في مذكرات صاحب العلاقة أشهراً، كانت من الروعة والاندماج بحيث أنها بدلته تماماً وجعلته يأخذ لمشروعه مساراً آخر.

المشروع الذي تبدل

صحيح أن خرجانوفسكي لم يكن قد خاض في مساره المهني حتى ذلك الحين إلا عالم السينما الوثائقية، بل بدا إلى حد ما ميالاً إلى تصوير حياة المبدعين في متن يكاد يكون كلاسيكياً، لكنه ما إن بدأ يكتب الرؤية السينمائية لفيلمه الجديد حتى وجد نفسه ينساق إلى نوع مختلف تماماً، إلى سينما تنطلق من العالم الوثائقي ومما هو متوافر من مواد، إلى عالم يكاد يكون روائياً خالصاً، عالم مستقى من كتابات برودسكي وحكايات حياته الصغيرة، بل بشكل أكثر تحديداً من أشعاره التي عرف من خلالها بكونه "آخر سلسلة الشعراء الميتافيزيقيين" الممتدة من شاعره الأثير الإنجليزي جون دان إلى شاعر القرن الـ20 صديقه أودن.

وهكذا كتب المخرج الروسي المخضرم فيلمه، وتمكن من أن يبتكر له لغة سينمائية خاصة به وتستعصي على أي تقليد، وعنونه "غرفة ونصف الغرفة" على عنوان واحدة من قصائد برودسكي، ومهما يكن من أمر فإن للفيلم حبكة أطربت المتفرجين، لا سيما منهم محبي الشعر حين أنجز الفيلم خلال العامين التاليين ليعرض في 2008 ويعيد على الفور ليس فقط ذكر الشاعر وحكاية حياته  (المتخيلة في الفيلم على أية حال)، بل كذلك قدرة السينما على أن تتسم بأعلى درجات الشاعرية.

إلى مدينة طفولته

يدور الفيلم كما تمت صياغته في نهاية الأمر من حول رحلة وهمية يقوم بها الشاعر في واحدة من السنوات الأخيرة لحياته إلى مدينته، وقد عاد اسمها إلى قديمه سانت بطرسبورغ، وخلال تلك الرحلة يستعيد الشاعر بلغته وكذلك بمقتطفات من أشعاره حكايات صباه وعلاقاته الخاصة بالمدينة وبوالده والحياة التي عاشها طفلاً وصنعته، أي إن الفيلم يستعيد كل الصور التي لا شك أنها كانت تعشش في خيال برودسكي وأشعاره وأحاديثه وقد أفلت أعوامه.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

والحقيقة أن ثمة في كتابات برودسكي نفسه، لا سيما خلال المرحلة الآفلة من حياته ما يعبر عن هذه "العودة" كحلم كان كثيراً ما راود ذهن الشاعر الروسي المنشق وشغل لياليه، بحيث يمكننا القول إنه لم يكن غريباً أن "رحلة عودة" برودسكي هذه إلى دياره تشكل كل الفيلم، إذ اختار مخرجه أن يجعل من الرحلة المتخيلة سلسلة مشاهد ومواقف تعود زمنياً إلى الوراء لترسم ليس فقط حياة صاحب قصيدة "جون دان نام" الشهيرة، بل حياة والديه وموتهما، وحياة جزء من الساحة الثقافية في موسكو ولينينغراد خلال سنوات الـ76 من القرن الـ20.

رحلة ما بعد الموت

نحن هنا إذاً أمام عمل فني عن "منشق" من النوع الذي كان يشغل أعمدة الصحف وصفحات التعليقات في شكل وافر، يوم كان الانشقاق نفسه سلاحاً في الحرب الأيديولوجية الباردة بين "الشرق" و"الغرب". ونعرف اليوم أن هذا النوع من الاهتمام قد تضاءل، بل نكاد نقول إنه اختفى منذ اختفى الاتحاد السوفياتي، ليصبح مجرد جزء من الماضي، مجرد ذكريات يفضل أصحاب العلاقة أن ينسوها، ومن هنا حين تشاء صدفة ما أن يحقق فيلم كبير يطاول هذا الموضوع، من الصعب أن نتصور ان الغاية منه اليوم فتح ملفات أيديولوجية، أو حتى أن يكون جزءاً من استحضار ذكرى معينة لمناسبة تاريخية ما.

بشيء من حسن النية نقول إذاً، إننا أمام فيلم غايته الأولى سينمائية، وبشكل أكثر وضوحاً شاعرية، إذ إن هذا الفيلم الذي أتى في أقصى درجات الشاعرية التي يمكن للشاشة أن تتحملها، أتى في زمن يكثر فيه إنتاج أفلام السير الذاتية، وهو أمر سنرى أنه بالكاد ينطبق على حكاية برودسكي، الذي نعرف أنه رحل عن عالمنا قبل ترسخ تلك المتغيرات الجذرية في وطنه السوفياتي، الذي كان قد ظل على حنينه إليه وإلى لغته وهو في منفاه، وهذا طبعاً ما يشكل الموضوع الأساس لـ"غرفة ونصف الغرفة"، الذي بني أصلاً على شكل قصيدة متكاملة، واستخدم مخرجه فيه كثيراً من عناصر اللغة السينمائية في "كولاج" ينتمي حقاً إلى سينما ما بعد الحداثة، تيمناً بشعر برودسكي نفسه.

كل العناصر لخدمة الشاعر

"غرفة ونصف الغرفة" هو الفيلم "الروائي" الطويل الأول لمخرجه، مخرج التوثيق الروسي المخضرم خرجانوفسكي، الذي حين قرر وهو في الـ69 من عمره، أن ينتقل من سينما التوثيق وسينما التحريك، فضل أن يبقي على هاتين كجزء أساس من لغته السينمائية، ومن هنا نراه يستخدم المشاهد التمثيلية المصورة، ومشاهد التحريك والوثائق التاريخية المؤفلمة، والسرد الشعري ومشاهد الطبيعة الصامتة والريبورتاج الصحافي، ليصنع ساعتين سينمائيتين حالمتين تتابعان حياة برودسكي من قبل بدء تلك الحياة. منذ شباب والديه ولقائهما وعيشهما معاً، ثم إنجابه وتربيته حتى أيامه الأخيرة، وصولاً إلى ما بعد تلك الأيام، أي بعد موته حين يتخيل المخرج تلك "الرحلة" المدهشة التي يقوم بها الشاعر عائداً إلى مدينته بطرسبورغ (هو الذي أصلاً لم يبرحها أبداً في خياله تيمناً بقول سابقه في المنفى فلاديمير نابوكوف (صاحب "لوليتا" بين أعمال رائعة أخرى)، وقد أضحى أميركياً عجوزاً، وقد كتب أنه على رغم كل شيء فهو يعرف أنه حين يأتي مساء كل يوم يرحل بروحه وقلبه إلى روسيا الحبيبة محلقاً فيها.

الشيء نفسه يقوله الفيلم عن برودسكي الذي نراه وهو على سفينة العودة، عجوزاً مكللاً بمجد "نوبل" الأدبي، يعيش ماضيه، وفي شكل خاص ماضي أبيه الذي يبدو أنه كان الشخصية الأساسية المؤثرة في حياته، لكنه في الوقت نفسه يعيش مدينته وتحديداً من خلال كاميرا خرجانوفسكي المتمرسة في هذا النوع من التوثيق الساحر للمكان.

سينما شاعرية عن شاعر

فيلم "غرفة ونصف الغرفة" ينتمي إلى سينما شاعرية جديدة ومفاجئة تماماً تليق بأعمال جوزف برودسكي الشعرية وبحياته التي كادت تكون رتيبة من دون أحداث كبيرة، وكادت تتواصل في موسكو أو في لينينغراد، لولا أنه ورفاقه في الستينيات اكتشفوا الحرية من خلال فترة سماح خروتشفية (نسبة إلى الرئيس نيكيتا خروتشوف)، ناقد ستالين الأول ومحرر الأذهان في الخمسينيات الذي فتح آفاقاً سرعان ما أغلقها الحزبيون الجامدون من دون أن يعرفوا كيف يطفئون جذوتها لدى مبدعين من طينة برودسكي.

ومهما يكن هنا فإن الرحلة في الذاكرة العابرة للجغرافيا وللمنافي حتى وإن كانت رحلة خيالية من ألفها إلى يائها، فإنها تستمد عناصرها من الواقع الحقيقي وبالتحديد من خلال "زيارة" برودسكي لماضيه، ومن خلال أشعاره المرتبطة بذلك الماضي التي للوهلة الأولى تبدو من الشعر المكتوب من أجل الشعر نفسه، ولعل المقاطع المستمدة من واحدة من أكثر قصائد برودسكي شهرة وهي "جون دان نام"، المترجمة أصلاً إلى عديد من اللغات منذ وقت طويل سبق فوزه بجائزة "نوبل" الأدبية عام 1987، تشكل أفضل خلفية تفسر ميتافيزيقية المشروع وإطاره التجديدي بشكل لا لبس فيه، ما يجعل اشتغال خرجانوفسكي على أفلمة ما "وصلة" من حياة برودسكي نموذجاً يحتذى لسينما ندر أن نالها التوفيق حين تدنو من الشعر.

المزيد من ثقافة